Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 103-103)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } الآية . قال مقاتلُ : ( كَانَ بَيْنَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقِتَالٌ ؛ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِيْنَةِ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ، فَافْتَخَرَ بَعْدَ ذلِكَ رَجُلاَنِ : ثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمٍ الأَوْسِيُّ ؛ وَسَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ الْخَزْرَجِيُّ ، فَقَالَ الأَوْسِيُّ : مِنَّا خُزَيْمَةُ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ ؛ وَمِنَّا حَنْظَلَةُ غَسَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ ؛ وَمِنَّا عَاصِمُ بْنُ ثَابتٍ حَمَى الدِّيْنَ ؛ وَمِنَّا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الَّذِي اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِهِ وَرَضِيَ بحُكْمِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ . وَقَالَ الْخَزْرَجِيُّ : مِنَّا أرْبَعَةٌ أحْكَمُواْ الْقُرْآنَ : أبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ؛ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ؛ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ؛ وَأَبُو زَيْدٍ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ خَطِيْبُ الأَنْصَارِ وَرَئِيْسُهُمْ . فَجَرَى الْحَدِيْثُ بَيْنَهُمْ ؛ فَغَضِبُواْ ، فَقَالَ الْخَزْرَجُ : أمَا وَاللهِ لَوْ تَأَخَّرَ الإسْلاَمُ قَلِيْلاً وَقُدُومُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لَقَتَلْنَا سَادَتَكُمْ وَاسْتَعْبَدْنَا أبْنَاءَكُمْ وَنَكَحْنَا نِسَاءَكمْ بغَيْرِ مَهْرٍ ، فَقَالَ الأَوْسُ : قَدْ كَانَ وَاللهِ الإسْلاَمُ مُتَأَخِّراً كَثِيْراً ، فَهَلاَّ فَعَلْتُمْ ذلِكَ حِيْنَ ضَرَبْنَاكُمْ حَتَّى أدْخَلْنَاكُمُ الْبُيُوتَ ، وَتَكَاثَرَا وَتَشَاتَمَا ثُمَّ تَبَادَءا وَاقْتَتَلاَ حَتَّى اجْتَمَعَ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَمَعَهُمُ السِّلاَحُ ، فَبَلَغَ ذلِكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فِي أُناسٍ مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ وَقَدْ نَهَضَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ . قَالَ جَابرُ : فَمَا كَانَ طَالِعٌ يَوْمَئِذٍ أكْرَمَ عَلَيْنَا مَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَوْمَأَ إلَيْنَا فَكَفَفْنَا فَوَقَفَ بَيْنَنَا ، فَقَرأَ : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ * وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 102 - 103 ] إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 105 ] فَأَلْقَى الْفَرِيْقَانِ السِّلاَحَ وَأَطْفَأُوا الْحَرْبَ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الأَرْضِ شَخْصٌ أحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ ، وَمَشَى بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ يَأَمُرُونَ بالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعضاً يَبْكُونَ ، فَمَا رَأَيْتُ بَاكِياً أكْثَرَ مِنْ يَوْمَئِذٍ ) . قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِحَبْلِ ٱللَّهِ } أي تَمسَّكوا بدينِ الله ، وقيلَ : بالْجَمَاعَةِ . وقال مجاهدُ وعطاءُ : ( بعَهْدِ اللهِ ) . وقال قتادةُ والسديُّ والضحَّاك : ( مَعْنَاهُ : وَاعْتَصِمُواْ بالْقُرْآنِ ) . وقَالَ عليٌّ رضي الله عنه : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " كِتَابُ اللهِ هُوَ الْحَبْلُ الْمَتِيْنُ ؛ وَالذِّكْرُ الْحَكِيْمُ ؛ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ " وقال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ هَذا الْقُرْآنَ هُوَ حَبلُ اللهِ الْمَتِيْنُ ؛ وَهُوَ النُّورُ الْمُبيْنُ ؛ وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ ؛ وَعِصْمَةُ مَنْ تَمَسَّكَ بهِ ؛ وَنَجَاةُ مَنْ تَبعَهُ " وقال مقاتلُ : ( مَعْنَى الآيَةِ : وَاعْتَصِمُواْ بأمرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ ) . وقال أبو العاليَة : ( بإخْلاَصِ التَّوْحِيْدِ للهِ ) . وقال ابنُ زيد : ( بالإسْلاَمِ ) . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } أي تَنَاصَرُوا في دينِ الله ولا تَتَفَرَّقُواْ فيه كما تَفَرَّقَتِ اليهودُ والنصارى . قالَ صلى الله عليه وسلم : " " إنَّ بَنِي إسْرَائِيْلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِيْنَ فِرْقَةً ، فَإنَّ أُمَّتِي سَتَتَفَرَّقُ عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِيْنَ فِرْقَةً ، كُلُّهَا فِي النَّار إلاَّ فَرْقَةً وَاحِدَةً " فَقِيْلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ وَمَا هَذِهِ الْفِرْقَةُ الْوَاحِدَةُ ؟ فَقَبَضَ يَدَهُ وَقَالَ : " الْجَمَاعَةُ " ثُمَّ قَرَأ : وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ " وقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ تَعَالَى رَضِيَ لَكُمْ ثَلاَثاً وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثاً : أنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُواْ بهِ شَيْئاً ، وَأَنْ تَعْتَصِمُواْ بحَبْلِ اللهِ جَمِيْعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ؛ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُوا لِمَنْ وَلاَّهُ اللهُ أمْرَكُمْ . وَكَرِهَ لَكُمْ قِيْلَ وَقَالَ ؛ وإضَاعَةَ المَالِ ؛ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ " . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي احفظُوا مِنَّةَ اللهِ عليكم إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً في الجاهليَّة ، يَقْتُلُ بعضُكم بعضاً ، فجمعَ اللهُ بين قلوبكم بالإسلام الْمُحَرِّمِ للأنفسِ والأموالِ إلاَّ بحَقِّهَا ، فَصِرْتُمْ بنعمةِ اللهِ إخْوَاناً في الدِّينِ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ اسْحَاقَ : ( كَانَ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أخَوَيْنِ لأَبٍ وَأمٍّ ، فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ بسَبَب سَمِيْرٍ وَحَاطِبٍ ، وَذَلِكَ أنَّ سَمِيْرَ بْنَ زَيْدٍ أحَدَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَتَلَ خَلِيْطاً لِمَالِكِ بْنِ الْعَجْلاَنِ الْخَزْرَجِيِّ يُقَالُ لَهُ حَاطِبُ بْنُ الْحَرْثِ ؛ فَوَقَعَ الْحَرْبُ بَيْنَ الْقَبيْلَتَيْنِ ؛ فَتَطَاوَلَتْ بَيْنَهُمْ تِلْكَ الْعَدَاوَةُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً ، وَلَمْ يُسْمَعْ بقَوْمٍ كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَوَاةِ وَالْحَرْب مِثْلَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ . واتَّصَلَتْ تِلْكَ الْعَدَاوَةُ إلَى أنْ أطْفَأَ اللهُ ذلِكَ بالإسْلاَمِ ، وَألَّفَ بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بُعِثَ وَظَهَرَ بمَكَّةَ آمَنَ بهِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَهُمْ بالْمَدِيْنَةِ ، فَلَمَّا هَاجَرَ إلَيْهِمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَعَتِ الأُلْفَةُ بَيْنَهُمْ وَزَالَتِ العَدَاوَةُ مِنْ قُلُوبهِمْ وَقَدْ كَادُوا يَتَفَانَوْنَ ، وَقَدْ كَان سَبَبُ ألْفَتِهِمْ مَا رُويَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خََرَجَ بالْمَوْسِمِ وَهُوَ بمَكَّةَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَب ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَنْدَ الْعَقَبَةِ إذْ لَقِيَ رَهْطاً مِنَ الْخَزْرَجِ أرَادَ اللهُ بهِمْ خَيْراً ؛ وَهُمْ سِتَّةُ نَفَرٍ : أسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ؛ وَعَوْفُ بْنُ عَفْرَاءَ ؛ وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ ؛ وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ؛ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ؛ وَجَابرُ بْنُ عَبْدِاللهِ ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أنْتُمْ ؟ " فَقَالُواْ : نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ ، فَقَالَ : " أفَلاَ تَجْلِسُونَ حَتَّى أُكَلِّمَكُمْ ؟ " قَالُواْ : بَلَى ؛ فَجَلَسُواْ ؛ فَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الإسْلاَمَ وَتَلاَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ . وَكَانَ مَعَهُمْ بالْمَدِيْنَةِ يَهُودٌ أهْلُ كِتَاب ذكَرُواْ لَهُمْ أنَّ نَبيّاً مَبْعُوثاً قَدْ دَنَا زَمَانُهُ ، فَلَمَّا كَلَّمَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : هَذا وَاللهِ النَّبيُّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْيَهُودُ ؛ فَلاَ يَسبقَنَّكُمْ إلَيْهِ أحَدٌ ، فَأَجَابُوهُ وَصَدَّقُوهُ وأَسْلَمُواْ ؛ وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّ مَعَنَا قَوْماً بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَوَاةِ وَالشَّرِّ مَا بَيْنَهُمْ ، وَعَسَى اللهُ أنْ يَجْمَعَ كَلِمَتَهُمْ بكَ ؛ فَأَقْدِمْ إلَيْهِمْ وَادْعُوهُمْ إلَى أمْرِكَ ، فَإنْ يَجْمَعُهُمُ اللهُ عَلَيْكَ فَلاَ رَجُلَ أعَزُّ مِنْكَ ، ثُمَّ انْصَرَفُواْ رَاجِعِيْنَ إلَى بلاَدِهِمْ وَقَدْ أسْلَمُواْ ، فَلَمَّا وَصَلُواْ الْمَدِيْنَةَ ذكَرُواْ لَهُمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَوْهُمْ إلَى الإسْلاَمِ حَتَّى فَشَا فِيْهِمْ ؛ فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُور الأَنْصَار إلاَّ فِيْهَا ذِكْرٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم . حَتَّى إذا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبلُ وَافَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَوْسِمِ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً : أسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ؛ وَعَوْفُ وَمُعَاذُ ابْنَا عَفْرَاءَ ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ؛ وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ؛ وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ ؛ وَذكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ ؛ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ؛ وَيَزِيْدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ ؛ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَهَؤُلاَءِ الْخَزْرَجِيُّونَ ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ ، وَعُوَيْمُ اْبْنُ سَاعِدَةَ مِنَ الأَوْسِ . فَاجْتَمَعُواْ برَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالْعَقَبَةِ الأُوْلَى ؛ فَبَايَعُوهُ عَلَى أنْ لاَ يُشْرِكُواْ باللهِ شَيْئاً ، " قال : " فَإنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنَّةَ . وَكَانَ ذلِكَ قَبْلَ أنْ يُفْرَضَ الْجِهَادُ ، فَلَمَّا رَجَعُواْ إلَى الْمَدِيْنَةِ بَعَثَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرِ ابْنِ هَاشِمٍ ، وََأَمَرَهُ أنْ يُقْرِءَهُمُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمَهُمُ الإسْلاَمَ وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّيْنِ . فَكَانَ مُصْعَبُ يُسَمَّى فِي الْمَدِيْنَةِ ( الْمُقْرِئُ ) وَكَانَ نُزُولُهُ فِي بَيْتِ أسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ : انْطَلِقْ بنَا إلَى هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذيْنِ قَدْ أتَيَا دَارَنَا فَسَفَّهَا ضُعَفَاءَنَا وَأَخْرِجُوهُمْ ؛ فإنَّ أسْعَدَ ابْنَ خَالَتِي وَلَوْلاَ ذلِكَ لَكَفَيْتُكَ ، وَكَانَ سَعْدُ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ سَيِّدَا قَوْمِهِمَا مِنْ بني عَبْدِ الأَشْهَلِ وَكِلاَهُمَا مُشْرِكَانِ . فَأَخَذَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ حَرْبَتَهُ وَأَقْبَلَ إلَى أسْعَدَ وَمُصْعَبَ وَهُمَا جَالِسَانِ فِي حَائِطٍ ، فَلَمَّا رَأَى أسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ قَالَ لِمُصْعَبٍ : هَذا سَيِّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَكَ فَاصْدُقِ اللهَ فِيْهِ ، قَالَ مُصْعَبُ : إنْ يَجْلِسْ أُكَلِّمْهُ . فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمَا أُسَيْدُ شَتَمَهُمَا وَقَالَ : مَا جَاءَ بكُمَا تُسَفِّهَانِ ضُعَفَاءَنَا ؟ اعْتَزِلاَ إنْ كَانَ لَكُمَا فِي السَّلاَمَةِ حَاجَةٌ ، قَالَ مُصْعَبُ : إجْلِسْ وَاسْمَعْ ؛ فإنْ رَضِيْتَ أمْراً قَبلْتَهُ ؛ وَإنْ كَرِهْتَهُ كَفَفْنَا عَنْكَ مَا تَكْرَهُهُ ، قَالَ : أنْصَفْتَ ، ثُمَّ رَكَزَ حَرْبَتَهُ وَجَلَسَ عِنْدَهُمَا فكَلَّمَهُ مُصْعَبُ بالإسْلاَمِ ، وَقَرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ ، قَالاَ : فَوَاللهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الإسْلاَمَ قَبْلَ أنْ يَتَكَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : مَا أحْسَنَ هَذا وَأجَلَّهُ ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إذا أرَدْتُمْ أنْ تَدْخُلُواْ فِي هَذا الدِّيْنِ ؟ قَالاَ : اغْتَسِلْ وَطَهِّرْ ثَوْبَكَ ثُمَّ اشْهَدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ ( لاَ إلََهَ إلاَّ اللهُ مُحَمَّدُ رَسُولُ اللهِ ) ثُمَّ تُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ . فَقَامَ وَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثوْبَهُ وَقَالَ : أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ . ثُمَّ قَال : إنَّ وَرَائِي رَجُلاً إنِ اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفَ أحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ - يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ - وَسأُرْسِلُهُ إلَيْكُمَا ، ثُمَّ أخَذ حَرْبَتَهُ وَانْصَرَفَ إلَى سَعْدٍ وَقَوْمِهِ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيْهِمْ ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ سَعْدٌ مُقْبلاً ؛ قَالَ : أحْلِفُ باللهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدُ بغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذهَبَ مِنْ عِنْدِكُمْ ، فَلَمَّا وصَلََ إلَى عِنْدِهِمْ ، قَالَ لَهُ سَعْدُ : مَا فَعَلْتَ ؟ ! قَالَ : كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ ؛ فَوَاللهِ مَا رَأْيْتُ بهِمَا بَأْساً وَقَدْ نَهَيْتُهُمَا فَقَالاَ : نَفْعَلُ ، وَحُدِّثْتُ أنَّ بَنِي حَارثَةَ خَرَجُواْ إلَى أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ لَمَّا عَرَفُواْ أنَّهُ ابْنُ خَالَتِكَ لِيُحَقِّرُوكَ . فَقَامَ سَعْدٌ مُغْضِباً مُبَادِراً لِلَّذِي ذكَرَهُ فَأَخَذ الْحَرْبَةَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ : وَاللهِ مَا رَأَيْتُكَ أغْنَيْتَ شَيْئاً ؛ وَمَضَى إلَيْهِمَا ؛ فَلَمَّا رَآهُمَا مُطْمَئِنَّيْنِ عَرَفَ أنَّ أُسَيْداً مَا فَعَلَ ذلِكَ إلاَّ لِيَسْتَمِعَ مِنْهُمَا ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَبَسِّماً ، ثُمَّ قَالَ لأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ : يَا أبَا أمَامَةَ ؛ لَوْلاَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ مَا رُمْتَ هَذا مِنِّي تَغَشَّانَا فِي دِيَارنَا بمَا نَكْرَهُ ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبُ : أقْعُدْ وَاسْمَعْ ؛ فَإنْ رَضِيْتَ أمْراً وَرَغِبْتَ فِيْهِ قَبلْتَهُ ، وَإنْ كَرِهْتَهُ عَدَلْنَا عَنْكَ مَا تَكْرَهُهُ ، فَرَكَزَ حَرْبَتَهُ وَجَلَسَ ؛ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الإسْلاَمَ ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ ، قَالَ : فَعَرَفْنَا وَاللهِ فِي وَجْهِهِ الإسِلاَمَ قَبْلَ أنْ يَتَكَلَّمَ بهِ ، ثُمَّ قَالَ : كَيْفَ تَصْنَعُونَ إذا أسْلَمْتُمْ ؟ قَالُوا : تَغْتَسِلُ ؛ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَكَ ؛ وَتَشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ؛ وتُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، فَقَامَ وَاغْتَسَلَ وَغَسَلَ ثَوْبَهُ وَشَهِدَ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ . ثُمَّ أَخََذ حَرْبَتَهُ وَمَضَى إلَى نَادِي قَوْمِهِ وَمَعَهُ أسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ الأَوْسِيُّ ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ ؛ قَالَ : يَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ ؛ كَيْفَ تَعْلَمُونَ أمْرِي فِيْكُمْ ؟ قَالُوا : سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا رَأْياً ، قَالَ : فَإنَّ كَلاَمَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُواْ باللهِ وَرَسُولِهِ . قَالَ : فَمَا أمْسَى فِي دَار بَنِي الأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ إلاَّ مُسْلِماً وَمُسْلِمَةً ، وَرَجَعَ أسْعَدُ وَمُصْعَبُ إلَى مَنْزِلِ أسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ فَأَقَامَا عِنْدَهُ يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى الإسلاَمِ ، فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنَ الأَنْصَارِ إلاَّ وَفِيْهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ . ثُمَّ إنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ وَخَرَجَ مَعَهُ مِنَ الأَنْصَار مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ سَبْعُونَ رَجُلاً مِنْ حُجَّاجِ قَوْمِهِمْ مِنْ أهْلِ الشِّرْكِ حَتَّى قَدِمُواْ مَكَّةَ ، فَوَاعَدُواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعَقَبَةَ مِنْ أوْسَطِ أيَّامِ التَّشْرِيْقِ ؛ وَهِيَ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ : فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الْحَجِّ وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَاعَدْنَا فِيْهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ عَمْرٍو ابْنِ حَرَامٍ أبُو جَابرٍ أخْبَرْنَاهُ ؛ وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ مِنْ قَوْمِنَا إيْمَانَنَا ، فَكَلَّمْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ : يَا أبَا جَابرُ ؛ إنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا وَإنَّا نَرْغَبُ لَكَ فِيْمَا نَرْغَبُ لأنْفُسِنَا ، وَدَعْوَنَاهُ إلَى الإسْلاَمِ وَأخْبَرْنَاهُ بمِيْعَادِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ وَكَانَ نَقِيّاً ، فَبتْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا ، حَتَّى إذا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ خَرَجْنَا لِمِيْعَادِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِيْنَ ؛ حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعَب عِنْدَ الْعَقَبَةِ ، وَنَحْنُ سَبْعُونَ رَجُلاً وَمَعَنَا امْرَأتَانِ مِنْ نِسَائِنَا : نُسَيْبَةُ بنْتُ كَعْبٍ مِنْ نِسَاءِ بَنِي النَّجَّار ؛ وأَسْمَاءُ بنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ مِنْ نِسَاءِ بَنِي سَلَمَةَ ، فَاجْتَمَعْنَا فِي الشِّعَب نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم . فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ إلاَّ أنَّهُ أحَبَّ أنْ يَحْضُرَ مَعَ ابْنِ أخِيْهِ وِيَتَوَثَّقَ لَهُ ، فَلَمَّا جَلَسَ كَانَ أوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ - وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ باسْمِ الْخَزْرَجِ - إعْلَمُواْ أنَّ مُحَمَّداً مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ ؛ هُوَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍِ فِي بَلَدِهٍ ؛ وَأَرَاهُ قَدْ أَبَى إلاَّ اللُّحُوقَ بكُمْ وَالانْقِطَاعَ إلَيْكُمْ ، فَلَمَّا كُنْتُمْ تَرَوْنَ أنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بمَا دَعَوْتُمُوهُ إلَيْهِ وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ ؛ فإنَّكُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذلِكَ ، وَإنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أنَّكُمْ مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ بهِ إلَيْكُمْ ؟ فَمِنَ الآنَ فدَعُوهُ ؛ فَإنَّهُ فِي عِزٍّ وَرفْعَةٍ وَمَنَعَةٍ . قَالَ : فَقُلْنَا : سَمِعْنَا قَوْلَكَ ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ وَخُذْ لِنَفْسِكَ وَرَبكَ مَا شِئْتَ ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَلَى الْقُرْآنَ وَدَعَا إلَى اللهِ وَرَغَّبَ فِي الإسْلاَمِ ، وَقَالَ : " " أُبَايعُكُمْ عَلَى أنْ تَمْنَعُونِي مَا تَمْنَعُونَ أنْفُسَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ " . قَالَ : فَأَخَذ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُور بيَدِهِ ؛ ثُمَّ قَالَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ نَبيّاً نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ أبْنَاءَنَا ، بَايعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ ؛ فَنَحْنُ أهْلُ الْحَرْب وَنَحْنُ أهْلُ الْحَلَقَةِ وَرثْنَاهَا صَاغِراً عَنْ كَابِرٍ . ثُمَّ قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنِ التَّبْهَانِ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ عُهُوداً وَنَحْنُ قَاطِعُوهَا ، فَهَلْ عَسَيْتَ إنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذلِكَ ثُمَّ أظْهَرَكَ اللهُ أنْ تَرْجِعَ إلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ : " بَلِ الدَّمُ الدَّمُ ؛ وَالْهَدْمُ الْهَدْمُ ، وَأَنْتُمْ مِنَّا وَأَنَا مِنْكُمْ ، أحَاربُ مَنْ حَارَبْتُمُ ، وَأسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ " . ثُمَّ قَالَ : " أخْرِجُوا إلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَي عَشَرَ نَقِيْباً كِفْلاً عَلَى قَوْمِهِمْ بمَا فِيْهِمْ كَكَفَالَةِ الْحَوَاريِّيْنَ بِعِيْسَى عليه السلام " . فَأَخْرَجُواْ إثْنَي عَشَرَ نَقِيْباً ، تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ ؛ وَثَلاَثَةٌ مِنَ الأَوْسِ ، فَلَمَّا اجْتَمَعُواْ لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ الأَنْصَارِيُّ : يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ ؛ هَلْ تَدْرُونَ عَلَى مَا تُبَايعُونَ ؛ إنَّمَا تُبَايعُونَهُ عَلَى حَرْب الأحْمَرِ وَالأَسْوَدِ ، فَإنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أنَّكُمْ إذا انْتُهِكَتْ أمْوالُكُمْ بالأَخْذِ ، وَأشْرَافُكُمْ بالْقَتْلِ أسْلَمْتُمُوهُ ؟ ! فَمِنَ الآنَ ؛ فَهُوَ وَاللهِ إنْ فَعَلْتُمْ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَإنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بمَا دَعَاكُمْ إلَيْهِ عَلَى نُهِيْكَةِ الأَمْوَالِ وَقَتْلِ الأَشْرَافِ ، فَخُذُوهُ فَهُوَ وَاللهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . قَالُواْ : فَإنَّا نَأَخُذُهُ عَلَى مُصِيْبَةِ الأَمْوَالِ وَقَتْلِ الأشْرَافِ ؛ فَمَا لَنَا بذلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ إنْ نَحْنُ وَفَّيْنَا ؟ قَالَ : " لَكُمُ الْجَنَّةُ " . قَالُواْْ : أبْسُطْ يَدَكَ ؛ فَبَسَطَ يَدَهُ ، فَبَايَعُوهُ . فَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِهِ : الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ ؛ ثُمَّ بَايَعَ الْقَوْمُ وَاحِداً وَاحِداً ، قَالَ : فَلَمَّا بَايَعْنَا صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأَسِ الْعَقَبَةِ بأَنْفَذِ صَوْتٍ سَمِعَتْهُ أحْيَاءٌ كَثِيْرَةٌ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " هَذَا عَدُوُّ اللهِ شَيْطَانُ الْعَقَبَةِ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أمْضُوا إلَى رحَالِكُمْ " . فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ نَبيّاً ؛ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيْلَنَّ غَداً عَلَى أهْلِ مِنَى بأَسْيَافِنَا ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لَمْ أُؤْمَرْ بذَلِكَ ، إرْجِعُوا إلَى رحَالِكُمْ " . قَالَ : فَرَجَعْنَا إلَى مَضَاجِعِنَا فَبتْنَا ، فَلَمَّا أصْبَحْنَا غَدَتْ عَلَيْنَا جُلَّةُ قُرَيْشٍ ، فَقَالُواْ لَنَا : يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ ؛ بَلَغَنَا أنَّكُمْ جِئْتُمْ صَاحِبَنَا هَذَا لِتَسْتَخْرِجُوا ابْنَ أخِيْنَا مِنْ بَيْنِ أظْهُرِنَا وَبَايَعْتُمُوهُ عَلَى حَرْبنَا ، وَإنَّهُ وَاللهِ مَا حَيٌّ مِنَ الْعَرَب أبْغَضُ إلَيْنَا أنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ ، فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِنَا يَحْلِفُونَ لَهُمْ باللهِ مَا كَانَ هَذَا شَيْءٌ وَمَا عَلِمْنَا ، وَصَدَقُواْ لأنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُواْ عَلَى بَيْعَتِنَا ، فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَنْظُرُ إلَى بَعْضٍ . ثُمَّ انْصَرَفَ الأنْصَارُ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَقَدْ شَدُّوا الْعَقْدَ ، فَلَمَّا قَدِمُواْ أظْهَرُواْ الإسْلاَمَ بهَا ، وَبَلَغَ ذلِكَ قُرَيْشاً ، فآذوا أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لأصْحَابِهِ : " إنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إخْوَاناً وَمَنْزِلاً وَدَاراً تَأْمَنُونَ فِيْهَا " فَأَمَرَهُمْ بالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَاللُّحُوقِ بإخْوَانِهِمْ مِنَ الأَنْصَار ، فَأَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِيْنَةِ : أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الأسَدِ الْمَخْزُومِيِّ ؛ ثُمَّ عَامِرُ بْنُ رَبِيْعَةَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بنْتُ أبي خَيْثَمَةَ ؛ ثُمَّ عَبْدُاللهِ بْنُ جَحْشٍ ؛ ثُمَّ تَتَابَعَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إرْسَالاً إلَى الْمَدِيْنَةِ ، فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمَكَّةَ يَنْظُرُ أنْ يُؤْذنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ إلَى أنْ أذِنَ لَهُ . فَقَدِمَ الْمَدِيْنَةَ ؛ فَجَمَعَ اللهُ أهْلَ الْمَدِيْنَةِ أوْسَهَا وَخَزْرَجَهَا بالإسْلاَمِ ، وَأَصْلَحَ ذاتَ بَيْنِهِمْ برَسُولِهِ ، وَرَفَعَ عَنْهُمُ الْعَدَاوَةَ الْقَدِيْمَةَ ، وأَلَفَّ بَيْنَهُمْ ) . وذلكَ قولهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } أي بالإسلام { فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } أي فَصِرْتُمْ ، ونظيرهُ : { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ المائدة : 30 ] { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } [ المائدة : 31 ] { إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } [ الملك : 30 ] . وقَوْلُهُ تَعَالَى : { بِنِعْمَتِهِ } أي بدينِ الإسلامِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِخْوَاناً } أي في الدينِ والولايَة ، نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ، قالَ صلى الله عليه وسلم : " لاَ تَحَاسَدُواْ وَلاَ تَبَاغَضُواْ وَلاَ تَنَابَزُواْ وَلاَ تَنَاجَشُواْ ؛ وَكُونُواْ عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً ، الْمُسْلِمُ أخُو الْمُسْلِمِ ؛ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ ، التَّقْوَى هَا هُنَا - وَأشَارَ بيَدِهِ إلَى صَدْرهِ - حَسْبَ امْرِئ مِنَ الشَّرِّ أن يَحْقُرَ أخَاهُ الْمُسْلِمَ " قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } ؛ أي كنتم في الجاهليَّة على طَرَفِ هُوَّةٍ مِنَ النَّار ؛ أيْ كنتم أشْرَفْتُمْ على النار ؛ وَكِدْتُمْ تقعونَ فيها ، أو أدْرَكَكُمُ الموتُ على الكفرِ ؛ فَأَنْقَذكُمُ اللهُ مِنْهَا ؛ أي خَلَّصَكم من النار والحفرةِ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والإيْمَانِ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ؛ التي مثلَ هَذا البيانِ الذي تُلِيَ عليكُم يُبَيِّنُ اللهُ لكم الدَّلالاتِ والْحُجَجِ في الأوامرِ والنَّواهي لكي تَهتدُوا من الضلالةِ ، وتكونوا على رجاءِ الهداية .