Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 1, Ayat: 1-1)
Tafsir: al-Hidāya ilā bulūġ an-nihāya
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال أبو محمد : نذكر في هذا الموضع جملة من علل النحويين في { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ، ونستقصي إن شاء الله ذلك في سورة النمل إذ هي بعض آية هناك بإجماع . فمن ذلك أن في كسر الباء قولين : - أحدهما : إنها كسرت لتكون حركتها مشبهة لعملها . القول الثاني : إنها كسرت ليفرق بين ما لا يكون إلا " [ حرفاً وبين ما ] قد يكون اسماً نحو الكاف ، وكذلك لام الجر . وأصل الحروف التي تدخل للمعاني أن تكون مفتوحة لخفة الفتحة نحو حروف العطف وألف الاستفهام وشبهه . ولكن خرجت الباء واللام عن الأصل للعلة التي ذكرنا . وقيل : إنما كسرت لام الجر للفرق بينها ، وبين لام التأكيد في قولك : " إن هذا لزيد " إذا أردت أن / المشار إليه هو زيد ، وإذا أردت أن المشار إليه في / ملك زيد كسرت اللام . ويدل على أن أصلها الفتح أنها تفتح مع المضمر إذ قد أمن اللبس لأن علامة المجرور خلاف علامة المرفوع . تقول : " هذا له وهذا لك " ، وأيضاً فإن الإضمار يرد الأشياء إلى أصولها . هذا أصل مجمع عليه في كلام العرب ، وسترى منه أشياء فيما بعد إن شاء الله . ومن ذلك أن " اسما " فيه أربع لغات : " اسم " بكسر الألف وبضمها ، و " سِم " بضم السين وبكسرها . فَمن ضَم الألف في الابتداء جعله من " سما يسمو " إذ ارتفع " كدعا يدعو " . ومَن كسرها جعله من [ سَميَ يَسْمَى ] " كرَضِيَ يَرْضَى " . قال ابن كيسان : " يقال : " سموت وسميت كعلوت وعليت ، وأصله سُمْوٌ أو سِمْوٌ على [ وزن ] فُعْلٌ أو فِعْلٌ ، ثم حذفت الواو استخفافاً لكثرة الاستعمال . فلما تغير آخره غير أوله بالسكون ، فاحتيج إلى ألف وصل ليوصل بها إلى النطق بالساكن وهو السين المغيرة إلى السكون " . واختلف في كسرة الألف المجتلبة . فقيل : اجتلبت ساكنة وبعدها ساكن فكسرت لالتقاء الساكنين . وقيل : بل اجتلبت مكسورة ، وإنما ضمت إذا كان الثالث من الفعل مضموماً لاستثقال الخروج من كسر إلى ضم / ، وضمت الألف إذا كان الثالث من الفعل مضموماً ليخرج الناطق من ضم إلى ضم ، نحو : " أُقْتل ، أُخْرج " ، فذلك أسهل من الخروج من كسر إلى ضم . وقيل : بل أصلها السكون لكن لا بد من حركتها إذ لا يبدأ بساكن فأتبعت ثالث الفعل ، فكسرت إذا كان الثالث مكسوراً نحو " إضرب " . وضمت إذا كان الثالث مضموماً نحو " أُقْتُل " . ولم تفتح إذا كان الثالث مفتوحاً لئلا تشبه ألف المتكلم فكسرت ، وكان الكسر أولى بها / والثالث مفتوح لأن الخفض والنصب أخوان ، وذلك نحو : " اصنع " . و " اسم " عند البصريين مشتق من السمو ؛ يدل على ذلك قولهم في التصغير " سمي " . فرجعت اللام المحذوفة إلى أصلها ، ورجعت السين إلى حركتها لأن التصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها . وقال الكوفيون : " هو مشتق من السمة وهي العلامة لأن صاحبه يعرف به ، وليس يسمو به ، كما ذكر البصريون أن اشتقاقه من السمو وهو العلو " . قال أبو محمد : وقول الكوفيين قول يساعده المعنى ويبطله التصريف لأنهم يلزمهم أن يقولوا في التصغير " وُسَيْمٌ " ، لأن فاء الفعل واو محذوفة فيجب ردها في التصغير ، وذلك لا يقوله أحد . وقد شرحنا هذه المسألة بأشبع من هذا في غير هذا الكتاب . / والباء من { بِسمِ ٱللهِ } متعلقة بمحذوف . ذلك المحذوف خبر ابتداء مضمر قامت الباء وما اتصل بها مقامه ، فهي وما بعدها في موضع رفع إذ سدت مسد الخبر للابتداء المحذوف ، تقديره : " ابتدائي ثابت بسم الله " أو " مستقر بسم الله " ، ثم حذف الخبر وقامت الباء وما بعدها مقامه ، وهذا مذهب البصريين . وقال الكوفيون : " الباء متعلقة بفعل محذوف ، وهي وما بعدها في موضع نصب بذلك الفعل " ، تقديره عندهم : " ابتدأت بسم الله " . والاسم هو المسمى عند أهل السنة . قال أبو / عبيدة : " معنى باسم الله : بالله " . / وقال : " اسم الشيء هو الشيء " . ودل على ذلك قوله " { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ } [ الأعلى : 1 ] أي سبح ربك ، أي نزه ربك . واختلف النحويون في علة حذف الألف من الخط في { بِسمِ ٱلله } ؛ فقال الكسائي والفراء : " حذفت لكثرة الاستعمال " . وقال الأخفش " حذفت لعدمها من اللفظ . ويلزمه ذلك في كل ألف وصل لأنها معدومة أبداً في اللفظ في الوصل ، لكنه قال : " مع كثرة الاستعمال بجعل حذفها لاجتماع العلتين " . وقيل [ بل ] حذفت لأن الباء دخلت على سين مكسورة أو مضمومة . حكى ابن زيد أنه يقال : " سِمٌ " و " سُمٌ " ، ثم أسكنت السين إذ ليس في الكلام فعل على مذهب من ضم السين وأسكنت على مذهب مَن كسر السين استخفافاً . وقيل : حذفت الألف للزوم الباء هذا الاسم في الابتداء ، فإن كتبت " بسم الرحمٰن " أو " بسم الخالق " و { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] ، فالأخفش والكسائي يكتبان هذا وما أشبهه بغير ألف " كبسم الله " . والفراء يكتبه بألف إذ لم يكثر استعماله ، ككثرة استعمال " بسم الله " . ولا يحسن الحذف للألف من الخط عند جميعهم إلا مع الباء . لو قلت : " لاسم الله حلاوة " أو قلت : " ليس اسم كاسم الله " ، لم يجز حذف الألف مع غير الباء من حروف الجر ، إلا على قول مَن قال : " سِمٌ " أو " سُمٌ " فأما مَن قال " اسم " بألف في الابتداء بكسر الألف أو بضمها فلا يجوز حذف الألف من الخط مع غير الباء عند أحد من النحويين إذ لم يكثر استعماله . والحمد لله معناه الثناء الكامل . والشكر الشامل لله يكون لأفعاله الحسنة وفضائله الكاملة ، والحمد أعم من الشكر وأمدح . ورفعه بالابتداء ، " وَلِلَّهِ " في موضع الخبر تقديره : " الحمد ثابت لله " أو " مستقر لله " . فاللام متعلقة بهذا المحذوف الذي قامت اللام وما بعدها مقامه . والنصب جائز في الحمد في الكلام على المصدر ، لكن الرفع فيه أعم لأن معناه إذا رفعتَه جميع " الحمد مني ومن جميع الخلق لله " وإذا نصبت فمعناه : " أحمد الله حمداً " ، فإنما هو حمد منك لله لا غير . فالرفع يدل على أن الحمد منك ومن غيرك لله ، فهو أعم وأكمل ، فلذلك أجمع القراء على رفعه في جميع ما وقع في القرآن من لفظ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ، إذ لم يكن / قبله عامل فإذا كان " الحمد " مبتدأ ، و " لله " خبر ، وهو في اللفظ بمنزلة قولك : " المال لزيد " في حكم الإعراب ، وليس مثله في المعنى لأنك إذا قلت : " الحمد لله " أخبرت بهذا ، وأنت معتمد أن تكون حامداً لله داخلاً في جملة الحامدين طالباً للأجر على قولك ، مقراً إذا رفعته أن جميع الحمد منك ومن غيرك لله متقرباً بذلك إلى الله ، متعرضاً لعفوه مظهراً ما في قلبك بلسانك ، شاهداً بذلك لله . ولست تخبر أحداً بشيء يجهله ، فأنت غير مخبر على الحقيقة بشيء استقر علمه عندك ، وليس ذلك العلم عند غيرك . وإذا قلت : " المال لزيد " ، فأنت مخبر بما استقر علمه عندك مما ليس علمه عند غيرك . فاعرف الفرق بينهما . فأما علة حذف الألف الثانية / من " الله " في الخط ففيها أيضاً اختلاف . قال قطرب : " حذف استخفافاً إذ كان طرحها من الخط لا يلبس . وقيل : إنما حذفت الألف على لغة مَن يقول قال : " الله / بغير مد ، كقول الشاعر : @ أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ الله @@ وقيل : حذفت الثانية لأن الأولى تكتفي عنها ، وتدل عليها . وقيل : إنما حذفت لئلا يشبه خط " اللات " في قول من وقف عليه بالهاء . فأما حذف ألف { الرَّحْمٰنِ } من الخط فلكثرة الاستعمال والاستخفاف ، ولأن المعنى لا يشكل بغيره . وقدم { الرَّحْمٰنِ } على { الرَّحِيـمِ } لأن " الرحمٰن " اسم شريف مبني للمبالغة لا يتسمى به غير الله جل ذكره ، والرحيم قد يوصف به الخلق فأخر لذلك . وقيل : الرحيم ، ولم يقل : الراحم ، لأن فعيلا فيه مبالغة أيضاً تقارب مبالغة الرحمٰن ، فقرن بالرحمٰن دون الراحم إذ الراحم لا مبالغة في بنيته لأنه يوصف بالراحم مَن رحم مرة في عمره ، ولا يوصف بالرحيم إلا مَن تكررت منه الرحمة . وقيل : إنما قدم الرحمٰن على الرحيم لأن النبي عليه السلام كان يكتب في كتبه " باسمك اللهم " حتى نزل : { بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا } [ هود : 41 ] فكتب { بِسمِ ٱلله } ، حتى نزل : { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [ الإسراء : 110 ] ، فكتب { بِسمِ ٱلله } ، فسبق نزول الرحمٰن . ثم نزل : { وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [ النمل : 30 ] . فكتب ذلك على ترتيب ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم . وقال ابن مسعود / " كنا نكتب زماناً باسمك اللهم " حتى نزلت : { أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } ، فكتبنا " بسم الله الرحمٰن " / فلما نزلت " التي في النمل كتبناها " . ومعنى { الرَّحْمٰنِ } : الرفيق بخلقه ، ومعنى : { الرَّحِيـمِ } العاطف على خلقه بالرزق وغيره . وقيل : إنما جيء بالرحيم ليعلم الخلق أن { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } على اجتماعهما لم يتسم بهما غير الله جل ذكره ، لأن الرحمٰن على انفراده قد تسمى به مسيلمة الكذاب لعنه الله ، و { الرَّحِيـمِ } على انفراده قد يوصف به المخلوق . فكرر الرحيم بعد الرحمٰن ، وهما صفتان لله أو اسمان ، ليعلم الخلق ما انفرد به الله تعالى ذكره من اجتماعهما له ، وما ادعى بعضه بعض خلقه . وهذا القول هو معنى قول عطاء لأنه قال : " لما اختُزِلَ الرحمٰن من أسمائه - أي تسمى به غيره - ، صار لله الرحمٰن الرحيم " . والألف واللام في { الرَّحِيـمِ } للتعريف ، وإنما اختيرا للتعريف ، لأن الهمزة تختل بالتسهيل والحذف والبدل وبإلقاء حركتها على ما قبلها ، واللام تدغم في أكثر الحروف وكلاهما من الحروف الزوائد .