Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 144-145)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ } ؛ أي وَأنْشَأَ مِنَ الإِبلِ اثْنَيْنِ ؛ ذكَرٍ وأُنثى من جملةِ الثمانيةِ الأزواجٍ ، { وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ } ؛ ذكَرٍ وأُنثى ، { قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ } ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّد : إنَّكم تُحَرِّمُونَ الولدَ من الجاموس والإبلِ والبقرِ على النِّساء ، فمِنْ أينَ جاء هذا التحريمُ ؛ مِن قِبَل الذكور ؛ { أَمِ ٱلأُنْثَيَيْنِ } ؛ أي مِن قِبَلِ الإناث ؟ { أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنْثَيَيْنِ } ، أي مَن الذي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أرْحَامُ الأُنَثَيَيْنِ ، { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا } ؛ أي أمْ شاهَدتُم اللهَ تعالى حرَّم هذه الأشياءِ التي تحرِّمونَها وأمرَكم بتحريْمها . يعني إذا كُنْتُمْ لا تُقِرُّونَ بِنَبِيٍّ من الأنبياءِ ؛ فمِن أينَ عَلِمْتُمْ تحريمَ اللهِ ؛ أبالْقِيَاسِ ؟ لأنَّ الله تعالى أمَرَ نَبيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أن يُنَاظِرَهُمْ ، ويُبَيِّنَ بالحجَّةِ فسادَ قولِهم وبطلانَ اعتقادِهم ، فلمَّا نزلَتْ هذه الآيةُ " قَرَأهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أبي الأحْوَصِ الْجُشَمِي ومَالِكِ بْنِ عَوْفٍ - وكان هو الَّذي يُحَرِّمُ لَهم ، وكانوا يرجعون إليه فيه - فَسَكَتَ مَالِكُ وَتَحَيَّرَ فِي الْجَوَاب . فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا لَكَ يَا مَالِكُ لاَ تَتَكَلَّمُ ؟ " فَقَالَ لَهُ مَالِكُ : بَلْ تَكَلَّمْ أَنْتَ ؛ أنَا أسْمَعُ " . فنزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ؛ هذا استفهامٌ بمعنى التَّوْبِيْخِ وَالتَّعَجُّب ؛ معناه : أيُّ أحدٍ أعْتَى وأجرأ على اللهِ مِمَّنِ اختلقَ على اللهِ كَذِباً { لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي لِيَصْرِفَ الناسَ عن دِينه وحُكْمِهِ بالْجَهْلِ ، { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ } ؛ أي لا يَهْدِيْهِمْ إلى الْحُجَّةِ فيما افْتَرَواْ على اللهِ ، ويقالُ : لا يهديهم إلى حُجَّتِهِ وثوابهِ . فلما نزلَتْ هذه الآيةُ قال مالكُ بنُ عوفٍ : فِيْمَ هذا التحريمُ الذي حَرَّمَهُ آباؤُنا من السَّائِبَةِ والوَصِيْلَةِ والْحَامِ وَالْبَحِيْرَةِ ؟ فَأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } ؛ فقرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الآية ، ثُمَّ قَالَ : " يَا مَالِكُ ؛ أسْلِمُ " فَقَالَ : إنِّي امْرِؤٌ مِنْ قَوْمِي فَأُخْبرُهُمْ عَنْكَ . فأَبَى قَوْمُهُ ؛ فَقَالُواْ : كَيْفَ رَأيْتَ ؟ فَقَالَ : رَأَيْتُ رَجُلاً مُعَلَّمًا . وَذكَرَ لَهُمْ ؛ فَقَالُواْ : إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ . ومعنى الآية : قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : لاَ أجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ من القرآن شيئاً مُحَرَّماً عَلَى آكِلٍ يَأْكُلُهُ إلاَّ أنْ يَكُونَ مَيْتَةً لَمْ يُذكَّ ؛ وهي تَموتُ حَتْفَ أنْفٍ . فمَنْ قرأ { إِلاَّ أَن يَكُونَ } بالياء فعلى معنى : إلاَّ أن يكونَ المأكولُ ميتةً . ومن قرأ بالتاء ؛ فعلى معنى : إلا أن تكونَ تلك الأشياءُ ميتةً . وقرأ عَلِيٌّ رضي الله عنه : ( يَطَّعِمُهُ ) بتشديدِ الطاء ، فأدْغَمَ التاءَ في الطاء . قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } أي دَماً مَصْبُوباً سَائِلاً ، فكانوُا إذا ذبَحوا أكلُوا الدمَ كما يأكلون اللّحْمَ . وفي الآيةِ دليلٌ على أن الدَّمَ إذا لم يكن سَائِلاً مثلُ الدمِ الذي يكونُ في عُرُوقِ اللَّحْمِ الْمُذكَّى ؛ فإنهُ لا يكون مُحَرَّماً ؛ هكذا قالَ عكرمةُ وقتادة ، وقال عمرانُ بن حُدَيرٍ : ( سَأَلْتُ أبَا مِجْلِزٍ عَمَّا يَتَلَطَّخُ باللَّحْمِ مِنَ الدَّمِ حَتَّى يُرَى فِيْهِ حُمْرَةُ الدَّمِ ؛ قَالَ : لاَ بَأْسَ بهِ ؛ إنَّمَا نُهِيَ عَنِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَهُوَ الْمُهْرَاقِ السَّائِلِ ، لَكِن يحرم لِعَيْنِهِ ) . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } فيه بيانٌ أنَّ لحمَ الخنْزيرِ لا يحرمُ لكونهِ ميتةً ، لكن يحرم لِعَيْنِهِ . وقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } عطفٌ على قوله : { أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ } والمرادُ بالفِسْقِ : المذبوحُ للصَّنَمِ ؛ وهو الذي يُذْكَرُ على ذبْحِهِ اسمُ غيرِ الله . ومعنى : { أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } أي رُفِعَ به ؛ مأخوذٌ من الإِهْلاَلِ الذي هو رَفْعُ الصَّوْتِ ؛ ومنهُ إهلالُ الْمُحْرِمِ في الحجِّ ، ومنهُ قولهُ صلى الله عليه وسلم : " إذا اسْتَهَلَّ الصَّبيُّ وَرثَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ " وأما الرِّجْسُ ؛ فمعناهُ : الْحَرَامُ ، وكلُّ ما استقذرتَهُ فهو رجْسٌ ، والرِّجْسُ العذابُ في غيرِ هذا الموضعِ . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } ؛ أي مَن دَعَتْهُ الضرورةُ إلى أكل شيء مِن هذه الْمُحَرَّمَاتِ ؛ غيرَ طالبٍ التلذُّذ بتناولهِ ، ولا متجاوزٍ قَدْرَ المباحِ منه ؛ { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ إذْ رَخَّصَ لكم تناوُلَ هذه الأشياءِ عند الضَّرورةِ ؛ أي أكلُ شيء من هذه الْمُحَرَّمَاتِ . فإن قِيْلَ : لِمَ قَصَرَ التحريمَ في هذه الآيةِ على الأشياءِ المذكورة فيه ؛ مع أنه تَعَالَى قد حَرَّمَ أشياءَ غيرَها في أوَّلِ سورة المائدة ؟ قِيْلَ : لأنَّ هذه الآيةَ مكيَّةٌ ؛ نزلت في جواب الذين جادَلُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في تحريمِ البَحِيْرَةِ وَنَحْوِهَا ، فكانت هذه الأربعُ الْمُحَرَّمَاتُ المذكوراتُ في هذه الآية مُحَرَّمَةً يومَ الْمُجَادَلَةِ ، ثم نزلت بعدَ هذه الآيةِ تحريمُ غيرِها بقولهِ تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ } [ المائدة : 3 ] في سورة المائدة . وهذه الآية لا تَمنعُ شيئاً آخرَ لخبرِ الآحاد ، والقياسُ على الْمُحَرَّمَاتِ المنصوصَةِ لاتِّفاق الفقهَاءِ على تحريمِ أشياءٍ غير مذكورةٍ في هذه الآية كالخمْرِ ولحمِ القِرْدِ والنجاسات . وأما الخبرُ المرويُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهُ : " نَهَى عَنْ أكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ؛ وَكُلِّ ذِي مَخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ " فهو بمَنْزِلَةِ آيةٍ من كتاب اللهِ تعالى ؛ لقولهِ تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] .