Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 4-4)
Tafsir: al-Hidāya ilā bulūġ an-nihāya
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } الآية ، المعنى : أولئك الذين هذه صفتهم هم المؤمنون حقاً . قال ابن عباس : { ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } ، أي : بَرِئُوْا من الكفر . وَهَذَا بَابٌ تُذْكَرُ فَيهَ حَقِيقَةُ الإِيمَانِ وَتَفْسِيرُهُ ، وَمَا رُوِيَ فِيهِ ، إِنْ شَاءَ اللهُ ، عز وجل . وحقيقة الإيمان عند أَهْلِ السُّنَّة : أنه المعرفة بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح ، وكذلك رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقالت المُرجئة الإيمان : قول ومعرفة بالقلب بلا عمل . وقال الجهمية الإيمان : المعرفة بلا قول ولا عمل . وأهل السنة والطريقة القويمة على أنه : المَعْرِفَةُ وَالقَوْلُ وَالعَمَلُ ، كما رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ إِجْمَاعِ الأُمَّةِ . قد أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على أنه من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ثم أخبر أن قلبه غَيْرُ مُصَدِّقٍ بشيء من ذلك ، أنَّهُ كَافِرٌ ، فدل على أَنَّ الاعتقاد لا بد منه . ثم أَجْمَعُوا على أَنَّ الكافل إذا قال : قد اعتقدت / في قلبي الإيمان ولم يقله ويسمع منه ، [ أن حكمه حكم الكافر ] حتى يقوله ويسمع منه ، فَإنَّ دمه لو قتل لا تلزم منه دية ، فدل على أن القول مع الاعتقاد لا بد منه . ثم أَجْمَعُوا على أن شهد الشهادتين ، وقال : اعتقادي مثل قولي ، ولكني لا أصوم ولا أصلي ولا أعمل شيئاً من الفروض أنه يستتاب ، فإن تاب وعمل وإلا قتل كما يقتل الكافر ، فدل على وجوب العمل . فصح من هذا الإجماع ، أن الإيمان هو الاعتقاد والقول والعمل ، وتمامه : موافقة السنة ، وقد قال الله تعالى : { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ } [ البينة : 5 ] ، ثم قال : { وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيِّمَةِ } [ البينة : 5 ] ، أي : دين الملة القيمة . ومن لم يقل : إن الله تعالى ، أراد الإقرار والعمل من العباد فهو كافر . فإن قيل : لو أن رجلاً أسلم فأقر بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، أيكون مؤمناً بهذا الإقرار أم لا ؟ قيل له : لا يطلق عليه اسم مؤمن إلا ونيته أنه إذا جاء وقت العمل عمل ما افترض عليه ، ولو علم منه وقت إقراره أنه لا يعمل لم يطلق عليه اسم مؤمن ، ولو أنه أقرّ في الوقت وقال : لا أعمل إذا جاء وقت العمل ، لم يطلق عليه اسم مؤمن . والأعمال لا يقبل منها إلا ما أريد به وجه الله ، ( سبحانه ) ، فأما من أراد بعمله مَحْمَدَةَ الناس وَرَايَا به فليس مما يقبله الله ، عز وجل ، وصاحبه في مشيئة الله سبحانه . وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أَوَّلُ مَا يُقْضَى فيه يوم القيامة ثلاثة : رجل استشهد فأمر به ، فَعَرَّفَهُ نِعمهُ فَعَرَفَهَا ؛ قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كَذبْتَ ولكن قاتلت ليقال : جَريءٌ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار . ورجل تَعَلَّمَ العلم وعَلَّمَهُ ، وقرأ القرآن ، فأُتِيَ به ، فعرَّفه نعمه ، فعرفها ، فقال : فما عملت فيها ؟ فقال : تعلمت فيك العلم وعلَّمته ، وقرأت فيك القرآن ، قال : كَذَبْتَ ، ولكنَّك تعلمت العلم ليقال : إنك عالم ، فقد قيل ، وقرأت القرآن ليقال : إنك قارئ ، فقد قيل ، ثم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار . ورَجل وسَّع الله عليه ، وأعطاهُ أنواع المال كله ، فَعَرَّفه نِعمه فَعَرَفَها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت في سبيل الله شيئاً تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال : جَوَادٌ ، فقد قيل ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فسحب على وجهه حتى ألقي في النار " . وروى أبو هريرة أيضاً ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " قال الله جلّ ذكره من قائل ، : أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ ، فمن عَمِل عَمَلاً أشرك فيه غيري ، فهو للذي أشركه ، وَأَنَا بَرِيءٌ منه " . وفي خبر آخر : " أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ " . وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أَشَدُّ النَّاسِ يوم القيامة عَذَاباً ، من يرى النَّاس أَنَّ فِيهِ خَيْراً وَلاَ خَيْرَ فِيهِ " . وعنه ، صلى الله عليه وسلم ، : " مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعمله ، سمَّع الله به يوم القيامة وصَغّرهُ وحَقَّرهُ " . وعنه ، صلى الله عليه وسلم : " مَنْ رَاءَا بأمر يريد به سُمْعَةً فإنه في مَقْتٍ من اللهِ عز وجل ، حتى يجلس " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " " لا تخادعوا الله فإنه من خادع الله بخدعة فنفسه يخدع لو يشعر " . قالوا : يا رسول الله ، وكيف يُخادع الله ، قال : " تعمل ما أمرك به تطلب غيره ، فاتقوا الرياء ، فإنه الشرك ، فإن المرائي يدعى يوم القيامة على / رؤوس الأشهاد بأربعة أسماء ، ينسب إليها : يا كافر ، يا خاسر ، يا فاجر ، يا غادر ، ضل أجرك ، وبطل عملك ، فلا خلاق لك اليوم ، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا خادع " " . وعنه ، صلى الله عليه وسلم ، : " إن أدنى الرِّياء شِرْكٌ " . فيجب على المؤمن الراجي ثواب الله عز وجل ، الخائف من عقابه ، سبحانه ، أن يخلص العمل لله سبحانه ، ويريد به وجهه ، تبارك وتعالى . وألاَّ يتباهى بعمله عند أحد فيشركه في علمه . فإنَّ عَمِلَ عاملٌ عَمَلاً مُخْلِصاً لله عز وجل ، في السر ، فَسُرّ به ، وأُعْجِبَ به إذ وفقه الله عز وجل ، لذلك فهو حسن ، وليس ذلك برياء ، وهو ممدوح إنْ سلم من الإعجاب بنفسه ؛ فَإنَّ الإعجاب ضَرْبٌ من التكبر ، والتكبر يُحْبِطُ الأَعْمَالَ . فإن ظَهَرَ عَمَلُهُ الذي أَسَرَّه للناس من غير أن يُشَهِّره هو على طريق الافتخار به ، فأثنوا عليه بفعله فَسَرَّه ذلك فليس برياء ، بل له أجر على ذلك ؛ لأن الأصل كان لله عز وجل ، والناس يَتَأَسَّونَ به في فعله . وقد روى أبو هريرة : " أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، دخل علي رجل وأنا أصل فأعجبني الحال التي رآني عليها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " فلك أجران : أَجْرُ السَّرِ ، وأَجْرُ العَلاَنِيَّة " " . وروى حبيب بن ثابت عن أبي صالح قال : " أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، [ رجل ] ، فسأله عن رجل يعمل العمل من الخير يُسِرُّه ، فإذا ظهر أعجبه ذلك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " له أجران : أجرُ السّرِّ وأجرُ العلانيَّة " " . وروى حبيب : " أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : يا رسول الله ، إنَّا نعمل أعمالاً في السر ، فنسمع الناس يذكرونها فيعجبنا أن تُذْكَر بِخَيْرٍ ، فقال : " لكم أجر السر وأجر العلانية " " . وقد روى أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وجد ذات ليلة شيئاً ، فلما أصبح قيل : يا رسول الله إن أثر الوجع عليك لبيّن ، فقال : " أما إني على ما ترون بحمد الله ، قد قرأت البارحة السبع الطُّوَلُ " " . وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استدعاءٌ بأن يعمل الناس مثل عمله ، ويرغبوا في الخير ، ويجتهدوا ، ولو وقع مثل هذا لمن صح قصده ونيته ، وأراد به مثل ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يرد المَحْمَدَةَ والافتخار ، لكان حسناً ، وصاحِبُهُ مَأْجُورٌ ؛ لأَِنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيَقْتَدَى بِهِ ، وَيَعْمَلَ مِثْلُ عَمَلِهِ ، وهذا طريق من الدعاء إلى الخير ، إذا صحت النية ، فهو طريق شريف غير مستنكر . فحق العامل المجتهد أن يُجْهِدَ نفسه في تكذيب وساوس الشيطان ، ولا يلتفت ما يوسوس إليه ، وليقبل على عمله بنية خالصة لله ، ويجهد نفسه في طاعة الله ، عز وجل ، والعمل لله ، سبحانه ، فلا شيء أبغض إلى الشيطان من طاعة العبد لربه ، ( عز وجل ) ، ولا شيء أسر إليه من عصيان العبد لربه ، سبحانه ، نعوذ بالله منه . فحسب أَهْلِ الخَيْرِ أن لا تأتي عليهم حال إلا وهم للشيطان مرغمون ، ولطمعه في أنفسهم حاسمون . فإن عجزوا عن ذلك في كل الأوقات فليفعلوه في حال اشتغالهم بأعمال الطاعة حتى تخلص أعمالهم لله عز وجل ، وتسلم من الشيطان من أولها إلى آخرها فإن عجزوا عن ذلك فلا يعجزوا عن أن يكون ذلك منهم في أول أعمالهم ، وفي آخرها ، فإن عجزوا عن / ذلك ، فلا بد من إخلاصها في أولها ليكون الابتداء بالنية لله عز وجل ، والإخلاص له ، سبحانه ؛ فإنه إذا كان [ ذلك ] كذلك ، ثم عرض في أضعاف العمل عوارض الشيطان ووساوسه ، رجي له ألا يضره ذلك ، فإن عجز عن ذلك وغلبه الشيطان حتى ابتدأ بغير إخلاص . ثم حدث له في بعض العمل إخلاص وإنابة عما فعل رجي له ، لقوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] . فإن ابتدأ بغير إِخْلاَصٍ وتمادى حتى فرغ عن ذلك ، كان ثمرة عمله سخط ربه . والله عز وجل ، حسن العفو كريم . روينا في بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أَنَّ الرجل إذا ابتدأ العمل بنية لله ، عز وجل ، ثم عرض له الشيطان في آخر عمله فَغَيّر نيته ، أن الله سبحانه ، يعفو له عما عرض له ، ويكتب له عمله على ما ابتدأه به ، وأَنَّ الرجل ليبتدئ بالعمل بغير نية ، فتحدث له نية لله عز وجل ، في آخره أن الله ، يعفو له عن أوله ، ويكتب له عمله على ما حدث له في آخره " هذا معنى الحديث الذي روينا ، وهو حديث مشهور بنحو هذا اللفظ وبمثله في المعنى . فقال ابن حازم : انظر إلى العمل الذي تُحِبُّ أن يأتيك الموت وأنت عليه ، فخذه الساعة ، وإذا قال لك الشيطان : أنت مُراءٍ فلست مرائياً ، وإذا خرجت من بيتك ، وأنت صادق النية ، فلا يضرك ما جاء به الشيطان . وكان رجل حَسَنُ الصَّوْتِ بالقرآن يأتي الحسن ، فربما قال له الحسن : اقرأ ، فقال : يا أبا سعيد ، إني أقوم من الليل فيأتيني الشيطان إن رفعت صوتي ، فيقول : إنما تريد الناس ، فقال له الحسن : لك نيتك إذا قمت من فراشك . فالشيطان ، عليه لعنة الله ، عدو الله ، سبحانه ، لطيف المدخل لابن آدم ، كثير الرصد له بما يُوبِقُهُ . قد أَوْبَقَ كثيراً من القرون السالفة ، فَنَفَذَت فيهم سهامه ، وصدق عليهم ظنه ، فاللَّجَأُ منه إلى الله ، عز وجل ، والمستغاث على دفع شره الله ، تبارك وتعالى . وروى معقل بن يسار عن أبي بكر الصديق ، ( رضي الله عنه ) ، أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " " الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ " . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، وهل الشرك إلا أن يُدعى مع الله إله آخر ، فقال : " الشِّرْكُ أَخْفَى فِيكُمْ مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ " ثم قال : " يا أبا بكر ، ألا أدلك على ما يذهب صغير ذلك وكبيره ؟ قُلْ : اللَّهُمَّ إِنِي أَعُوذَ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ أَعْلَمُ " " . قوله : { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2 ] . أي : يَكِلُونَ أمرهم إلى الله ( سبحانه ) . وَهَذَا بَابٌ يُذْكَرُ فِيهِ بَعْضُ مَا رُوِيَ في التَّوكُّلِ وَصِفَتِهِ وَفَضْلِهِ . روى ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ سَرَّهُ أن يكون أكرم الناس فليتق الله ، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه " . روى عمر رضي الله عنه ، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو أنكم تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوكُّلِهِ ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ ، تَغْدُو خِمَاصاً ، وَتَرُوحُ بِطَاناً " . وعن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من انقطع إلى الله كفاه كُلَّ مُونَتِهِ ورزقه / من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وَكَلَهُ الله إليهاً " . وروى أبو سعيد الخدري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لَوْ فَرَّ أَحَدَكُمْ مِنْ رِزْقِهِ لأَدْرَكَهُ كَمَا يُدْرِكُهُ المَوْتُ " . وعن أبي ذر مثله . وقد قال الله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } [ الطلاق : 3 ] . وقال : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا } [ التوبة : 51 ] . وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم : " يقول الله ، جلّ ذكره : يَابْنَ آدم تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأُ صدرك غِنىً ، وأَسُدَّ فقرك ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَلأَتْ صَدْرَكَ شُغْلاً وَلَمْ أَسُدَّ فُُقْرَكَ " . وعن أبي [ بن ] كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَانَتْ نِيّتَهُ الآخِرَةَ جعل الله غناه في قلبه ، وكَفَّ عنه ضَيْعَتَهُ ، وأَتَتْهُ الدُّنْيا [ وهي ] رَاغِمَةٌ ، ومن كانت نيته الدنيا شتت الله ، عز وجل ، عليه ضَيْعَتَه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له " . وعن زيد بن ثابت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول : " مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا نِيَّتَهُ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ ، وجعل فقره بين عينيه ، ومن كانت نيته الآخرة جمع الله [ له ] أمره وجعل غناه في قلبه وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ " . وفي هذه الآية دلالة على زيادة الإيمان ونقصه ؛ لأن قوله : { زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً } [ الأنفال : 2 ] ، يَدُلُّ على نقصٍ كان قبل الزيادة . وعن أبي الدرداء ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تَفَرَّغُوا مِنْ هُمُومِ الدُّنْيا ما استطعتم ، فإنه من كانت الدنيا أكْبَر همِّهِ ، أقضى الله عليه ضَيْعَةَ ، وجعل فقره بين عَيْنَيْه ، ومن كانت الآخرة أكبر همه جمع الله أمره وجعل غناه في قلبه ، وما أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة ، وكان الله إليه بكل خَيْرٍ أَسْرَعَ " . والتوكل على الله ، عز وجل عند أهل النظر والمعرفة بالأصول ، هو : الثقة بالله ، سبحانه ، في جميع الأمور ، والاستسلام له ، ( عز وجل ) ، والمعرفة بأَنَّ قضاءه ماضٍ ، واتباع أمره ، وليس هو أن يطرح العبد بنفسه فلا يخاف شيئاً ولا يحذر أمراً ، ويلقى بنفسه في التهلكة ؛ لأن الله ، سبحانه ، يقول لأصحاب نبيه ، عليه السلام : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } [ البقرة : 197 ] ، فأمرهم أن يتزودوا في أسفارهم : لأنهم كانوا ربما خرجوا بلا زاد ، فليس يجوز لأحدٍ أن يلقى عَدُوَّه بغير سلاح ولا عُدّةٍ ويجعل هذا تَوَكُلاً . فقد لَبِسَ النبي صلى الله عليه وسلم ، السلاح ، وقال الله ، عز وجل ، : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ } [ الأنفال : 60 ] . وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر الغار . ودخل مكة وعلى رأسه المِغْفَرُ ، وخرج يوم أُحد وعليه درعان . وفرّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى أرض الحبشة ، وإلى المدينة بعد ذلك خوفاً على أنفسهم ، فلو كان من التوكل إلقاء العبد نفسه في التهلكة ، وترك الاحتراز من المَخُوفِ ، ولَقْيُ العدو بغير سلاح ، ومباشرةُ السباع ، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه أولى بذلك بل خافوا وفرُّوا ، وسلحوا واحترزوا . وقد حكى الله عز وجل ، عن موسى ، عليه السلام ، الخَوْفَ فقال : { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 21 ] ، وقال : { فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 18 ] ، وقال : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ * قُلْنَا لاَ تَخَفْ } [ طه : 67 - 68 ] . فالملقي بيده إلى التهلكة من عدو أو سبع ، ولا علم عنده أن الله عز وجل ، لا يسلطه عليه آثم في نفسه ، مُعِينٌ على قتل نفسه ، مُجَرِّبٌ لقدرة ربه ، جلت عظمته ، مُعْجَبٌ بنفسه ، دَالٌ على ربه ، سبحانه ، / وليس هذا من صفات الصالحين ، بل أنفسهم عندهم أَنْقَصُ وَأَذَلُّ ، هم وَجِلُون ألا تقبل منهم أعمالهم ! فكيف يدلون بأعمالهم ! قال الله عز وجل : { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [ المؤمنون : 60 ] ، أي : يعلمون ما عملوا من الخير وهم خائفون ألاَّ يقبل منهم [ عملهم ] ، فهذه صفات الصالحين . ليس صفاتهم الإعجاب بأعمالهم والدالة على الله عز وجل ، بأفعالهم ، وقد قال عمر : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَظَلُّ اليوم يلتوى ، ما يجد ما يملأ به بطنه . وقد روي عَمَّنْ مضى ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه من الجوع والشدة ما لا يُحْصَى . فهذا يدفع قول من يدعي في توكله نزول الطعام الكَوْنِي ، ووجود الرُّطَب في غير وقته ، وشبه ذلك من المعجزات التي لا تكون إلاَّ للنبي ، تدل على صدقه في ما أتى به . فأما كرامات الله ، سبحانه لأوليائه وإجابة دعائهم ، فليس ينكر ذلك أحدٌ مِنْ أهْلِ السُّنَّة ، وإنما ينكرون على ما أجاز حدوث المعجزات على يدي غير الأنبياء ؛ لأن في ذلك إبطال النبوة وهدم الشريعة . وقوله : { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } . الدَّرجات : منازل ومراتب رفيعة في الجنة بقدر أعمالهم . قال مجاهد [ الدَّرَجَات ] : أعمال رفيعة . وقال ابن مُحَيْرِيز الدَّرَجَاتُ : سبعون درجة ، كل درجة خطو الفرس الجواد المُضَمَّر ستين سنة . { وَمَغْفِرَةٌ } ، أي : مغفرة لذنوبهم ، { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } : الجنة . قال الضحاك : أهل الجنة بعضهم فوق بعض ، فيرى الذي فوق ، فضله على الذي أسفل منه ، ولا يرى الأسفل أنه فضل عليه أحد .