Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 42-42)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } ؛ أوَّلُ هذه الآيةِ راجعٌ إلى صفةِ اليهود والمنافقين الذين سبقَ ذِكرُهم ، والفائدةُ في إعادةِ وَصفِهم بسمَّاعِين للكذب : بيانُ أنَّهم إنما يستحقُّوا الخزيَ بإصرارهم على الكذب واستماعهِ ، وضمِّهم إلى ذلك السُّحْتَ . واختلَفُوا في المرادِ بالسُّحْتِ ، فقال ابنُ مسعودٍ والحسنُ : ( أرَادَ بهِ الرِّشْوَةَ عَلَى الْحُكْمِ ) وقال عليٌّ وأبو هريرةَ : ( هُوَ الرِّشْوَةُ عَلَى الْحُكْمِ ؛ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ ؛ وَعَسْبُ التَّيْسِ ؛ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ ؛ وَثَمَنُ الْخَمْرِ ) . والسُّحْتُ : اسمٌ لما لا يَحِلُّ أخذهُ ، وأصلُ السُّحتِ من الهلاكِ ، يقال : سَحَتَهُ وَأسْحَتَهُ ؛ إذا اسْتَأْصَلَهُ ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 61 ] أي يُهْلِكَكُمْ ، وسُمِّيَ الحرامُ سُحتاً ؛ لأنه يؤدِّي إلى الهلاكِ والاستئصالِ . وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " " كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أوْلَى بهِ " قِيلَ : مَا السُّحْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ " " وعن مسروقِ عن ابن مسعودٍ قال : ( ( الرِّشْوَةُ سُحْتٌ ، قُلْتُ لَهُ : فِي الْحُكْمِ ؟ قَالَ : لاَ ؛ ذاكَ الْكُفْرُ ؛ ثُمَّ قَرَأ { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] ) ) . وأرادَ بهذا استحلالَ الرِّشوة وجَحْدَ الحقِّ . والرشوةُ تنقسمُ على وجوهٍ ؛ منها : الرشوةُ على الحكمِ ، وذلك حرامٌ على الرَّاشِي والمرتَشِي ؛ لأنه لا يخلُو إمَّا ليحكمَ له الحاكمُ بحقِّه ، فيكون المرتشِي آخِذاً للأُجرةِ على أداءِ ما هو فرضٌ عليه ، ويكون الرَّاشي مُحَاكِماً إلى مَن لا يصلحُ للحكمِ ولا ينفذُ حُكمه ، وإما أنْ يرشِي فيقضِي له بما ليس له بحقٍّ ، فيكون الإثمُ أعظمَ ويفسق الحاكمُ من وجهين ، وكذلك المرتشي ، والرَّائِشُ : أرادَ بالرائش الذي يمشِي بينهما . ومنها : الرشوةُ في غيرِ الحكم ، كما رُوي عن وهب بن منبه : ( أنَّهُ قِيْلَ لَهُ الرِّشْوَةُ حَرَامٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ ؟ قَالَ : إنَّمَا نَكْرَهُ أنْ تَرْشِي لِتُعْطَى مَا لَيْسَ لَكَ ، أوْ تَدْفَعَ حَقّاً لَزِمَكَ ، فَأَمَّا أنْ تَرْشِي لِتَدْفَعَ عَنْ دِينِكَ وَدَمِكَ وَمَالِكَ ، فَلَيْسَ بَحَرامٍ ، وَإنَّمَا الإثْمُ عَلَى الْقَابضِ ) . قرأ عاصمُ ونافع وحمزة وابن عامر : ( للسُّحْتِ ) بضم السين وجزمِ الحاء ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمِّهما جميعاً ، وقرأ أبو العبَّاس : ( للسَّحْتِ ) بفتح السِّين وجزم الحاء ، وقرأ عُبيد بن عمر : ( للسِّحْتِ ) بكسر السين وجزم الحاء ، وكلُّه بمعنى واحدٍ وهو الحرامُ . وَقِيْلَ : يقال رجلٌ مَسْحُوتُ المعِدَةِ ؛ إذا كَانَ أكُولاً لاَ يُلْفَى أبَداً إلاَّ جَائِعاً ، قِيْلَ : نزَلت هذه الآيةُ في حكَّام اليهودِ كعب بن الأشرفِ وأمثالهِ ، كانوا يرتَشُون ويقضُون لمن رشَاهُم . وعن الحسنِ في قوله : ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِب أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) قال : ( ذلِكَ الْحُكَّامُ ؛ يَسْمَعُ كَذِبَهُ وَيَأْخُذُ رشْوَتَهُ ، فَيَكُونُ الْحَاكِمُ قَدْ سَمِعَ الدَعْوَةَ الْكَاذِبَة وَيَأْكُلُ رشْوَتَهُ ) . ورُوي : أنَّ مسروقاً شَفَعَ لرجُلٍ في حاجةٍ ، فأهدَى له جاريةً ، فغضِبَ غَضباً شديداً وقال : لَوْ عَلِمْتُ أنَّكَ تَفْعَلُ هَذا مَا تَكَلَّمْتُ فِي حَاجَتِكَ وَلاَ أتَكَلَّمُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ حَاجَتِكَ ، سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه : يَقُولُ : ( ( مَنْ شَفَعَ فِي حَاجَةٍ لِيَرُدَّ بهَا حَقّاً أوْ يَدْفَعَ بهَا ظُلْماً فَأُهْدِيَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فَهُوَ سُحْتٌ ) ، فَقِيلَ لَهُ : يَا أبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ مَا كُنَّا نَرَى ذلِكَ إلاَّ أخْذ رشْوَةٍ عَلَى الحُكْمِ ؟ فَقَالَ : ( الأَخْذُ عَلَى الْحُكْمِ كُفْرٌ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] وَإذا أرشَى الْحَاكِمُ انْعَزَلَ مِنْ سَاعَتِهِ وَإنْ لَمْ يُعْزَلَ ) ) . ومن السُّحت : ثمنُ الخمرِ والخنزيرِ والميتةِ ، وعُسْبُ الفحلِ ، وأجرة النَّائحة والمغنِّية والسَّاحر ، وهديَّة الشفاعةِ ، ومهرُ البغيِّ ، وحُلوانُ الكاهنِ . هكذا قال عمرُ وعليُّ وابن عبَّاس رضي الله عنه . وقال ابن كيسانَ : سمعتُ الحسنَ يقولُ : ( إذا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ ، فَأَكَلْتَ فِي بَيْتِهِ ، فَهُوَ سُحْتٌ ) . قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } ؛ وذلك أنَّ اليهودَ لما أرادُوا أن ينهَضُوا من عندِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد قصَّة الزِّنا ، تعلَّقت بنو قُريظة ببني النضير ، " فقالوا : يا مُحَمَّدُ إخواننا بنو النضيرِ أبُونا واحدٌ وديننا واحدٌ وكتابنا واحد ، إذا قَتَلوا منَّا قتيلاً أعطُونا سبعين وسقاً من تمرٍ ، وإذا قَتَلنا منهم قتيلاً أخذوا منا أربعينَ ومائةَ وسقٍ ، وجِراحاتُنا على النصفِ من جراحاتِهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : " دَمُ الْقُرَظِيِّ وَفَاءٌ بدَمِ النَّضِيرِ " " فأنزلَ الله تعالى هذه الآيةَ ؛ أي فإن جاءَكَ الفريقان كأنَّهم راضِين بحُكمِكَ ، فَاحكمُ بما أنزلَ الله ، وإن شئتَ فأعرِضْ عنهم . وَقِيْلَ : معناهُ : فإن جاءَكَ أهلُ خيبرَ في حُكم الزِّنا ، فاقضِ بينهم بالرَّجم في هذه الحادثةِ ، وفي نظيرِها من الحوادثِ التي تقعُ من بعدُ ، أو أعرِضْ عنهم ، ولا تحكم بينَهم ، خيَّره الله تعالى بين أن يحكمَ بينهم وبين أن يُعرض عنهم ، وهذا التخييرُ منسوخٌ بقولهِ تعالى : { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } [ المائدة : 49 ] . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } ؛ لإعراضِكَ عنهم ، { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ } ؛ أي بالعدلِ ؛ { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } ؛ أي العادِلين .