Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 184-185)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } ؛ يعني شَهْرَ رمضانَ ثلاثينَ يوماً أو تسعةً وعشرين . قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " " نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَحْسِبُ وَلاَ نَكْتُبُ ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا " وعقدَ الإبْهامَ في الثالثة " وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا " إتْمام الثَّلاثين " . ونصبَ { أيَّاماً } على الظرفِ ؛ أيْ في أيامٍ ؛ وقيل : على خبرِ ما لم يسمَّ فاعله ؛ أيْ كتب عليكمُ الصيامَ أياماً . وقيل : بإضمار فعلٍ ؛ أي صُوموا أياماً . قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ؛ أي فافطرَ فعدةٌ كقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } [ البقرة : 196 ] تقديره : فحلقَ أو قصرَ ففديةٌ ؛ فاختصر وتقديره : فعليهِ عدةٌ . قراءةُ أبي عُبيد : ( فَعِدَّةً ) بالنصب ؛ أي فليصمْ عدةً . و ( أُخَرٍ ) في موضع خفضِ ؛ إلا أنَّها لا تنصرفُ ؛ لأنَّها معدولةٌ عن جهتها فكان حقُّها ( أُخْرَيَاتٍ ) فلما عدلَ إلى ( فُعَلٍ ) لم يجز مثل عُمَرٍ وزُفَرٍ . ومعنى الآيةِ : فليصُمْ عدةً من أيام أُخر غيرِ أيام مرضهِ أو سفرهِ . َقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ؛ قرأ ابنُ عباس وعائشةَ وعطاءُ وابن جبيرٍ وعكرمةُ ومجاهد ( يُطَوَّقُونَهُ ) بضمِّ الياء وفتح الطاء والواو والتشديد ؛ أي يُكَلَّفُونَهُ . ورُوي عن مجاهدٍ وعكرمة بفتحِ الياء وتشديد الطاء والواو ؛ أي يَطَّوَّقُونَهُ بمعنى يتكلَّفونه . وروي عن ابنِ عبَّاسٍ أيضاً أنه قرأ : ( يَطَّيَّقُونَهُ ) بفتحِ الياء وتشديد الطاء والياء الثانية وفتحها بمعنى يُطِيقُونَهُ . يقال : طَاقَ وأطَاقَ بمعنى واحدٍ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قرأ أهلُ المدينةِ والشام ( فِدْيَةُ طَعَامٍ ) مضافاً إلى ( مَسَاكِيْنِ ) جمعاً ؛ أضافَ الطعام إلى الفدية وإن كانا واحداً لاختلافِ اللفظين ، كقوله تعالى : { وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ } [ ق : 9 ] . وقولهم : مَسْجِدُ الْجَامِعِ ، وَرَبَيْعُ الأَوَّلِ . وقرأ ابنُ عبَّاس : ( طَعَامُ مِسْكِيْنٍ ) على الواحدِ ، وهي قراءة الباقين غيرَ نافعٍ ، فمن وحَّد فمعناه لكل يومٍ طعامُ مسكين واحد ، ومن جمعَ ردَّهُ إلى الجمعِ ؛ أي عليه إطعامُ مساكين فديةُ أيَّامٍ يُفطِرُ فيها . ومعنى الآية : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ } يطيقونَ الصومَ فلم يصوموا ( فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِيْنٍ ) وذلك أنه كان يرخصُ في الصومِ الأول لِمن يطيقُ الصومَ أن يُفْطِرَ ويتصدقَ مكان كلِّ يوم على مسكين ؛ ثم نُسِخَ بقوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] . قوله عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } ؛ قرأ يحيى بن وثَّاب وحمزة والكسائيُّ : ( يَطَّوَّعْ ) بالياء وتشديد الطاء وجزمِ العين على معنى يَتَطَوَّعُ . وقرأ الآخرون بالتاء وفتح العين وتخفيفِ الطاء على الفعلِ الماضي . ومعنى الآية : فمَن يتطوَّع خيراً ؛ أي زادَ على طعامِ مسكين واحدٍ فهو خيرٌ له ؛ { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ؛ من أن تُطعِموا وتَفطِروا ، { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ؛ ثوابُ الله في الصوم . واختلف العلماءُ في تأويل هذه الآية وحكمها ؛ فقال قوم : كان ذلك في أوَّلِ ما فرضَ اللهُ الصومَ ، وذلك أن اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا نزَّل فرضَ صيام شهر رمضانَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأمرََ أصحابهُ بذلك ، شقَّ عليهم الصوم ؛ وكانوا قوماً لَم يتعوَّدوا الصومَ ؛ فخيَّرهم اللهُ تعالى بين الصيامِ والإطعام ؛ فكان مَن شاءَ صامَ ، ومَن شاء أفطرَ وافتدَى بالطعام . ثم نُسِخَ ذلك بقوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ونزلت العزيْمةُ في إيجاب الصَّوم . وعلى هذا القولِ معاذُ بن جبل وأنسُ بن مالك وسلمةُ بن الأكوعِ وابنُ عمر وعلقمةُ وعكرمةُ والشعبي والزهري وإبراهيم والضحَّاكُ . وهي إحدى الروايات عن ابنِ عبَّاسٍ . وقال آخَرون : بل هذا خاصٌّ للشَّيخِ الكبير والعجوزةِ الكبيرةِ اللذين يُطِيقَانِ الصَّومَ ولكن يشقُّ عليهما ؛ رخصَ لَهما إنْ شاءا أفطرَا مع القدرة ويطعما لكلِّ يومٍ مسكيناً ؛ ثم نُسِخَ ذلك بقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وثَبَتَتِ الرخصةُ للذين لا يُطيقونَهُ . وهذا قولُ الربيعِ بن أنس وروايةُ سعيدِ بن جبير عن ابنِ عبَّاسٍ ، قال الحسنُ : ( هَذَا فِي الْمَرِيْضِ ، كَانَ إذَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَرَضِ وَكَانَ يَسْتَطِيْعُ الصِّيَامَ ، فَهُوَ بالْخِيَار إنْ شَاءَ صَامَ وَإنْ شَاءَ أفْطَرَ وَأطْعَمَ حَتَّى نُسِخَ ذَلِكَ ) . فعلى هذه الأقاويلِ : الآيةُ منسوخةٌ ؛ وهذا قولُ أكثرِ الفقهاء والمفسِّرين . وقال قومٌ : لَم تُنسخ هذه ولا شيءٌ منها ، وإنَّما تأويلُها : وعلى الذين يطيقونَهُ في حالِ شفائِهم وفي حال صحَّتهم وقوَّتِهم ، ثم عَجَزُوا عن الصَّومِ ؛ فديةٌ طعامُ مِسكينٍ ؛ وجعلوا هذه الآيةَ مُحْكَمَةً ؛ وهذا قولُ سعيدِ بن المسيَّب والسديُّ ؛ وإحدى الروايات عن ابنِ عبَّاسٍ : فجملةُ ما ذكَرنا من الأقاويلِ على قراءةِ مَن قرأ ( يُطِيْقُونَهُ ) من الإطاقةِ وهي القراءةُ الصحيحةُ التي عليها عامةُ أهلِ القُرْآنِ ومصاحفُ البُلدان . وأما على قراءةِ ( يَطَّّوَّقُونَهُ ) فيأوِّلُونَهُ أنه الشيخُ الكبير والعجوزةُ الكبيرة والمريضُ الذي لا يُرجى بَرَؤُهُ ؛ فَهُمْ مكلفونَ ولا يطيقونه ، فلهم أنْ يُفْطِرُوا ويطعموا مكان كلِّ يومٍ مسكيناً ؛ وقالوا : الآيةُ مُحْكَمَةٌ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي خيرٌ لكم مِن أن تُفطروا وتُطعموا . قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي إن كنتم تعلمونَ ثوابَ اللهِ تعالى في الصَّوم . ثُم بيَّن اللهُ تعالى أيامَ الصيامِ بقوله عَزَّ وَجَلَّ : { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } ؛ قرأ العامَّة ( شَهْرُ ) بالرفعِ على معنى أتَاكم شهرُ رَمضانَ . وقال الفرَّاءُ : ( ذَلِكْمُ شَهْرُ رَمَضَانَ ) . وَقِيْلَ : ابتداءٌ وما بعده خبرٌ . وقال الأخفشُ : ( هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ ) . وقال الكسائيُّ : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ ) . وقرأ الحسنُ ومجاهد : ( شَهْرَ رَمَضَانَ ) نُصب على معنى صُومُوا شهرَ رمضانَ . وقال الأخفشُ : ( نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ ؛ أيْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ شَهْرَ رَمَضَانَ ) . وَقِيْلَ : نُصِبَ على الإغراءِ ؛ أي التزمُوا شهرَ رمضان . وَقِيْلَ : نُصِبَ على البدلِ مِن قوله : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } . وسُمي الشَّهرُ شهراً لشُهرتهِ . واختلفوا في رمضانَ ؛ فقال بعضُهم : هو اسمٌ من أسماءِ الله ؛ فيقالُ : شهرُ رمضانَ كما يقال . شهرُ اللهِ ؛ ويدلُّ على ذلك ما رُوي عن أنسٍ قال : قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاَ تَقُولُواْ رَمَضَانَ ، انْسِبُوهُ كَمَا نَسَبَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ : شَهْرُ رَمَضَانَ " . قال أبو عُمر : ( وَإنَّمَا سُمِّيَ رَمَضَانَ لأَنَّهُ رَمَضَتْ فِيْهِ الْفِصَالُ مِنَ الْحَرِّ ) . وقيل : سُمي بذلك لأنه يرمضُ الذنوبَ ؛ أي يحرقُها . وَقِيْلَ : لأن القلوبَ تأخذُ فيه من حرارةِ الموعظة كما يأخذ الرملُ والحجارة من حرِّ الشمسِ . وقال الخليلُ : ( هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّمَضِ ؛ وَهُوَ مَطَرٌ يَأْتِي فِي الْخَرِيْفِ ؛ سُمِّيَ بهِ هَذَا الشَّهْرُ لأنَّهُ يَغْسِلُ الأَبْدَانَ مِنَ الآثَامِ غَسْلاً وَيُطَهِّرُ قُلُوبَهُمْ تَطْهِيْراً ) . قَوْلُهُ تَعَالَى : { ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } رُوي أن عطيةَ بن الأسودِ قال لابنِ عباسٍ : إنهُ قد وقع الشكُّ في قَوْلِهِ تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } وَقَوْلِهِ : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] و { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] وقد نزلَ في سائرِ الشُّهور قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] ؟ فَقَالَ : ( أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ نَزَلَ بهِ جِبْرِيْلُ عليه السلام عَلَى النَّبيِّ عليه السلام نُجُوماً عِشْرِيْنَ سَنَةً ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } [ الواقعة : 75 ] ) . وَقِيْلَ : كانَ ينْزلُ في كلِّ شهرٍ من شهرِ رمضان إلى سماءِ الدُّنيا ما كان ينْزلُ في تلك السَّنة ، فنَزل من اللوحِ الْمَحْفوظ في عشرينَ شهراً ، ونزلَ به جبريلُ في عشرين سنةً . وقال بعضُهم : كان ابتداءُ إنزالهِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في شهرِ رمضانَ ، فأُضيفَ إنزالُ الكلِّ إلى ذلك . وعن وَاثِلَةَ رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " أُنْزِلَتْ صُحُفُ إبْرَاهِيْمَ فِي ثَلاَثِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ فِي سِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَ الإنْجِيْلُ فِي ثَلاَثِ عَشْرَةَ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ فِي ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ . وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّابعَةِ وَالْعِشْرِيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ " وروي أن التوراةَ أُنزلت في اثنتي عشرةَ ليلةً خلت من رمضانَ ، والإنجيلَ في ثَمانِي عشرةَ من رمضانَ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُدًى لِّلنَّاسِ } ؛ أي أُنزل الفرقانُ هَادِياً للناس من الضَّلالةِ ، وانتصبَ { هُدًى } على القطع ؛ لأنَّ القرآن معرفةٌ وهدىً نكرةٌ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ } ؛ أي ودلالاتٍ واضحاتٍ من الْهُدى والفُرقان بين الحقِّ والباطل . وَقِيْلَ : معناهُ : بيِّناتٍ من الحلالِ والحرام ؛ والحدودِ والأحكامِ . وعن سعيدِ بن المسيب عن سلمانَ رضي الله عنه قال : " خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ ؛ فَقَالَ : [ يَا أيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ أظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيْمٌ ؛ شَهْرٌ مُبَارَكٌ ؛ شَهْرٌ فِيْهِ لَيْلَةُ الْقَدْر خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ، جَعَلَ اللهُ صِيَامَهُ فَرِيْضَةً ؛ وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعاً ، فَمَنْ تَقَرَّبَ بخِصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أدَّى فِيْهِ فَرِيْضَةً ، وَمَنْ أدَّى فِيْهِ فَرِيْضَةً كَانَ كَمَنْ أدَّى سَبْعِيْنَ فَرِيْضَةً فِيْمَنْ سِوَاهُ . وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ ، وَشَهْْرٌ يَزَادُ فِيْهِ رزْقُ الْمُؤْمِنِ ، وَشَهْرٌ أوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّار ، مَنْ فَطَّرَ فِيْهِ صَائِماً كَانَ مَغْفِرَةَ لِذُنُوبهِ وَعِتْقَ رَقَبَةٍ مِنَ النَّار وَكَانَ لَهُ مِثْلَ أجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أجْرِهِ شَيْئاً . قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، لَيْسَ كُلُّنَا يَجِدُ مَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ ؟ فَقَالَ : صلى الله عليه وسلم : " يُعطِي اللهُ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِماً عَلَى مُذْقَةِ لَبَنٍ أوْ تَمْرٍ أوْ بشَرْبَةِ مَاءٍ ، وَمَنْ أشْبَعَ فِيْهِ صَائِماً سَقَاهُ اللهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لاَ يَضْمَأُ بَعْدَهَا أبَداً حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ، وَكَانَ كَمَنْ أعْتَقَ رَقَبَةً ، وَمَنْ خَفَّفَ عَنْ مَمْلُوكِهِ فِيْهِ غَفَرَ اللهُ لَهُ فِيْهِ وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّار . فَاسْتَكْثِرُواْ فِيْهِ مِنْ أرْبَعِ خِصَالٍ ؛ خِصْلَتَانِ تُرْضُونَ بهِمَا رَبَّكُمْ ، وَخِصْلَتَانِ لاَ غِنَاءَ لَكُمْ عَنْهُمَا : فَأَمَّا اللَّتَانِ تُرْضَونَ بهِمَا رَبَّكُمْ : فَشَهَادَةُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، وَتَسْتَغْفِرُونَهُ . وَأَمَّا اللَّتَانِ لاَ غِنَاءَ لَكُمْ عَنْهُمَا : فَتَسْأَلُونَ اللهَ الْجَنَّةَ ، وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّار " " . وعن أبي سعيدٍ الخدري ؛ قال : قالَ : رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أبْوَابَ السَّمَاءِ وَأَبْوَابَ الْجَنَّةِ لَتُفْتَحُ أوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَلاَ تُغْلَقُ إلَى آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْهُ ، وَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي فِي لَيْلَةٍ مِنْهَا إلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ بكُلِّ سَجْدَةٍ ألْفَ حَسَنَةٍ وَسَبْعَمِائَةِ حَسَنَةٍ ، وَبَنَى لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ لَهُ سَبْعُونَ ألْفَ بَابٍ ، لِكُلِّ بَابٍ مِنْهَا مِصْرَاعَانِ مِنْ ذهَبٍ . فَإذا صَامَ أوَّلَ يَوْمٍ مِنْ شَهْرٍ رَمَضَانَ غَفَرَ اللهُ لَهُ كُلَّ ذَنْبٍ إلَى آخِر يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ، وَكَانَ كَفَّارَةً إلَى مِثْلِهِ ، وَلَهُ بكُلِّ يَوْمٍ يَصُومُهُ قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ لَهُ ألْفُ بَابٍ مِنْ ذَهَبٍ ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ مِنْ غُدُوِّهِ إلَى أنْ تُورَى بالْحِجَاب ، وَلَهُ بكُلِّ سَجْدَةٍ يَسْجُدُهَا مِنْ لَيْلٍ أوْ نَهَارٍ شَجْرَةً يَسِيْرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا " . وعن أنس رضي الله عنه قالَ : قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا كَانَ أوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، نَادَى الْجَلِيْلُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَعَظَمَتُهُ : يَا رضْوَانُ حَلِّي جَنَّتِي وَزَيِّنْهَا لِلصَّائِمِيْنَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلاَ تُغْلِقْهَا حَتَّى يَنْقَضِي شَهْرُهُمْ . ثُمَّ يُنَادِِي : يَا مَالِكُ أغْلِقْ أبْوَابَ جَهَنَّمَ عَنِ الصَّائِمِيْنَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمََّدٍ ، ثُمَّ لاَ تَفْتَحْهَا حَتَّى يَنْقَضِي شَهْرُهُمْ . ثُمَّ يُنَادِي : يَا جِبْرِيْلُ انْزِلْ إلَى الأَرْضِ فَغُلَّ مَرَدَةَ الشَّيَاطِيْنِ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لاَ يُفْسِدُواْ عَلَيْهِمْ صِيَامَهُمْ . وَللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ وَقْتِ الإفْطَار عِتْقاً يَعْتِقُهُمْ مِنَ النَّار عَبيْدٌ وَإمَاءٌ ، وَلَهُ فِي كُلِّ سَمَاءٍ مَلَكٌ طَرَفُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَقَوَائِمُهُ فِي تُخُومِ الأَرْض السَّابعَةِ ، لَهُ جَنَاحٌ بالْمَشْرِقِ وَجَنَاحٌ بالْمَغْرِب ، يُنَادِي : هَلْ مِنْ تَائِبٍ يُتَابُ عَلَيْهِ ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى سُؤْلَهُ ؟ وَلَوْ أُذِنَ اللهُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أنْ يَتَكَلَّمَا لَبَشَّرَتَا مَنْ صَامَ رَمَضَانَ الْجَنَّةِ " . وَقَالَ : صلى الله عليه وسلم : " نَوْمُ الصَّائِمِ عِبَادَةٌ ، وَصَمْتُهُ تَسْبيْحٌ ، وَعَمَلُهُ مُضَاعَفٌ " . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، قرأ العامةُ بجزمِ اللام . وقرأ الحسنُ والأعرج بكسر اللام ، وهي لامُ الأمرِ ، وحقُّها الكسرُ إذا انفردت ؛ كقَوْلِهِ تَعَالَى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } [ الطلاق : 7 ] ؛ وإذا وُصلت بشيء ففيه وجهانِ : الجزمُ والكسرُ ، وإنَّما الوصلُ بثلاثة أحرف ؛ بالفاءِ كقوله تعالى : { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ } [ قريش : 3 ] ، وبالواو كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ } [ الحج : 29 ] وبـ ( ثُمََّ ) كقوله تعالى : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } [ الحج : 29 ] . واختلفَ العلماءُ في معنى هذه الآيةِ : فقال بعضُهم : معناها : فمن شَهِدَ بالغاً عاقلاً مُقيماً صحيحاً مكلفاً فَلْيَصُمْهُ ، وبهِ قال أبو حنيفةَ وأصحابه . وقال قومٌ : معناه : فمن دخلَ عليه شهرُ رمضان وهو مقيمٌ في داره فَلْيَصُمِ الشهرَ كله غابَ بعده فسافرَ أو أقام فلم يبرح ، قاله السديُّ والنخعي . قال قتادةُ : ( إنَّ عَلِيّاً كَانَ يَقُولُ : إذَا أدْرَكَهُ رَمَضَانُ وَهُوَ مُقِيْمٌ ثُمَّ سَافَرَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ ) . قالوا : والمستحبُّ له أن لا يسافرَ إذا أدركه رمضان مقيماً إنْ أمكنه حتى ينقضيَ الشهرُ . وروي في ذلك عن إبراهيم بن طلحة : ( أنَّهُ جَاءَ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا يُسَلِّمُ عَلَيْهَا . فَقَالَتْ لَهُ : فَأَيْنَ تُرِيْدُ ؟ قَالَ : أُريْدُ الْعُمْرَةَ ، قَالَتْ : جَلَسْتَ حَتَى إذَا دَخَلَ عَلَيْكَ شَهْرُ رَمَضَانَ خَرَجْتَ فِيْهِ ؟ قَالَ : قَدْ خَرَجَ رَحْلِي ، قَالَتْ : اجْلِسْ حَتَّى إذَا أفْطَرْتَ فَاخْرُجْ ، فَلَوْ أدْرَكَنِي رَمَضَانُ وَأَنَا بَبعْضِ الطَّرِيْقِ لأَقَمْتُ لَهُ ) . وقال آخرونَ : معناهُ : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } أي ما شَهِدَ منه وكان حاضراً ؛ فإنْ سافرَ فله الإفطارُ إن شاءَ ، قالهُ ابنُ عبَّاس وعامَّة أهلِ التفسير ؛ وهو أصحُّ الأقاويل ؛ ويدل عليه ما روَى ابنُ عباس ؛ قال : [ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ صَائِماً فِي رَمََضَانَ حَتَّى إذَا كَانَ بالْكُدَيْدِ أفْطَرَهُ ] . وعن الشعبيِّ : ( أنه سافرَ في رمضان فأفطرَ عند باب الجسرِ ) . وعن أبي ميسرةَ : ( أنه خرجَ في رمضان حتى إذا بلغَ القنطرةَ دعا بماءٍ فشربَ ) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ؛ أي مَن كان مريضاً أو مسافراً فأفطرَ فعليه قضاءُ ما أفطرَ فيه . واختلفوا في المرضِ الذي أباحَ الله فيه الإفطار ؛ فقال قومٌ : هو كلُّ مرض يُسمَّى مرضاً . قال طريفُ بن تَمَّام : ( دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ سِيْرِيْنَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يَأكُلُ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَال : إنَّهُ وُجِعَتْ إصْبَعِي هَذِهِ ) . وقالَ آخرونَ : هو كلُّ مرضٍ كان الأغلبُ من أمرِ صاحبه بالصوم الزيادة في علتهِ زيادةً غير محتملة . وقال حسنُ وإبراهيم : ( إذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرِيْضُ أنْ يُصَلِّيَ الْفَرَائِضَ فَلَهُ أنْ يُفْطِرَ ) . والأصلُ فيه أنه إذا لَم يُمكنه الصوم وأجهدَه أفطرَ ، وإذا لم يجهده فهو بمعنى الصحيحِ الذي يطيقُ الصوم . وقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } واختلفوا في صيامِ المسافر ، فقال قومٌ : الإفطارُ في السفر عزيْمةٌ واجبة وليس برخصةٍ ، فمن صامَ في السَّفَر فعليهِ القضاءُ إذا أقام ؛ وهو قولُ أبي هريرةَ وابنِ عبَّاسٍ وعُروة بن الزبيرِ والضحاك ، وتَمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ مِنَ الْبرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " وعن عبدالرحمن بن عوف أنه قالَ : ( الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ ) . وقالَ آخرون : الإفطارُ في السفرِ رخصةٌ من الله عَزَّ وَجَلَّ ؛ والفرضُ الصومُ ، فمن صامَ ففرضه أدَّى ؛ ومن أفطرَ فبرخصةِ الله أخذ ، ولا قضاءَ على من صام إذا أقام . وهذا هو الصحيحُ ؛ وعليه عامة الفقهاء ؛ يدلُّ عليه ما روى جابرٌ قال : [ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ ، فَمِنَّا الْمُفْطِرُ وَمِنَّا الصَّائِمُ ؛ فَلَمْ يَكُنْ بَعْضُنَا يَعِيْبُ ببَعْضٍ ] . وعن حمزةَ بن عمرو أنه قال : " يَا رَسُولَ اللهِ ، إنِّي أجِدُ فِيَّ قُوَّةً عَلَى الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ ؟ قَالَ : " هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَمَنْ أخَذَهَا فَحَسَنٌ ، وَمَنْ أحَبَّ أنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ " " . فأمَّا قولهُ صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ مِنَ الْبرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " فإنَّ أصلَهُ ما روَى جابرٌ : " أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ برَجُلٍ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ يُرَشُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ ، فَقَالَ : " مَا بَالُ صَاحِبكُمْ هَذَا ؟ " قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هُوَ صَائِمٌ . فَقَالَ : " لَيْسَ مِنَ الْبرِّ أنْ تَصُومُواْ فِي السَّفَرِ ، فَعَلَيْكُمْ برُخْصَةِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا " " وكذلك تأويلُ قولهِ عليه السلام : " الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ ، كَالْفِطْرِ فِي الْحَضَرِ " يدلُّ عليه حديث مجاهد : ( عَنْ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ مَرَّ برَجُلٍ يُنْضَحُ عَلَيْهِ الْمَاءُ فِي وَجْهِهِ وَهُوَ صَائِمٌ ، فَقَالَ لَهُ : أفْطِرْ وَيْحَكَ ! فَإنِّي أرَاكَ إنْ مُتَّ عَلَى هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ ) . والذي يُؤَيِّدُ ما قُلناه ما روي عن عروة وسالِم : ( أنَّهُمَا كَانَا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيْزِ إذْ هُوَ أمِيْرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ ، فَتَذَاكَرُواْ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ ، فَقَالَ سَالِمٌ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَصُومُ فِي السَّفَرِ . وَقَالَ عُرْوَةُ : كَانَتْ عَائِشَةُ تَصُومُ فِي السَّفَرِ ، فَقَالَ سَالِمٌ : إنَّمَا أُحَدِّثُكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، فَقَالَ عُرْوَةُ : إنَّمَا أُحَدِّثُكَ عَنْ عَائِشَةَ ، فَارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُمَا ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيْزِ : اللَّهُمَّ عَفْواً إنْ كَانَ يُسْراً فَصُومُوا وَإنْ كَانَ عُسْراً فَأفْطِرُواْ ) . ثُم اخْتُلِفَ في المستحب ؛ فقال قومٌ : الصوم أفضلُ ؛ وهو قولُ معاذ بن جبل وأنس وإبراهيم ومجاهد ؛ وروي أن أنسَ بن مالكٍ أمرَ غُلاَمَهُ أوْ غُلاماً له بالصومِ في السفرِ ، فقيلَ له في هذه الآية . فقال : ( نَزَلَتْ وَنَحْنُ نَرْتَحِلُ يَوْمَئِذٍ جِيَاعاً وَنَنْزِلُ عَلَى غَيْرِِ شَبَعٍ ، فَمَنْ أفْطَرَ فَرُخْصَتُهُ ، وَمَنْ صَامَ فَالصَّوْمُ أفْضَلُ ) . وقال آخرون : المستحبُّ الإفطارُ لما روي عن جابر قال : " خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ ، فَصَامَ حَتَّى إذَا بَلَغَ كِرَاعَ الْغَمِيْمِ فَصَامَ النَّاسُ ، فَبَلَغَهُ أنَّ النَّاسَ قَدْ شُقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ ، فَدَعَا بقَدَحِ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ ، فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ وَصَامَ بَعْضُهُمْ ، فَبَلَغَهُ أنَّ نَاساً صَامواْ ، فَقَالَ : " أُوْلَئِكَ الْعُصَاةُ " " . وعن يعلَى بنِ يوسف ؛ قال : سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ ، فَقَالَ : ( أرَأيْتَ لَوْ تَصَدَّقْتَ عَلَى رَجُلٍ فَرَدَّهَا عَلَيْكَ ، ألَمْ تَغْضَبْ ؟ ) قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : ( فَإنَّهَا صَدَقَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى تَصَدَّقَ بهَا عَلَيْكُمْ ) . قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } ؛ أي حين رخَّصَ الإفطارَ للمريضِ والمسافر ؛ { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } ؛ أي تكليفَ الصوم في المرضِ والسفر . قرأ يزيدُ بن القعقاع : ( الْيُسَّرَ ) و ( الْعُسَّرَ ) مثقَّلين في جميعِ القُرْآنِ . وقرأ الباقون بالتخفيف ؛ وهو الاختيارُ وهما لغتان جيدتان . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ } ؛ قرأ أبو بكرٍ : بتشديدِ الميم . وقرأ الباقون بالتخفيفِ ، وهو الاختيارُ لقولهِ تعالى : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] . والواوُ في قوله : { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ } واوُ العطف ؛ واللامُ لام ( كي ) ، تقديرهُ : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } أي يريدُ لأن يسهِّل عليكم { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ } . وقال الزجَّاج : ( مَعْنَاهُ : فَعَلَ اللهُ ذلِكَ لِيُسَهِّلَ عَلَيْكُمْ ما أفْطَرْتُمْ فِي مَرَضِكُمْ وسَفَرِكُمْ ، إذَا بَرَأتُمْ وَأقَمْتُمْ فَقَضَيْتُمُوهَا ) . وَقِيْلَ : ومعنى { وَلتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } أي ولتتمِّمُوا مدةَ ما أفطرتم بالمرضِ والسفر . وَقِيْلَ : معناه عدةَ ثلاثين يوماً إذا غُمَّ عليكم هلالُ شوال . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } ؛ أي ولتعظِّموا اللهَ بقلوبكم وأفواهكم وأعمالكم على ما هداكُم لدينهِ وشريعتهِ . ووفَّقكم ورزقكم شهرَ رمضان ، وخصَّكم به دون سائر أهلِ الملل . ويقالُ : أرادَ بذلك التكبيرَ في صلاة عيدِ الفطر . وقال بعضهم : أراد به التكبيرَ ليلةَ الفطر ، قال ابنُ عباس : ( حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ إذا رَأوا هِلاَلَ شَوَّالَ أنْ يُكَبرُواْ ) . وروي عن سعيدِ بن المسيب وأبي سَلَمة وغيرهما : ( أنَّهُمْ كَانُواْ يُكَبرُونَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ يَجْهَرُونَ بالتَّكْبيْرِ ) . قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ؛ أي لكي تَشكُروا اللهَ على الرخصةِ ونعمةِ الهدَى .