Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 35-40)

Tafsir: al-Hidāya ilā bulūġ an-nihāya

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ } الآية . المعنى سميع عليم إذ قالت . وقيل : واذكر إذ قالت . وقال أبو عبيدة : { إِذْ } زائدة ، وأنكر ذلك جماعة النحويين . وقال الزجاج : المعنى : اصطفى آل عمران إذ قالت . واسم امرأة عمران حنة ، وزكريا هو ابن آذر ، وعمران هو ابن ماتان وكلاهما من ولد داود النبي من سبط يهود بن يعقوب صلى الله عليهم وسلم أجمعين . وذلك أن زكريا وعمران تزوجا اختين ، فكانت أم مريم عند عمران ، وأم يحيى عند زكريا ، فهلك عمران ، وأم مريم حامل بها وكانت في حياة عمران قد أمسك عنها الولد حتى يبست ، وكانوا أهل بيت [ لهم ] عند الله مكان ، فبينا هي ذات يوم في ظل شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخاً ، فتحركت له نفسها للولد ، فدعت الله أن يهب لها ولداً ، فحملت ثم مات عمران ، فلما علمت أن في بطنها جنيناً حسبته ذكراً فنذرته ليكون حبيساً لخدمة الكنيسة ، وقيل : خدمة بيت المقدس . قال الكلبي : لما وضعتها لفتها في خرقتها ثم أرسلت بها إلى بيت المقدس ، فوضعتها فيه ، فتنافست الأحبار بنو هارون . فقال زكرياء : أنا أحقكم بها عندي خالتها ، فذروها لي . فقالت الأحبار : لو تركت لأفقر الناس إليها لتركت لأمها ، ولكنا نقترع عليها ، فاقترعوا عليها بأقلامهم [ التي ] . يكتبون بها الوحي ، فقرعهم زكريا عليه السلام ، واسترضع لها حتى إذا شبت بنى لها محراباً في المسجد على الباب فلا يرقى إليها إلا بِسلم . ومعنى { مُحَرَّراً } عتيقاً لعبادتك لا ينتفع به لشيء من أمور الدنيا . وقال مجاهد " محرراً خادماً للكنيسة . ونصب { مُحَرَّراً } على أنه نعت لمفعول محذوف أي : غلاماً محرراً . وكانوا إنما يحررون الغلمان ، فظنت أنها تلد غلاماً فلما وضعت أنثى قالت : { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } تريد أنه إنما يحرر الغلمان للخدمة . وقيل المعنى إن الأنثى تحيض فلا تصلح لخدمة بيتك . ثم دعت لها فقالت : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } فاستجاب الله لها وأعاذها وذريتها منه . وأصل المعاذ : الملجأ والمفعل ، والهاء في " وضعتها لما على المعنى . وقيل : لمريم ولم يجر لها ذكر ولكن المعنى مفهوم فحسن . ومن قرأ { وَضَعَتْ } بإسكان التاء ففي الكلام تقديم وتأخير تقديره : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } فهذا من كلامها ، ثم قال تعالى إخباراً منه { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } . ومن قرأ بضم التاء فليس فيه تقديم ولا تأخير وهذا كله من كلام أم مريم . وقرأ ابن عباس : " وضعتِ " بكسر التاء ومعْناه إنه خطاب من الله لها . قال ابن عباس : ما ولد مولود إلا قد استهل سوى عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فإنه لم يسلط عليه الشيطان لأن الله أجاب دعاء أم مريم في قولها : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ } الآية . قال وهب بن منبه : لما ولد عيسى صلى الله عليه وسلم أتت الشياطين إبليس فقالوا : أصبحت الأصنام قد انكسرت رؤوسها ! فقال : هذا في حادث حدث ، فقال : مكانكم ، وطار حتى جاء خافقي الأرض فلم يجد شيئاً ، ثم جاء البحار فلم يجد شيئاً ، ثم طار ثانية فوجد عيسى صلى الله عليه وسلم قد ولد عند مدوذ حمار ، والملائكة قد حفت به ، فرجع إليهم فقال لهم : إن نبياً قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها إلا هذه ، فيئسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة ، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة . وقال النبي عليه السلام " كل آدمي طعن الشيطان في جلده إلا عيسى ابن مريم وأمه جعل بينها وبينه حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ إليهما شيء " . وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من لمس الشيطان إياه إلا مريم وابنها " ( ثم ) يقول أبو هريرة : واقرأوا إن شئتم { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } . قوله : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } : أي : رضيها مكان المحرر { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } من غذائه . وقرأ مجاهد : وتقبلْها بالإسكان ، { رَبُّهَا } بالنصب عن النداء و " أنبتها " بكسر الباء والإسكان ، و " كفلْها " بالإسكان " زكرياءَ " بالنصب . وقوله : { بِقَبُولٍ } أتى مصدراً على غير المصدر ، وكان القياس ضم القاف كالجلوس ، ولكن أتى بالفتح فلا نظير له عند سيبويه . وقال غيره ، قد أتى منه الولوع والوجود والسعوط كل مصدر على فعول بالفتح . قوله : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } المد في زكرياء لغة ، وزكري لغة ، وزكر ، وحكى أبو حاتم بغير صرف ، وهو غلط عند النحويين لأن ما كانت في هذه الياء . والتخفيف في كفلها على أن زكريا الفاعل . ومن شدد فمعناه كفلها الله زكرياء لأنه تعالى أخرج قلمه إذ ساهم مع أحبار بني إسرائيل عليها من يكفلها . وكان زكريا زوج خالتها . وقيل زوج أختها كان . وامرأة زكريا بنت امرأة عمران ، فهي أخت مريم . وروي أن زكرياء كان ابن عم مريم أيضاً . فلما همت بالبلوغ فكانت تخدم في صغرها ( مسجد ) بيت المقدس ، أراد زكريا ، أن يكفلها ، وقال : هي ابنة عمي ، وأختها زوجتي ، فلم يتركها له جماعة الأحبار والأنبياء ، فتساهموا عليها ، وأتوا بسهامهم إلى عين ، فطرحوها فيها فغرقت سهامهم كلهم ، إلا سهم زكرياء ، فضمها زكرياء لنفسه فكانت عنده في غرفة بسلم . وقوله : { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } . قال الضحاك : كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف . وقال ابن إسحاق : كفلها زكرياء بعد هلاك أمها [ و ] ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها ، فأصابت بني إسرائيل شدة ، فضعف زكرياء عن حملها فتقارع بنو إسرائيل عليها : من يقوم بها ؟ وكلهم يشتكي من الشدة ما يشتكي زكرياء ، ولكن لم يكن لهم بد من حملها ، فخرج السهم لحملها على رجل نجار من بني إسرائيل يقال له جريج ، [ فعرفت مريم في وجهه شدة مؤونة ذلك عليه ، فقالت : يا جريج ] ، أحسن بالله الظن ، فإن الله سيرزقنا ، فجعل جريج يرزق بمكانها عنده فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها ، فينميه الله ويكثره ، فيدخل عليها زكريا ، فيرى عندها فضلاً من الرزق ليس بقدر ما يأتيها به جريج ، فيقول : { يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } أي : من أي وجه لك هذا ؟ فتقول : { هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } . قد تقدم في البقرة تفسير قوله { بِغَيْرِ حِسَابٍ } والاختلاف في ذلك . والمحراب : هو مقدم كل مجلس ومصلاه . وهو أيضاً : المكان العالي . فلما رأى زكرياء من الله لها ما رأى ، طمع بالولد مع كبر سنه من المرأة العاقر فدعا الله في الولد من ذلك الوقت ، وهو قوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } فبشر وهو يصلي بالمحراب . وقيل : بشر يحيى بعد أربعين سنة من وقت دعائه ولذلك قال عند البشارة : { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } لأنه نسي دعاءه لطول المدة التي كانت بين الدعاء والإجابة . والمحراب : المسجد ، وهو الآن مقام الإمام في المسجد . وقال الطبري : المحراب : " مقدم كل مجلس ومصلى " وهو سيد المجالس وأشرفها وأكرمها . والذرية في هذا الوضع : الولد ، ويكون في غيره للجميع . قوله : { مِن لَّدُنْكَ } أي : من عندك . ومعنى : { طَيِّبَةً } زكية مباركة . { إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } أي : تسمع من دعاك . قوله : { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } . قال قتادة وغيره : جبريل ناداه . وأكثر الناس على أن الجماعة من الملائكة نادوه . ومن أنَّثَ فلتأنيث الجماعة ومطابقة اللفظ . ومن ذَكَّر فعلى المعنى ، ولتذكر الجمع . ومن كسر ( إن ) أجرى النداء مجرى القول . [ وفي قراءة عبد الله : يا زكريا إن الله ، فهذا يدل على إضمار القول ] . ومن فتح : أعمل النداء لأنه فعل . وسمي يحيى بيحيى لأن الله أحياه بالإيمان . قوله : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } ، أي : بعيسى ابن بنت خالته " . وقيل : بابن خالته هو . قال الضحاك وغيره ، كان أول من صدق بعيسى يحيى . قال ابن عباس : كانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك ، فذلك تصديقه بعيسى وتقدمه في ذلك ، ويحيى أكبر من عيسى . وقال أبو عبيدة : { بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } ، أي : بكتاب من الله وأكثر المفسرين على أن الكلمة عيسى . وسمي كلمة لأن الناس يهتدون به . ويجوز أن يكون سمي كلمة لأنه من غير ذكر بقوله : " كن " أي : فهذه الكلمة . والسيد : الشريف في العلم والعبادة . وقال الضحاك : السيد الحليم التقي . وقال مجاهد السيد : الكريم . وقال عكرمة ، وابن زيد : ( السيد ) الذي لا يغلبه الغضب { وَحَصُوراً } ممتنعاً من جماع النساء لا يشتهيهن . وقيل : الحصور الذي لا يولد له ، وليس له ماء . وقيل : الهيوب . وقال ابن عباس : هو الذي لا ينزل الماء . وقال ابن المسيب : كان يحيى حصوراً معه مثل الهُدْبَة . وقيل : الحصور هنا هو الذي لا يأتي الذنوب كأنه محصور عنها أي : ممنوعاً منها . قال مالك : بلغني أن يحيى إنما قتل في امرأة ، وأن بختنصر لما دخل بيت المقدس بعد زمان طويل ، وجد دمه يفور لا يطرح عليه تراب ولا شيء إلا فار فسأل بني إسرائيل عن ذلك فقالوا : لا علم لنا ، هكذا وجدناه ، وأخبرنا آباؤنا بأنهم هكذا وجدوه ، فقال بختنصر : هذا دم مظلوم ، ولأقتلن عليه ، فقتل عليه سبعين ألفاً من المسلمين والكفار ، فهدأ بعد ذلك . وروي أن امرأة كانت طلبته فامتنع ، فاشتكت إلى صاحبها أنه طلبها فقتله . وروي أن جباراً من الجبابرة استفتاه : هل يتزوج بنت أخيه ؟ فمنعه من ذلك ، فسعت ابنة أخيه في قتله فقتل بها . قال ابن شهاب : كان يحيى ابن خالة عيسى وكان أكبر من عيسى . قال مجاهد : كان طعام يحيى العشب ، وإن كان ليبكي من خشية الله ما لو كان القار على عينيه يحرقه ، ولقد كان الدمع اتخذ مجرى في خدِّه . وقال أبو عبيدة ، الكلمة هنا : الكتاب يعني التوراة ، ولا يجوز أن يكون عيسى كلمة الله على الحقيقة لأنه مخلوق ، وكلمة الله غير مخلوقة . قوله { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } أي : من أي وجه وأنا كبير { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ } أي : بلغته { وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } . والعلة التي من أجلها سأل زكريا فقال : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } فإنه روي أنه لما سمع نداء الملائكة بالبشارة أتاه الشيطان فقال : إن الصوت الذي سمعت ليس من الله إنما هو من الشيطان ، فسأل عندما لبس عليه ليتثبت لا على طريق الإنكار بقدرة الله ولا لاعتراض لما يورد الله سبحانه وتعالى عن ذلك . وقال : لما سأل ( عن ذلك ) ليعلم هل من زوجته العاقر يكون ذلك ، أو من غيرها ؟ . وقيل : إنما سأل عن ذلك عن طريق التواضع والإقرار فكأنه يقول : بأي منزلة أستوجب هذا عندك يا رب … ! وقيل : إنما سأل : هل يرزق ذلك وهو شيخ وامرأته عاقر ، أو يرد شاباً ، وامرأته كذلك سالمة من العقم ؟ أم يرزقان ذلك على حالتهما ؟ فأجابه الله فقال { كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } ، أي : يولد العاقر والشيخ فلا يتعذر عليه شيء أراده . وقيل : إنما سأل لأنه نسي دعاءه بأن يهب له غلاماً ، وكان بين دعائه والبشارة بيحيى أربعين عاماً .