Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 33-35)
Tafsir: al-Hidāya ilā bulūġ an-nihāya
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى ذكره : { وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } ، إلى قوله : { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } . أي وليمتنع عن الحرام الذين لا يجدون ما ينكحون حتى يوسع الله عليهم من فضله ، فالنكاح في هذا الموضع : اسم لما ينكح به من المهر ، والنفقة فسمي ما ينكح به نكاح ، كما قيل : لما يلتحف به كاف ولما يرتدي به رداء ، ولما يلبس لباس . ثم قال : { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } ، هذا ندب ندب الله عباده إليه ومعنى { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } إن علمتم فيهم مقدرة على التكسب لأداء ما كتب عليه مع القيام بما يلزمه من أمر نفسه ، ومع إقامة / فروضهم ، فالمكاتبة معلومة ما هي ، وولاء المكاتب لمن كاتبه . وقد قال ابن جريج : فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم فيه خيراً ، إذا سأله العبد ذلك ، وقاله عطاء ، وروي ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وهو اختيار الطبري لأن ظاهر الآية الأمر بالمكاتبة ، وأمر الله فرض ، إلا أن يدل على أنه ندب إجماع أو سنة . ومذهب أهل المدينة مالك وأصحابه : أنه ندب من غير فرض . وقال الثوري : لا يجبر السيد على المكاتبة . وكره ابن عمر أن يُكَاتَبَ العبد إذا لم تكن له حرفة وقال : تطعمني أوساخ أيدي الناس . قال ابن عباس : { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } ، أي إن علمتم أن لهم حيلة لا يُلقون مؤنتهم على الناس . وقال مالك : إنه ليقال : الخير القوة والأداء ، وهو قول ابن زيد . وقال الحسن : معناه : إن علمتم فيهم صدقاً ، ووفاء وأداء الأمانة . وقال مجاهد وطاوس : مالاً وأمانة . وعن ابن مسعود : الخير إقامة الصلاة ، وكذا قال ابن سيرين ، وعبيدة . وقال مالك : الخير القوة على الأداء ، وقال أبو صالح وعطاء : إن علمت فيهم خيراً لنفسك يؤدي إليك ، ويصدقك ما حدثك فكاتبه . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن جريج : معناه : إن علمتم لهم مالاً . ويقال : إن هذه الآية نزلت في صبيح القبطي مملوك لحاطب بن أبي بلتعة ، وكان صالحاً ، ثم هي عامة لجميع المسلمين . قال تعالى : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ } ، يعني هبوههم من مال الكتابة . قال علي بن أبي طالب : ربع الكتابة يحطها عنه . وقال ابن عباس : ضعوا عنهم مما قاطعتموهم عليه ، وكان ابن عمر : يضع عن المكاتب في آخر كتابته ما شاء ، وهو قول مالك . وقال النخعي : هو أمر للمسلمين أن يعطوا المكاتبين من صدقاتهم يتقوون بها على أداء الكتابة ، وهو قوله : ( في الصدقات وفي الرقاب ) . وقيل : إن قوله : " وآتوهم " ترغيب لكل الناس من الموالي وغيرهم حضهم الله أن يعطوا المكاتبين من صدقاتهم ليتقووا بها على أداء كتابتهم . وقيل : هو خطاب لغير الموالي المخاطبين بالمكاتبة رغّب الناس أن يعطوهم من زكواتهم ، والضميران مختلفان بمنزلة قوله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } [ البقرة : 232 ] هو خطاب للأولياء ، وصدر الكلام خطاب للأزواج . وقال ابن زيد : ذلك من الزكاة . ثم قال : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ } ، أي : الزنا { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } أي : تعففاً { لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } ، أي : ليكسبن لكم من زنائهن . وقيل قوله : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } متعلق بقوله : { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ * إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } . ويقال : إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول المنافق ، كانت له جاريتا : معاذة وزينب ، وكانتا تردان عليه خرجاً من زنائهما ، قبل أن يسلما ، فلما دخلتا في الإسلام ، امتنعتا من الزنا فكان يكرههما على الزنا ، فنهى الله عن ذلك ، وأعلم المكره له أنه له غفور رحيم . وقوله : { وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، ومعاذة هذه أم خولة ، وخولة هي التي جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها ، وفي ذلك نزل : { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ } [ المجادلة : 1 ] الآية . ويروى أن عبد الله بن أبي : أمر جاريته أن تزني فجاءته ببرد ، فأمرها أن تعود إلى الزنا ، فأنزل الله جل ذكره : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ } الآية . وقال جابر : كانت لعبد الله بن أبيّ جارية يقال لها مسيكة ، وكان يأمرها بالبغاء لتكسب له فنهى الله عن ذلك . قال مجاهد : معناه : فإن الله للمكرهات من بعد إكراههن غفور رحيم . وقيل إن معاذة وزينب جاريتا عبد الله بن أبي لما أسلمتا أتيا إلى النبي عليه السلام ، فشكتا إليه أن مولاهما يكرههما على الزنا فنزلت الآية في ذلك . ومن قال : إن { فَكَاتِبُوهُمْ } ندب ، و { آتُوهُمْ } حتم ، وقف على { خَيْراً } ثم ابتدأ بالحتم بعد / تقدم الندب ، لأنه ليس بمعطوف عليه لاختلاف معنييهما ، وهذا قول الشافعي . قال : المكاتبة : ندب ، ويجبر السيد أن يضع عن عبده من المكاتبة . ومن قال : هما واجبان لم يقف إلا على { آتَاكُمْ } لأن الثاني معطوف على الأول إذ معناهما جميعاً : عنده الحتم . ومن قال : كلاهما ندب لم يقف أيضاً إلا على { آتَاكُمْ } لأن الثاني أيضاً معطوف على الأول إذ معناهما جميعاً الندب وهو مذهب مالك والثوري . ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } ، من كسر الياء من { مُّبَيِّنَاتٍ } . فمعناه موضحات للأحكام والشرائع ، لدلالة قوله : { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } [ التوبة : 64 ] فأضاف الفعل إلى السورة ، والبيان في الحقيقة إلى الله جل ذكره ، ولكن أضيف إلى السورة وإلى الآيات لعلم السامعين بالمراد ، فمن كسر الياء جعل الآيات فاعلات ، وأما من فتح الياء ، فمعناه مفصلات ، كما قال تعالى : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود : 1 ] ، ويدل على صحة قوله { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ } [ آل عمران : 118 ] ، فهي الآن مبينة ، فالله جل ذكره هو الذي بينها كما قال : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ } [ آل عمران : 118 ] فمنه فتح الياء جعل الآيات مفعولاً بها والفاعل هو الله ، لأنه تعالى بيّنها وأظهرها ، والكسر يدل على أن الآيات فاعلات أي بينات لكم الأحكام والفرائض ، والفاعل هو الله في المعنى في القراءة بالكسر على ما ذكرنا فافهم . والمعنى : ولقد أنزلنا إليكم دلالات وعلامات مفصلات أو موضحات ، على ما تقدم من الفتح والكسر . وقوله تعالى ذكره : { مَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ } ، أي مضوا قبلكم من الأمم . { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } أي لمن اتقى الله فخاف عقابه . ثم قال تعالى : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } . قال أبو محمد : قد كثر الاختلاف في معنى هذه الآية ونحن نذكر ما بلغنا فيها . قيل : المعنى : الله ذو السماوات والأرض مثل { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] . وقيل : معناه : الله هادي أهل السماوات والأرض . قاله ابن عباس ثم استأنف فقال : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } الآية ، أي مثل هداه في قلب المؤمن كالكوة التي هي غير نافذة . { فِيهَا مِصْبَاحٌ } وذلك المصباح في زجاجة ، الزجاجة صافية اللون كالكوكب الدري ، يوقد ذلك المصباح من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية ، يكاد زيتها يضيء من غير نار لصفاه ، الكوة التي هي غير نافذة أجمع للضوء فيها إذا كان فيها المصباح ، والمصباح إذا كان في زجاجة كان أظهر لضوئه ، فإن كانت الزجاجة صافية اللون كان ذلك أظهر للضياء ، وإذا كان الزيت الذي فيها صافياً ، كان أظهر وأكثر للضوء ، فذلك كله مبالغة للضياء والنور ، فكذلك الهدى في قلب المؤمن . ومعنى هذا القول مروي : عن ابن عباس فهو مثل ضربه الله لنور الهدى والإيمان في قلب المؤمن . وعن ابن عباس أيضاً ، وعن مجاهد : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ، أي مدبرهما : شمسهما وقمرهما ونجومهما . وقال أبي بن كعب : بدأ الله بنوره وذكره ، ثم ذكر نور المؤمن في قوله تعالى : { مَثَلُ نُورِهِ } . وقيل المعنى : مثل ما أنار الله من الحق بهذا التنزيل كمشكاة على هذه الصفة ، فالهاء في نوره تعود على الله جل ذكره أي مثل هداه في قلب المؤمن وهو القرآن . والتقدير : الله هادي أهل السماوات بآياته البينات ، مثل هداه وآياته التي هدى الله بها خلقه في قلوب المؤمنين ، كنور هذا المصباح الموصوف بهذه الصفات . وهو قول ابن عباس الذي تقدم ذكره . وقال : كعب الأحبار : النور هنا لمحمد ، والهاء لمحمد عليه السلام والمعنى : مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة ، وكذلك روي عن ابن جبير . فيكون المعنى : الله هادي أهل السماوات والأرض ثم استأنف فقال : مثل نور محمد إذا كان مستودعاً في الأصلاب كمشكاة هذه صفتها ، والمصباح عني به قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، شبه بالمصباح في ضيائه ونوره لما فيه من الإيمان والحكمة . { ٱلْمِصْبَاحُ / فِي زُجَاجَةٍ } ، يعني قلبه في صدره كأنها كوكب دري أي صدره في صفاه ونوره لما فيه من الإيمان والحكمة ، { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } يعني به الزهرة { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } ، أي استنار نور محمد من نور إبراهيم ، فإبراهيم هو الشجرة المباركة ومحمد عليه السلام على ملته ودينه ، فمنه استنار ثم مثل الله . إبراهيم فقال : { زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } ، أي إن إبراهيم لم يكن يصلي إلى المشرق ولا إلى المغرب ، فهو في الضياء مثل هذه الزيتونة التي لا تصيبها الشمس إذا غربت ولا إذا طلعت فزيتها على هذا أطيب ، وأصفى وأضوى . وهذا التفسير قد روي من طرق وغيره أشهر وأكثر ، وقد ذكرناه ونذكره أيضاً فيما بعد إن شاء الله . وقال زيد بن أسلم والحسن : الهاء لله والتقدير : الله نور السماوات والأرض مثل نوره ، ونوره القرآن أي مثل هذا القرآن في القلب كمشكاة هذه صفتها . وعن ابن عباس : إن النور هنا الطاعة سمى طاعته نوراً . وقيل : الهاء تعود على المؤمن أي مثل نور المؤمن والذي في قلبه من الإيمان ، والقرآن كمشكاة ، قاله : أبي بن كعب . وقال ابن جبير والضحاك : { مَثَلُ نُورِهِ } ، مثل نور المؤمن كمشكاة والمشكاة كل كوة لا منفذ لها . وقيل : هو مثل ضربه الله لقلب محمد عليه السلام . قال كعب الأحبار : المصباح قلب محمد في زجاجة الزجاجة صدره كأنها كوكب دري ، شبه صدر النبي عليه السلام بالكوكب الدري ، ثم رجع في المصباح إلى قلبه فقال : { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } ، أي لم يمسها شمس المشرق ، ولا شمس المغرب { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ } ، أي يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يتميز للناس ، ولو لم يتكلم ، أنه نبي ، كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم يتمسه نار { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } . وقال ابن عباس : المشكاة كوة البيت . وقال آخرون : عني بالمشكاة صدر المؤمن ، والمصباح القرآن والإيمان والزجاجة قلبه . وهذا المثل ضربه الله للمؤمنين . هذا قول أبي بن كعب . قال أبيّ : جعل القرآن والإيمان في صدر المؤمن كمشكاة ، فالمشكاة صدره . { فِيهَا مِصْبَاحٌ } المصباح القرآن والإيمان اللذان جعلا في صدره . { ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } ، قال : فالزجاجة قلبه فيه القرآن والإيمان { ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } قال : فمثل ما استنار فيه من القرآن والإيمان كأنه كوكب دري أي مضيء { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } ، فالشجرة المباركة أصله وهو الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } ، أي مثله كمثل شجرة التفت بها شجرة ، فهي ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت ، وكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن ، وقد ابتلي بها فثبته الله فيها فهو بين أربع خلال : إن أعطي شكر ، وإن ابتلي صبر ، وإن حكم عدل ، وإن قال صدق ، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات . ثم قال تعالى : { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } ، فهو يتقلب في خمسة من النور فكلامه نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة : إلى الجنة . وقال ابن عباس : { مَثَلُ نُورِهِ } مثل هدى الله في قلب المؤمن . وقال قتادة : مثل نور الله في قلب المؤمن ، فالهاء في نوره تعود على الله والنور معنى الهدى . وقيل : تعود على المؤمن . وقيل : على محمد عليه السلام . وقد مضى هذا . قال القتبي : هو مثل ضربه الله تعالى لقلب المؤمن ، وما أودعه من الإيمان والقرآن من نوره ، لكنه بدأ بنفسه فقال : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ، أي بنوره يهتدي من في السماوات والأرض . ثم قال { مَثَلُ نُورِهِ } ، يعني مثل نور المؤمن . وقيل : معناه : مثل نور الله في قلب المؤمن ونور الله الإيمان به . وكان أبيّ يقرأ ( مثل نور المؤمن ) وقد مضى أكثر هذا ، فالمعنى على قول ابن عباس وغيره : الله هادي أهل السماوات وأهل الأرض إلى أمور دينهم ومصالحهم / والكلام فيه توسع ومجاز لأنه قد علم أن الله لا يكون نوراً ولا ضياء ولا من جنس النور ولا الضياء ، لأن النور والضياء مخلوقان لله جل ذكره ، ومعنى { مَثَلُ نُورِهِ } أي صفة هدى الله للمؤمنين في قلوبهم . وهذا يدل على أن معنى { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ، أي هاديهن وليس الله هو النور لأنه قد شبه النور المذكور بالمشكاة الموصوفة ، والله لا يشبهه شيء ، ولا يُشَبَّه بشيء ، فنوره إنما هو هداه ودلالة خلقه إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم ، فإنما شبه هداه لخلقه بما يعقلون من المشكاة فيها المصباح الذي هو في زجاجة ، تلك الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد بزيت من شجرة صفتها كذا ، وذلك كله مبالغة في صفة هدى الله عباده . وقوله : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } . قال قتادة : " لا يفيء عليها ظل الشرق ولا ظل الغرب ضاحية ، وذلك أصفى للزيت كأنه يقول : إن الشمس لا تفارقها " . وقال الحسن : ليست من شجر الدنيا . وعن ابن عباس ومجاهد : أنه مثل للمؤمن ، غير أن المصباح وما فيه مثل فؤاد المؤمن ، والمشكاة مثل الجوف . وقال الحسن : معناه مثل القرآن في قلب المؤمن كمشكاة هذه صفتها . وقال ابن زيد : { مَثَلُ نُورِهِ } ، نور القرآن الذي أنزله الله على رسوله ، فهذا مثل القرآن يستضاء به في نوره ، ويعملون به ، ويأخذون به ، وهو لا ينقص . فهذا مثل ضربه الله لنوره . وقال مجاهد : المشكاة القنديل . وقيل : هو الحديد الذي يعلق فيه القنديل : قاله أيضاً مجاهد . واختار الطبري أن يكون هذا المثل ، مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به ، فقال : الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد - الذي أنزله إليهم فآمنوا به ، في قلوب المؤمنين - مثل مشكاة وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة وهو نظير الكوة التي تكون في الحيطان التي لا منفذ لها ، وإنما جعل ذلك العمود مشكاة لأنه غير نافذ وهو أجوف مفتوح إلى الأعلى ، وهو كالكوة في الحائط التي لا تنفذ . ثم قال : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } ، وهو السراج ، والمصباح ، مثل لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات . ثم قال : { ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } ، يعني إن السراج الذي في المشكاة ، في القنديل وهو الزجاجة وذلك مثل القرآن ، يقول : القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله به قلبه في صدره ، ثم مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشك فيه ، واستنارته ، بنور القرآن بالكوكب الدري ، فقال : { ٱلزُّجَاجَةُ } وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } ومعنى قراءة من قرأ { دُرِّيٌّ } بالتشديد وضم الدال أنه نسبه إلى الدر ومعناه : أن فضل هذا الكوكب في النور على سائر الكواكب كفضل الدر على سائر الحَبّ ، ومن قرأ دِرئ بكسر الدال والمد والهمز جعله من إندرأ الحريق إذا اندفع . وحكى الأخفش سعيد : درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوءه وعلا . وقيل : هو فعيل من درأت لأن معناه يدفع ويرجم به الشياطين . وأنكر أبو عبيدة هذه القراءة إن كانت من درأت إذا دفعت وضعفها لأن الكواكب كلها تندفع فلا فضل لأحدهما على الآخر فلا فائدة في وصفه له بالاندفاع لأنها كلها تندفع . فأما قراءة من قرأ بضم الدال والمد والهمز ، فقد أنكرها جماعة ، إذ ليس في الكلام . فُعَيلٌ ، وقد جوزها أبو عبيدة وقال : هو فعول مثل سيوح ، وأصله درؤ وأبدلوا من الواو ياء كما قالوا : عتي . وأنكر هذا القول على أبي عبيدة لأِنه لا يشبع عتي إن كان جمع عات ، فالبدل فيه لازم لأن الجمع باب تغيير والواو لا يكون طرفاً في الأسماء وقبلها ضمة ، فاعتلاله لازم ، فإن كان عتياً مصدراً فيجب قلب الواو لأنها ظرف في فعول وليست الواو في دري / إذا جعل أصله دروي ظرفاً فلا يشتبهان ، ووجه هذه القراءة ، عند بعض النحويين أنه فعيل كَمُريق ، على أن مُريقاً أعجمي ، فلا يجب أن يحتج به . والكوكب الذي شبه بالزجاجة ، هو الزهرة قاله الضحاك . ومن قرأ { يُوقَدُ } على تفعل جعله فعلاً ماضياً خبراً عن المصباح . وقيل ، خبراً عن الكوكب . ومن قرأ بالياء ، على يفعل جعله فعلا مستقبلاً لم يسم فاعله راجعاً إلى المصباح . ومن قرأ بالتاء على تفعل جعله فعلاً لم يسم فاعله مستقبلاً أيضاً راجعاً على الزجاجة لأنها أقرب إليه ، فلما كان الاتقاد فيها جاز أن توصف هي به لعلم السامعين بالمعنى ، كما قالوا : ليل نائم ، وسر كاتم ، وقد نام ليلك ، وكقوله : { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] فوصف اليوم بالعصوف والعصوف للريح ، لكن لما كان الريح في اليوم جعل وصفاً لليوم لعلم السامعين بالمعنى وهو كثير في كلام العرب . وأنشد الفراء : @ " يومين غيمين ، ويوماً شمساً " @@ فجعل الغيمين وصفاً لليومين لأنهما في اليومين يكونان ، فكذلك وصف الزجاجة بأنها توقد لأن الإيقاد فيها يكون . ومعنى قوله : { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ } ، أي توقد من دهن شجرة . وقوله : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } . قال ابن عباس : لا شرقية بغير غرب ولا غربية بغير شرق . وقال الحسن : ليست هذه الشجرة في الأرض ، ولو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية ، ولكنه تمثل بالنور . وقال أبو مالك : لا يصيبها الشمس وقت الشرق ولا وقت الغرب ولكنها بين شجر في فجوة من ذلك فهي في ظل أبداً قد سترها ما حولها من الشجر . وقيل إنها يصيبها الشمس عند الشروق وعند الغروب ، ولم تخلص للشروق فيقال لها شرقية ، ولا للغروب فيقال لها غربية ، ولكنها قد جمعتهما كما يقال : فلان لا أبيض ولا أسود إذا كان فيه بياض وسواد ، ويقال : هذا لا حلو ولا حامض أي لم يخلص له أحد الطعمين ، فهذا قول مختار وهو معنى قول ابن عباس المتقدم . وقال عكرمة : لا تخلو من الشمس وقت الغروب والشروق ، وذلك أصفى لذهنها وهذا موافق لمذهب ابن عباس أيضاً . وعن مجاهد أنه قال : لا يُكنها جبل ولا وادي . وقال قتادة : هي شجرة بارزة للشمس . وقال الضحاك : لا تصيبها الشمس ، وعنه مثل قول قتادة . وعن مجاهد أيضاً أنه قال : هي شجرة تكون فوق جبل تطلع عليها الشمس وتغرب عليها . وقال القتبي : المعنى أنها : ليست بارزة للشمس ، لا يصيبها الظل فيقال لها شرقية ، وليست في الظل لا تصيبها الشمس فيقال لها غربية . وقال الطبري : معناه : ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالغداة ، من الشرق دون العشي ، ولا غربية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة ، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب ، فهي شرقية غربية ، وهذا أيضاً قول ابن عباس بعينه وهو قول عكرمة . وقوله : { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } ، قال الطبري : معناه أن هذا القرآن من عند الله ، وأنه كلامه ، فجعل مثله ومثل كونه من عنده ، مثل المصباح الذي يوقد من الشجرة المباركة التي وصفها بعده . وقوله : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ } يعني أن حجج الله على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر . وقوله : { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } ، أي ولو لم يزدها الله بياناً ووضوحاً ، فأنزل القرآن إليهم منبهاً لهم على توحيده ، فكيف وقد نبههم وذكرهم بآياته فزادهم حجة إلى حجة عندهم قبل ذلك . فذلك بيان من الله جل ذكره ونور على البيان . وقوله : { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } النور الأول النار ، والثاني الزيت الذي يكاد يضيء من صفاه قبل أن تمسه النار ، قاله مجاهد . قال : الطبري : هو مثل للقرآن ، أي هذا القرآن نور من عند الله أنزله على خلقه يستضيئون به . وقوله { عَلَىٰ نُورٍ } يعني / الحجج والبيان الذي نصبه الله لهم مما يدل على وحدانيته قبل مجيء القرآن . قال ابن زيد : { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } ، يضيء بعضه بعضاً يعني القرآن . قوله : { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } ، أي يوفق الله لاتباع نوره وهو القرآن من يشاء من عباده . ثم قال : { وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } ، أي ويمثل الله الأمثال للناس ، يعني به ما مثل لهم من مثل القرآن في قلب المؤمن ، بالمصباح في المشكاة ، وسائر ما في الآية من الأمثال . ثم قال : { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } ، أي عليم بالأشياء كلها ، ومن قال : { مَثَلُ نُورِهِ } أي نور المؤمن جاز له أن يقف على { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ، ومن قال المعنى : مثل نور الله لم يقف إلا على مصباح { ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } ، تمام ، { دُرِّيٌّ } تمام { تَمْسَسْهُ نَارٌ } ، تمام [ للناس ] ، قطع . و [ عليم ] ، تمام إن جعلت في " بيوت " متعلقاً بيسبح . فإن جعلته على قول ابن زيد متعلقاً بقوله : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } ، لم تقف إلى { عَلَيِمٌ } وكذلك إن جعلته متعلقاً { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } وهو قول الطبري . وكذلك إن جعلته حالاً مما تقدم لم تقف على { عَلَيِمٌ } وهو قول : أحمد بن يحيى . وفي هذه الآية ، قول غريب منه ما يوافق ما تقدم ، ومنه ما يخالف . ذكره الدمياطي في تفسيره وهو أن قوله { مَثَلُ نُورِهِ } أي مثل نور محمد عليه السلام إذ كان مستودعاً في صلب عبد المطلب كمشكاة يعني كوة غير نافذة على لغة الحبش ، { فِيهَا مِصْبَاحٌ } يعني قلب النبي ، شبهه بالمصباح في ضيائه ونوره لما فيه من الحكمة والإيمان . { ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } ، يعني قلبه في صدره { ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } ، أي صدره في صفاه ونوره لما فيه من الإيمان والحكمة { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } يعني الزهرة . { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } ، أي استنار نور محمد من نور إبراهيم ، فإبراهيم هو الشجرة المباركة ، ومحمد عليه السلام على ملته ودينه ، فمنه استنار ، ثم مثل إبراهيم فقال : { زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } ، أي إن إبراهيم لم يكن يصلي إلى المشرق ولا إلى المغرب فهو في الضياء مثل هذه الزيتونة التي لا تصيبها الشمس إذا طلعت ، ولا إذا غربت ، فزيتها أضوى وأطيب . وقيل معنى { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } ، أي إن إبراهيم لا يهودي ولا نصراني بل هو حنيف مسلم . وهذا التفسير مخالف في أكثره لجميع ما قدمناه . والله أعلم بحقيقة ذلك ، فهذا ما وصل إلينا في تفسير هذه الآية ، والله أعلم بصحة معناها وبما أراد فيها .