Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 187-187)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ } ؛ قال المفسِّرونَ : كان الرجلُ في ابتداء الأمرِ إذا أفطرَ أُحِلَّ له الطعامُ والشراب والجماعَ إلى أن يصلَِّي العشاء الأخيرة أو ترَقَّدَ قبلَها ، فإذا صلَّى العشاء ورَقَدَ قبلَ الصلاة ولَم يُفطِرْ ، حَرُمَ عليهِ الطعامُ والشرابُ والجماعُ إلى مثلِها من القَابلَةِ . ثُم " إنَّ عُمَرَ رضي الله عنه وَاقَعَ أهْلَهُ بَعْدَمَا صَلَّى الْعِشَاءَ ؛ فَلَمَّا اغْتَسَلَ أخَذَ يَبْكِي وَيَلُومُ نَفْسَهُ ، ثُمَّ أتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ؛ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنِّي أعْتَذِرُ إلَيْكَ وَإلَى اللهِ مِنْ نَفْسِي هَذِهِ الْخَاطِئَةُ ، إنِّي رَاجَعْتُ أهْلِي بَعْدَمَا صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْعِشَاءِ الأخِيْرَةِ ؛ فَوَجَدْتُ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي فَجَامَعْتُ أهْلِي ، فَهَلْ لِي مِنْ رُخْصَةٍ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَا كُنْتَ جَدِيْراً بذَلِكَ يَا عُمَرُ ! " فَقَامَ رجَالٌ فَاعْتَرفُواْ بالَّذِي كَانُواْ صَنَعُواْ بَعْدَ الْعِشَاءِ " ، فَنَزَلَتْ فِي عُمَرَ وَأصْحَابهِ { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ } أيْ أُبيْحَ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ . قرأ ابنُ مسعود والأعمشُ : ( الرُّفُوثُ ) برفع الواو والفاء وبواو . والرفوثُ والرفثُ كنايةٌ عن الجِماع . قال ابنُ عباس : ( إنَّ اللهَ حَييٌّ كَرِيْمٌ ؛ فَكُلُّ مَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالْمُلاَمَسَةِ وَالإفْضَاءِ وَالدُّخُولِ ، فَإِنَّمَا يُرِيْدُ بهِ الْجِمَاعَ ) . قال الشاعرُ : @ فَضَلْنَا هُنَالِكَ فِي نِعْمَةٍ وَكُلِّ اللَّذَاذَةِ غَيْرُ الرَّفَثِ @@ وقال القُتَيبيُّ : ( الرَّفَثُ هُوَ الإفْصَاحُ عَمَّا تُحِبُّ أنْ يُكْنَى بهِ عَنْ ذِكْرِ النِّكَاحِ ؛ وَأصْلُهُ الْفُحْشُ وَالْقَوْلُ الْقَبيْحُ ) . وقال الزجَّاجُ : ( الرَّفَثُ كُلَّ كَلِمَةٍ جَامِعَةٍ لِكُلِّ مَا يُرِيْدُهُ الرِّجَالُ مِنَ النِّسَاءِ ) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } ؛ أي هن سَكَنٌ لكم وأنتم سَكَنٌ لَهن ؛ قالَهُ أكثرُ المفسِّرين . ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً } [ النبأ : 10 ] أي سَكَناً ، ودليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [ الأعراف : 189 ] . وقال أهلُ المعانِي : اللِّبَاسُ : الشِّعَارُ الذي يلي الجلدَ من الثياب ؛ فسمي كل واحدٍ من الزَّوجَين لِبَاساً ؛ لتجردُّهما عند النومِ واجتماعهما في ثوبٍ واحدٍ ؛ وانضمامِ جسدٍ كلِّ واحد منهما إلى جسد صاحبه ، حتى يصيرَ كلُّ واحد منهما لصاحبهِ كالثَّوب الذي يلبسهُ . وقال بعضُهم : يقال : لِمَا سترَ الشيءَ وواراهُ لباساً ، فجازَ أن يكون كلُّ واحد منهما لصاحبه سِتراً عما لا يحل ، كما روي في الخبر " مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ أحْرَزَ نِصْفَ دِيْنِهِ " . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } ؛ أي عَلِمَ اللهُ أنكم كنتم تَظْلِمُونَ أنفُسَكم بمعصيتكم وجِماعِكم بعد العشاءِ الأخيرة في ليالِي الصَّومِ فتجاوزَ عنكم ولَم يعاقِبْكم على ذلك وعفَا عنكم ذنُوبَكم . قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ } ؛ أي جامِعُوهن في ليالِي الصومِ فهو حلالٌ لكم . سُميت الْمُجَامَعَةُ مباشرةً ؛ لتلاصُقِ بَشَرَةِ كلِّ واحد منهما لصاحبهِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } ؛ أي واطلبُوا ما قضَى اللهُ لكم من الولدِ . قال مجاهدُ : ( إنْ لَمْ تَلِدْ هَذِهِ فَهَذِهِ ) . وقال ابنُ زيدٍ : ( ( وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) أيْ " مَا " أحَلَّ لَكُمْ مِنَ الْجِمَاعِ ) . وقرأ معاذُ بن جبل : ( وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ مِنَ الاتِّبَاعِ ) يعنِي ليلةَ القدر ، وكذلك روى أبو الجوزاء عن ابنِ عباس . وقرأ الأعمش : ( وَأتُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) أي افعَلوا . وأشبهُ الأقاويلِ فظاهرُ الآية في تأويلِ قوله : ( وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) قول من تَأَوَّلَهُ على الولد ؛ لأنه عقيب قوله ( فَبَاشِرُوهُنَّ ) وهو أمرٌ بإباحةِ الطلب وندبٌ كقوله صلى الله عليه وسلم : " تَنَاكَحُواْ تَكَثرَوُا ، فإنِّي أُبَاهِي بكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى بالسَّقَطِ " . وقال أهلُ الظاهر : هو أمرُ إيجابٍ وحَتْْمٍ يدلُّ عليه ما روى أنس بن مالك : " أنَّ امْرَأةً كَانَ يُقَالُ لَهَا الْخَوْلاَءُ عَطَّارَةُ أهْلِ الْمَدِيْنَةِ ، دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ؛ فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِيْنَ ، زَوْجِي فُلاَنٌ أَتَزَيُّنُ لَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ وَأتَطَيَّبُ كَأَنِّي عَرُوسٌ زُفَّتْ إلَيْهِ ، فَإذَا أوَى إلَى فِرَاشِهِ دَخَلْتُ فِي لِحَافِهِ ألْتَمِسُ بذَلِكَ رضَى اللهِ تَعَالَى ، فَحَوَّلَ وَجْهَهُ عَنِّي أرَاهُ قَدْ أبْغَضَنِي ؟ فَقَالَتْ : اجْلِسِي حَتَّى يَدْخُلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم . قَالَتْ : فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إذْ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " مَا هَذِهِ الرَّوَائِحُ الَّتِي أجِدُهَا ، هَلْ أتَتْكُمُ الْخَوْلاَءُ ؟ ابْتَعْتُمْ مِنْهَا شَيْئاً ؟ " قَالَتْ عَائِشَةُ : لاَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَقَصَّتْ عَلَيْهِ الْخَوْلاَءُ قِصَّتَهَا ، فَقَالَ لَهَا : " اذْهَبي وَاسْمَعِي لَهُ وَأَطِيْعِي " فَقَالَتْ : أفَعْلُ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَمَا لِي مِنَ الأَجْرِ ؟ قَالَ : " مَا مِنِ امْرَأةٍ رَفَعَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَضَعَتْهُ تُرِيْدُ الإحْسَانَ إلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهَا حَسَنَةً ، وَمَحَى عَنْهَا سَيِّئَةً ، وَرَفَعَ لَهَا دَرَجَةً . وَمَا مِنِ امْرَأةٍ حَمَلَتْ مِنْ زَوْجِهَا حِيْنَ تَحْمِلُ إلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهَا مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ الْقَائِمِ لَيْلَةَ الصِّيََامِ نَهَارَهُ وَالْغَازي فِي سَبيْلِ اللهِ . وَمَا مِن امْرَأةٍ يَأْتِيْهَا طَلْقٌ إلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهَا بكُلِّ طَلْقَةٍ عِتْقَ نَسْمَةٍ ؛ وَبكُلِّ رَضْعَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ . فَإذَا فَطَمَتْ وَلَدَهَا نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ : أيَّتُهَا الْمَرْأةُ قَدْ كُفِيْتِي بالْعَمَلِ فِيْمَا مَضَى ، فَاسْتَأْنِفِي الْعَمَلَ فِيْمَا بَقِيَ " " . قَالَتْ عَائشة : قَدْ أُعْطِيَ النِّسَاءُ خَيْراً كَثِيْراً ، فَمَا بَالُكُمْ يَا مَعْشَرَ الرِّجَالِ ؛ فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَا مِنْ رَجُلٍ أخَذَ بيَدِ امْرَأتِهِ يُرَاودُهَا إلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ حَسَنَةً ؛ وَإنْ عَانَقَهَا فَعَشْرُ حَسَنَاتٍ ؛ وَإنْ قَبَّلَهَا فَعُشْرُونَ حَسَنَةً ؛ وَإنْ أتَاهَا كَانَ خَيْراً مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا ، فَإذَا قَامَ لِيَغْتَسِلَ لَمْ يُمِرَّ الْمَاءَ عَلَى شَعْرَةٍ مِنْ جَسَدِهِ إلاَّ تُمْحَى عَنْهُ سَيِّئَةٌ وَيُعْطَى لَهُ دَرَجَةٌ ، وَيُعْطَى بغُسْلِهِ خَيْراً مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا ، وَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بهِ الْمَلاَئِكَةَ ، يَقُولُ : أُنْظُرُواْ إلَى عَبْدِي قَامَ فِي لَيْلَةٍ بَاردَةٍ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ ، يَتَيَقَّنُ بأَنِّي رَبُّهُ ، اشْهَدُواْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ " . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ } ؛ هذا أمرُ إباحةٍ مثل { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } [ المائدة : 2 ] وشبهه . نزلتْ في رجلٍ من الأنصار يسمى صِرْمةَ بن أنس هكذا قال الكلبيُّ . وقال معاذُ بن جبل : ( اسْمُهُ أبُو صِرْمَةَ ) . وقال عكرمةُ والسديُّ : ( اسْمُهُ أبُو أقْيَسَ بْنِ صِرْمَةَ ) . وقال مقاتلُ : ( صِرْمَةُ بْنُ إيَاسٍ ) . وكانت قصتهُ : " أنَّهُ ظَلَّ نَهَارَهُ يَعْمَلُ فِي أرْضٍ لَهُ وَهُوَ صَائِمٌ ، فَلَمَّا أمْسَى قَالَ لأَهْلِهِ : قَدِّمِي الطَّعَامَ ، فَأَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أنْ تُطْعِمَهُ شَيْئاً سُخْناً ، فَأَخَذَتْ تَعْمَلُ لَهُ سَخْنِيَّةً ، وَكَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ أوْ نَامَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ ، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنَ طَبْخِ طَعَامِهِ ؛ إذْ بهِ قَدْ نَامَ فَأَيْقَظَتْهُ فَكَرِهَ أنْ يَعْصِيَ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ ، فَأَبَى أنْ يَأْكُلَ فَأَصْبَحَ صَائِماً مَجْهُوداً ، فَلَمْ يَنْتَصِفِ النَّهَارُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا أفَاقَ أتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أجْهَدَهُ الصَّوْمُ ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ : [ يَا أبَا قَيْسٍ ، مَا لَكَ طَرِيْحاً ! ] قَالَ : ظَلَلْتُ أمْسَ فِي النَّخْلِ نَهَاري كُلَّهُ أجُرُّ بالْجَرِيْدِ حَتَّى أمْسَيْتُ . - وَفِي بَعْضِ النُسَخِ : أجُرُّ الْجَرِيْدَ - فَأَتَيْتُ أهلي ، فَأَرَادَتِ امْرَأتِي أنْ تُطْعِمَنِي شَيْئاً سُخْناً ، فَأَبْطَأَتْ عَلَيَّ فَنِمْتُ ، فَأَيْقَظُونِي وَقَدْ حَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ ؟ فَطَوَيْتُ فَأَصْبَحْتُ قَدْ أجْهَدَنِي الصَّوْمُ . فَاغْتَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ } " أي كلُوا في لَيالِي الصَّوْمِ واشربُوا فيها حتى يتبينَ لكم بياضُ النهار وضَوءَ يْهِ من سوادِ الليل وظلمتهِ ، كذا قال المفسِّرونَ . وَقِيْلَ : معناهُ حتى يتبينَ لكم الفجرُ الأولُ من الثانِي ، قال الشاعرُ : @ الْخَيْطُ الأَبْيََضُ قَبْلَ الصُّبْحِ مُنْصَدِعٌ وَالْخَيْطُ الأَسْوَدُ حِيْنَ اللَّيْلِ مَرْكُومُ @@ وعن عديِّ بن حاتَم قال : " عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ فَقَالَ : " صَلِّ كَذَا وَكَذَا ، وَصُمْ كَذَا وَكَذَا ، فَإذَا غَابَتِ الشَّمْسُ فَكُلْ وَاشْرَبْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الْخَيْطُ الأَبَيْضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ؛ وَصُمْ ثَلاَثِيْنَ يَوْماً إلاَّ أنْ تَرَى الْهِلاَلَ قَبْلَ ذَلِكَ " قَالَ : فَأَخَذْتُ خَيْطَيْنِ مِنْ حَرِيْرٍ أبْيَضَ وَأسْوَدَ ، وَكُنْتُ أنْظُرُ فِيْهِمَا فَلاَ يَتَبَيَّنُ لِي ، فَذَكَرْتُُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ، فَقَالَ : " يَا عَدِي ، إنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِِ " " . وقوله : { مِنَ ٱلْفَجْرِ } يعني المستطيرَ الذي ينتشرُ ويأخذ الأفقَ ؛ وهو الثانِي ؛ وهو الفجرُ الصادقُ الذي تحلُّ فيه الصَّلاةُ ؛ ويحرمُ فيه الطعامُ على الصِيَّام . وأما الفجرُ الأول ؛ وهو الذي يَسْتَطِعُ في السَّماءِ مستطيلاً كذنب السَّرْحَانِ ولا ينتشرُ ؛ فذلك من الليلِ لا تحلُّ الصلاةُ فيه ، ولا يحرمُ الطعام فيه على الصائمِ ؛ وهو الفجرُ الكاذب . وعن سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَمْنَعُكُمْ مِنَ السُّحُور أذانُ بلاَلٍ ، وَلاَ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيْلُ ؛ وَلَكِنِ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيْرُ فِي الأُفُقِ " . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ } ؛ قال عبدُالله بنُ أبي أوفَى : " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيْرٍ وَهُوَ صَائِمٌ ؛ فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ لِرَجُلٍ : " انْزِلْ فَأَخْرِجْ لِي مَاءً ؟ " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، لَوْ أمْسَيْتَ ؟ قَالَ : " انْزِلْ فَأَخْرِجْ لِي مَاءً " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنَّ عَلَيْنَا نَهَاراً ؟ فَقَالَ لَهُ الثَّالِثَةَ ؛ فَنَزَلَ فَخَرَجَ لَهُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا ، فَقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ " . وفي بعضِ الألفاظ : " أكَلَ أوْ لَمْ يَأْكُلْ " " . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ } ؛ أصلُ العكوفِ والاعتكافِ الْمُلاَزَمَةُ والاقامةُ ؛ يقال : عَكَفَ بالمكان إذا أقامَ به ، قال اللهُ تعالى : { فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ } [ الأعراف : 138 ] أي يقيمون . قال الفرزدقُ يصف القُدورَ : @ تَرَى حَوْلَهُنَّ الْمُعْتَفِيْنَ كَأَنَّهُمْ عَلَى صَنَمٍ فِي الْجَاهِليَّةِ عُكَّفُ @@ والاعتكافُ : هو حبسُ النَّفْسِ في المسجدِ على عبادةِ الله تعالى . واختلفَ العلماءُ في معنى المباشرةِ التي نَهى المعتكفَ عنها ؛ فقال قومٌ : هي المجامعةُ خاصةً ؛ معناه : ولا تُجامعوهنَّ وأنتم معتكفينَ في المساجدِ ؛ قالهُ ابنُ عباسٍ وعطاء والضحاكُ والربيع . وقال قتادةُ ومقاتل والكلبيُّ : ( نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُواْ يَعْتَكِفُونَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَإذَا أعْرَضَتْ بالرَّجُلِ مِنْهُمْ حَاجَةٌ إلَى أهْلِهِ خَرَجَ إلَيْهَا ، فَجَامَعَهَا ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَرْجِعُ إلَى الْمَسْجِدِ ، فنُهُوا أنْ يُجَامِعُواْ نِسَاءَهُمْ لَيْلاً وَنَهَاراً حَتَّى يَفْرَغُواْ مِنَ اعْتِكَافِهِمْ ) . وقال ابنُ زيد : ( الْمُبَاشَرَةُ : الْجِمَاعُ وَاللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ وَأَنْوَاعُ التَّلَذُّذِ ) . والجماعُ مفسدٌ للاعتكاف بالإجماعِ . وأما الْمباشرةُ غير الجماع فعلى ضَربين : ضربٌ يقصد به التلذُّذُ بالمرأةِ فهو مكروهٌ ولا يفسدُ الاعتكافَ عند أكثرِ الفقهاء ؛ وقال مالك : ( يُفْسِدُهُ ) . والضربُ الثانِي : ما لا يقصد به التلذُّذ بالمرأةِ ؛ فهو مباحٌ كما جاءَ في خبرِ عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا " أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدْخِلُ إلَيْهَا رَأْسَهُ فَتُرَجِّلُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ " قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنِ اعْتَكَفَ عَشْراً فِي رَمَضَانَ كَانَ بحَجَّتَيْنِ وَعُمْرَتَيْنِ " . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } ؛ أي الْمُجَامَعَةُ في الاعتكافِ معصيةٌ : وَقِيْلَ : جميعُ ما في هذه الآية إلى آخرِها أحكامُ اللهِ ، { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } ؛ يعني المباشِرَ في الاعتكافِ . وَقِيْلَ : أحكامُ اللهِ لاَ تقرَبُوها بالخلافِ ، { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ } ، لكم هذه الأحكامَ ؛ أي فهكذا يبيِّن للناسِ سائرَ أدلَّتهِ على دِينهِ وشرائعه ، وَقِيْلَ : سائرَ أوامره ونواهيهِ لكي تتَّقوا معاصيهِ . و ( حُدُودُ اللهِ ) قال السديُّ : ( شُرُوطُ اللهِ ) وقال شهرُ بن حوشب : ( فَرَائِضُ اللهِ ) . وقال الضحَّاكُ : ( مَعْصِيَةُ اللهِ ) . وأصلُ الحد في اللغة : المنعُ ، وقيل منه للبوَّاب : حدادٌ . وقال الخليلُ بن أحمد : الْحَدُّ : الْجَامِعُ الْمَانِعُ ، وَمِنْهُ حُدُودُ الدَّار وَالأَرْضِ ؛ وَهِيَ مَا تَمْنَعُ غَيْرَهَا أنْ يُدْخِلَ فِيْهَا غَيْرَهَا . وسُمي الحديدُ حديداً لأنه يُمْتَنَعُ به مِن الأعداءِ . ويقالُ : حَدَّتِ المرأةُ وأحَدَّتْ إذا منعتْ نفسَها من الزينةِ . فحدودُ الله هي ما منعَ اللهُ منها أو منعَ من مخالفتها والتعدِّي إلى غيرها . قَوْلُهُ تَعََالَى : { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } أي فلا تأتُوها ، يقالُ : قَرُبْتُ من الشيء أقْرَبُهُ ، وَقربته وقرُبت منه بضمِّ الراءِ ؛ إذا دَنَوْتَ منه . وقَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ } أي هكذا يُبَيِّنُ الله ؛ { ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ؛ لكي تتَّقوها وتنجُوا من سخط الله والعذاب .