Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 3-3)

Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قولهُ عَزَّ وَجَلَّ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } ؛ الْمَيْتَةُ : اسمٌ لِكُلِّ ذِي رُوحٍ فَارَقَهُ رُوحُهُ حَتْفَ أنْفِهِ ، والمرادُ بالدَّمِ : الدَّمُ الْمَسْفُوحُ ، وحُرِّمَ عليكُم لَحْمُ الْخِنْزِيْرِ لِعَيْنِهِ لا لكونهِ ميتةً حتى لا يحلَّ تناولهُ مع وجودِ الذكاةِ فيه . وفائدةُ تخصيصِ لَحْمِ الْخِنْزِيْرِ بالْذِّكْرِ دونَ لحمِ الكلب وسائرِ السَّباعِ : أنَّ كثيراً من الكُفَّار ألِفُوا لحمَ الْخِنْزِير ، واعتادُوا أكلَهُ وأوْلِعُوا به ما لَمْ يعتادُوا بهِ أكلَ غيرهِ . وَقِيْلَ : فائدتهُ : أنَّ مُطْلَقَ لفظِ التحريم يدلُّ على نجاسةِ عَيْنِهِ مع حُرْمَةِ أكلهِ ، ولحمُ الخنْزِيرِ مختصٌ بهذا الحُكْمِ ؛ وذلكَ : أنَّ سائرَ الحيواناتِ الْمُحَرَّمِ أكلُها إذا ذُبحَتْ كان لحمُها طاهراً لا يفسدُ الماءُ إذا وقعَ فيه ، وإنْ لم يَحِلَّ أكلهُ بخلافِ لحم الْخِنْزِيْرِ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } أي وحُرِّمَ عليكم ما ذُكِرَ عليه عندَ الذبْحِ اسمُ غيرِ الله ، وذلك أنَّهم كانوا يذبحونَ لأصنامِهم يتقرَّبون بذبْحِها إليهم ، فََحَرَّمَ اللهُ كلَّ ذبيحةٍ يُتَقَرَّبُ بذبحِها إلى غيرِ الله تعالى ، ولذلك قالَ الفُقَهَاءُ : إنَّ الذابحَ لو سَمَّى النبيَّ صلى الله عليه وسلم معَ اللهِ تعالى فقالَ : بسمِ اللهِ ومُحَمَّدٍ ؛ حَرُمَتِ الذبيْحَةُ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ } ؛ أي حُرِّمَ عليكم أكلُ لحم الْمُنْخَنِقَةِ ؛ وهي التي تَنْخَنِقُ بحَبْلٍ أوْ شَبَكَةٍ فَتَمُوتُ مِنْ غَيْرِ ذكَاةٍ ، وأمَّا الْمَوْقُوذةُ ؛ فهي الْمَضْرُوبَةُ بالْخَشَب حتَّى تَمُوتَ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ } هي التي تَتَرَدَّى من جَبَلٍ أو سَطْحٍ أو فِي بئْرٍ فَتَمُوتُ قَبْلَ الذكَاةِ . وَالتَّرَدِّي : هُوَ السُّقُوطُ ، مأخوذٌ من الرِّدَاءِ وهو الْهِلاَكُ ، قال صلى الله عليه وسلم لِعَدِيِّ بْنِ حَاتَمٍ : " إذا تَرَدَّتْ رَمْيَتُكَ مِنْ جَبَلٍ فَوَقَعَتْ فِي مَاءٍ فَلاَ تَأْكُلْ ؛ فَإنَّكَ لاَ تَدْري أسَهْمُكَ قَتَلَهَا أمِ الْمَاءُ " فصارَ هذا الكلامُ أصلاً في كلِّ موضعٍ اجتمعَ فيه معنيان : أحدُها حَاظِرٌ ، والآخرُ مبيحٌ فأنَّهُ تَغْلُبُ جِهَةُ الْحَظْرِ ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا أمُورٌ مُشَبَّهَةٌ ، فَدَعْ مَا يُرِيْبُكَ إلَى مَا لاَ يُرِيْبُكَ ، ألاَ وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً ، وَإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارمُهُ ، فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوْشِكُ أنْ يَقَعَ فِيْهِ " وعن عمرَ رضي الله عنه أنه قالَ : ( كُنَّا نَدَعُ تِسْعَةَ أعْشَار الْحَلاَلِ مَخَافَةَ الرِّبَا ) . قوله عزّ وَجَلَّ : { وَٱلنَّطِيحَةُ } ؛ هي التي تُنْطَحُ حتى تَموتَ ، وإذا تناطحتِ الحيواناتُ فَقَتَلَ بعضُها بعضاً في النِّطَاحِ فهي حرامٌ بالآية ، قال ابنُ عبَّاس : ( كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ حَتَّى إذا مَاتَتْ أكَلُوهَا وَكَذلِكَ الْمَوْقُوذةُ ) ، قال قتادةُ : ( كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَ الشَّاةَ بالبَعْضِ حَتَّى إذا مَاتَتْ أكَلُوهَا ) ، يقالُ منهُ : وَقَدَهُ يَقِدُهُ إذا ضَرَبَهُ حتى أشفاَ على الهلاكِ . قال الفَرَزْدَقُ : @ شَغَارَةٌ تَقِذُ الْفَصِيلَ برجْلِهَا فَطَّارَةٌ لِقَوَادِم الأَبْكَار @@ قَوْلُهُ تَعَالَى : { النَّطِيحَةُ } إنَّما دخلَت الهاءُ فيها وإنْ كان الفعلُ بمعنى المفعولِ يُسَوَّى فيه المذكَّرُ والمؤنَّثُ كقولهم : لِحْيَةٌ دَهِيْنٌ وعينٌ كَحِيلٌ وكفٌّ خَضِيبٌ ؛ لأنَّ النطيحةَ لم يتقدَّمُها اسم ، فلو أسقطتِ الهاء منها لم يُدْرَ أهيَ مذكَّرٌ أم مؤنثٌ ، فنظيرُ ذلك لو قيلَ : شاةٌ نطيحٌ لم تذكَّر الهاء المذكَّرُ الشاة . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ } ؛ وقرأ ابن أبي زائدةَ : ( وَأَكِيْلَةُ السَّبُعِ ) . وقرأ الحسنُ وطلحة : ( السَّبْعُ ) بسكون الباءِ وهي لغةٌ في السَّبُعِ ، ومعنى قولهِ تعالى : { وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ } هو فَرِيْسَتُهُ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } ؛ أي إلاّ ما ذكَرْتُمْ ذكاتَهُ مما أكلَ منهُ السَّبعُ فذكَّيتُم ، فإنَّ ذلك يحلّ لكم ، أو ما أبيْنَ من الصَّيدِ قبلَ الذكَاةِ فهو ميِّتٌ ، ويحتملُ أن يكون قوله تعالى : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } راجعاً إلى الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيْحَةِ وَمَا أكَلَ السَّبُعُ ، فإنَّها كلَّها في الحكمِ بمعنى واحدٍ . وعن الحسنِ أنهُ كان يقولُ في هذه الجملةِ : ( إذا طَرَفَتْ بعَيْنِهَا ؛ أوْ وَكَصَتْ برِجْلِهَا ؛ أوْ حَرَّكَتْ بَدَنَهَا فَذَكَّهَا وَكُلْ ) . وشَرَطَ أكثرُ العلماءِ في إباحة أكلِها بالذكاةِ : أن تكونَ حياتُها وقتَ الذكاةِ أكثرَ من حياةِ المذبوحِ ، فإن كانت بهذه الصِّفةِ أثَّرَتِ الذكاةُ في إباحَتِها وإلاّ فَلاَ . والتَّذْكِيَةُ : تَمَامُ فَرْيِ الأَوْدَاجِ وَإنْهَار الدَّمِ ، ومنهُ الذكَاءُ في الفَمِ إذا كانَ تَامَّ الْعَقْلِ ، وذكَّيْتُ النَّارَ إذا أتْمَمتَ إشعالَها . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } ؛ أي وَحُرِّمَ عليكم مَا ذُبحَ عَلَى النُّصُب ، هي جمعُ النَّصْب ، والنِّصَابُ : وهي الحِجَارَةُ ، كانوا يَنْصِبُونَهَا فَيَعْبُدُونَهَا من دونِ اللهِ تعالى ويُقَرِّبُونَ لها الذبائحَ ، والفرقُ بين النُّصُب والأصنامِ : أنَّ الصنَمَ اسمٌ لِما كان على صُورةِ الإنسانِ ، والنُّصُبُ ما لاَ نَقْشَ لهُ ولا صورةَ ولكنه يُعْبَدُ . والوَثَنُ ما كان مَنْقُوشاً ، والحائِطُ لا شخصَ لهُ . وَقِيْلَ : النُّصُبُ وَاحِدٌ وجمعهُ أنْصَابٌ ، مثلُ عُنُقٍ وأعنَاقٍ . وقرأ الحسنُ بن صالحٍ وطلحةُ بن مصرف : ( عَلَى النُّصْب ) بجزم الصاد ، وقرأ الجحدريُّ : بفتح النونِ والصادِ ؛ جعلهُ اسْماً موحداً كالجبَلِ والجَمَلِ ، والجمعُ الأنْصَابُ كالأَجْبَالِ والأجْمَالِ ، وكلُّها لغاتٌ وهي الشيءُ المُنَصَّبُ ، ومنهُ قولهُ تعالى : { كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [ المعارج : 43 ] . واختلفُوا في معنى النُّصُب ها هنا ؛ قال ابن جُريج ومجاهدُ وقتادة : ( كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسُتُّونَ حَجَراً ، وَكَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا ، ويُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ عَلَيْهَا ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهَا وَيَعْبُدُونَهَا وَيذْبَحُونَ لَهَا ، وَكَانُوا مَعَ هَذا يُبْدِلُونَهَا إذا رَأوا حِجَارَةً هِيَ أعْجَبُ إلَيْهِمْ مِنْهَا ) . وَقَالُوا : ( لَيْسَتْ أصْنَاماً إنَّمَا الصَّنَمُ مَا يُنْقَشُ ) . وقال آخرون : النُّصُبُ هي الأصنامُ الْمَنْصُوبَةُ . قال الأعشَى : @ وَذا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لاَ تَنْسُكَنَّهُ وَلاَ تَعْبُدِ الأَوْثَانَ وَاللهَ فَاعْبُدَا @@ قال قُطْرُبُ : ( مَعْنَى الآيَةِ : وَمَا يُذْبَحُ لِلنُّصُب ؛ أيْ لأَجْلِهَا ، وَاللاَّمُ وَ ( علَى ) يَتَعَاقَبَانِ فِي الْكَلاَمِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَسَلاَمٌ لَّكَ } [ الواقعة : 91 ] أيْ عَلَيْكَ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الاسراء : 7 ] أيْ فَعَلَيْهَا ) . وقال بعضُهم : معناهُ : وما ذُبحَ على اسمِ النُّصُب . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ } ؛ وهي القِدَاحُ ؛ أي حُرِّمَ عليكم الاسِتِقْسَامُ ؛ وهُوَ طَلَبُ الْقَسَمِ بالأَزْلاَمِ ؛ وَهِيَ الْقِدَاحُ الَّتِي كَانُوا يَجلِبُونَهَا عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى الْمَيْسِرِ ويقتسمونَ بها لَحْمَ الْجَزُور على ما تقدم ذكره في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } [ البقرة : 219 ] . وقال الحسنُ : ( كَانُوا يَتَّخِذُونَ السِّهَامَ ؛ فَإذا أرَادَ الرَّجُلُ أنْ يَخْرُجَ إلَى سَفَرِ أوْ تِجَارَةٍ أوْ سَرُوحٍ ؛ أجَالَ السِّهَامَ بيَدِهِ ، وَكَانَ مَكْتُوباً عَلَى بَعْضِهَا : أمَرَنِي رَبي ، وَعَلَى بَعْضِهَا : نَهَانِي رَبي ، فَإنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ : أمَرَنِي رَبي ؛ قَالَ : قَدْ أُمِرْتُ بالْخُرُوجِ وَلاَ بُدَّ لِي مِنْ ذلِكَ ؛ فَيَخْرُجُ ، وَإنْ كَرِهَ الْخُرُوجَ خَرَجَ غَيْرَ بَعِيْدٍ ثُمَّ رَجَعَ ، ولاَ يَدْخُلُ مِنْ بَاب بَيْتِهِ ، وَلَكِنْ يَنْقُبُ ظَهْرَ بَيْتِهِ مِنْهُ يَدْخُلُ وَمِنْهُ يَخْرُجُ إلَى أنْ يَتَّفِقَ لَهُ الْخُرُوجُ . وَإنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ : نَهَانِي رَبي ، قَالَ : قَدْ نُهِيْتُ عَنِ الْخُرُوجِ ، وَلاَ يَسْعُنِي . فَنَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ ذلِكَ ) . فعلى هذا لا يجوزُ أن يكونَ معنى الاسْتِقْسَامِ طلبَهم في الخروجِ والجلوسِ ، والخروج في قَسْمِ الرِّزْقِ والحوائجِ ، وظاهرُ هذه الآية يقتضِي أنَّ العملَ على قولِ الْمُنَجِّمِيْنَ : لا تخرجُ من أجلِ نَجْمِ كذا ؛ وَاخْرُجْ من أجلِ نَجْمِ كَذا ؛ فِسْقٌ لأنَّ ذلكَ دُخُولٌ فِي عِلْمِ الْغَيْب ، وَلاَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلاّ اللهُ . وَمَعْنَى الفِسْقُ : الخروجُ من الطاعةِ ؛ وقَوْلُهُ تَعَالَى : { ذٰلِكُمْ فِسْقٌ } ؛ إشارةٌ إلى ما تقدَّم ذكرهُ من المعاصي والحرامِ . قُوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ } في موضعِ رَفْعٍ ؛ أي وَحُرِّمَ عليكُم الاستقسامُ بالأزلامِ ، والأزْلاَمُ : هِيَ الْقِدَاحُ الَّتِي لاَ ريْشَ لَهَا وَلاَ نَصْلَ ، وَاحِدُهَا زُلَمٌ ، مثلُ عُمَرَ وَزُفَرَ ، وَقِيْلَ : زَلَمٌ مثلُ قَلَمٍ . وقال ابنُ جُبير : ( هِيَ حَصَى بَيْضَاءَ كَانُوا يَضْرِبُونَ بهَا ) . قَوْلُهُ تَعَالَى : { ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : ( نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ يَوْمَ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ ومَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ يَوْمُ الْفَتْحِ ، يَئِسَ الْكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ مِنْ رُجُوعِ الْمُسْلِمِيْنَ إلَى دِيْنِهْم بمَا ظَهَرَ مِنْ عُلُوِّ الإسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِيْنَ عَلَى سَائِرِ الأَدْيَانِ ) . وقال بعضُهم : أراد به يَوْمَ حَجَّةِ الوداعِ ، وقال الحسنُ : ( أرَادَ بالْيَوْمِ جَمِيْعَ زَمَانِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَصْرِهِ ، كَمَا يُقَالُ : كَانَتْ حَادِثَةُ كَذا فِي يَوْمِ فُلاَنٍ ، يُرَادُ بهِ عَصْرُهُ ) . قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِْ } ؛ أي لِيَكُنْ خوفكُم للهِ وحدَه ؛ فقد أمِنْتُمْ ، وحوَّلَ الله الخوفَ الذي كان يلحقُكم إليهم بإظهار الإسلامِ . وَقِيْلَ معناهُ : لا تَخْشَوْهُمْ بإظهار تحريم ما كانوا يُبيْحُونَهُ ، وأسرِعُوا في تركِ إظهار الْمُحَرَّمَاتِ . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : ( نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ ؛ وَالنَّاسُ وُقُوفٌ رَافِعُونَ أيْدِيَهُمْ بالدُّعَاءِ ، فَبَرَكَتْ نَاقَةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ثِقَلِ هَذِهِ الآيَةِ بَعْدَ أنْ كَادَ عَضُدُهَا يَنْدَقُّ ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا آيَةُ حَلاَلٍ وَلاَ حَرَامٍ ، وَعَاشَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهَا وَاحِداً وَثَمَانِيْنَ يَوْماً ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ تَعَالَى إلَى رَحْمَتِهِ ) . قال طارقُ بنُ شِهابٍ : ( جَاءَ يَهُودِيٌّ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ : يَا أمِيْرَ الْمُؤْمِنِيْنَ ! آيَةٌ تَقْرَأونَهَا لَوْ أنْزِلَتْ عَلَيْنَا لاتَّخَذْنَا يَوْمَ نُزُولِهَا عِيْداً ، فَقَالَ : وَأيُّ آيَةٍ ؟ قَالَ : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } الآيَةُ ، قَالَ عُمَرُ : هَلْ عَلِمْتَ فِي أيِّ يَوْمٍ نَزَلَتْ وَفِي أيِّ مَكَانٍ نَزَلَتْ ؟ إنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ ، وَكِلاَهُمَا بحَمْدِ اللهِ لَنَا عِيْدٌ ، وَلاَ يَزَالُ ذلِكَ الْيَوْمُ عِيْداً ) . قال ابنُ عبَّاس : ( إنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيْدَيْنِ : يَوْمُ جُمُعَةٍ وَيَوْمُ عَرَفَةَ ) . " رويَ عن عمرَ رضي الله عنه أنَّهُ بَكَى يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَا يُبْكِيْكَ يَا عُمَرُ ؟ ! " قَالَ : أبْكَانِي أنَّا كُنَّا فِي زيَادَةٍ مِنْ دِيْنِنَا ، فَأمَّا إذا أكْمِلَ ، فَإنَّهُ لاَ يَكْمَلُ شَيْءٌ إلاّ نَقُصَ ، قَالَ : " صَدَقْتَ " واختلفُوا في معنىَ الآيةِ ؛ قال بعضُهم : معناها : اليومَ أكملتُ لكم شَرَائِعَ دِيْنِكُمْ من الفرائضِ والسُّنَنِ والأحكامِ والحدود والحلال والحرام ، فلم يَنْزِلْ بعدَها حلالٌ ولا حرامٌ ولا شيء من الفرائضِ ، وثَبَتَ لكم جميع ما كنتُ أريدُ أن أبَيِّنَهُ لكم في الأزَلِ ، فأمَّا دينُ اللهِ فلم يَزَلْ كامِلاً لا يُنْقَصُ فيهِ ، وهذا قولُ ابنِ عبَّاس والسُّدِّيُّ . وقال قتادةُ وسعيدُ : ( مَعْنَاهُ : أكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ ؛ فَلَمْ يَحُجَّ مَعَكُمْ مُشْرِكٌ ) . ويحتملُ أن يكون المرادُ بالأكملِ للدين أظْهَرَهُ على سائرِ الأديان بالنُّصْرَةِ والغَلَبَةِ ، و ( الْيَوْمَ ) نُصِبَ على الظَّرفِ ، كما يقالُ : الآنَ ، وفِي هذا الزَّمانِ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } أي أتْمَمْتُ عليكم مِنَّتِي بإظهار الدِّينِ حتى لم يَحُجَّ معكم مُشْرِكٌ ، وَقِيْلَ : نِعْمَةُ اللهِ بَيَانُ فَرَائِضِهِ ، وَقِيْلَ : هي إيجابُ الجنَّةِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : وأنجزتُ لَكُمْ وَعْدِي في قَوْلِي : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 150 ] ، فكان من تَمَامِ نِعْمَتِهِ أنْ دَخَلُوا مكَّةَ آمنينَ وعليها ظاهرين ، وحَجُّوا مطمئنِّين ، ولم يخالِطْهم أحدٌ من المشركينَ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } أي اخْتَرْتُ لكمُ الإسلامَ من الأديانِ كلِّها دِيناً ، فمن دَانَ بالإسلام ، فقد اسْتَحَقَّ ثَوَابي ورضَاي . والدِّينُ : اسْمٌ لِجَمِيْعِ مَا يَعْبُدُ اللهَ بهِ خَلْقُهُ ، وأمرَهم بالإقامةِ عليه ، وهو الذي أمِرُوا أن يكونَ ذلك عادتُهم والذي به يجزونَ ، فإن الدِّينَ في اللغة : الْعَادَةُ ، والدِّين الْجَزَاءُ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ أي مَنْ دَعَتْهُ الضرورةُ إلى أكلِ شيء مِمَّا حَرَّمَ اللهُ عليه في مجاعةٍ غَيْرِ مائلٍ إلى إثْمٍ ؛ أي زَائِدٍ على ما يَسُدُّ به رَمَقَهُ { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أباحَ ذلك رحمةً منه وتسهيلاً على خَلْقِهِ . وَالْمَخْمَصَةُ : مَأْخُوذةٌ مِنَ الْمَخْصِ وَهُوَ شِدَّةُ ضُمُور الْبَطْنِ ، وَالْمُتَجَانِفُ مِنَ الْجَنَفِ وَهُوَ الْمَيْلُ .