Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 1, Ayat: 2-4)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قولهُ عز وجلَّ : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } . احتمل أن يكون جلَّ ثناؤُه حمدَ نفسه ؛ ليُعلِم الخلقَ استحقاقَه الحمد بذاته ؛ فيَحمَدوهُ . فإن قيل : كيف يجوز أن يحمدَ نفسه ، ومثلهُ في الخلق غير محمود ؟ ! قيل له : لوجهين : أحدهما : أَنَّه استحقَّ الحمدَ بذاته ، لا بأَحدٍ ؛ ليكون في ذلك تعريفُ الخلقِ لما يُزلفُهم لديه بما أَثْنَى على نفسه ؛ ليُثْنُوا عليه . وغيرُه إنما يكون ذلك له به - جل وعز - فعليه : توجيه الحمد إليه لا إلى نفسه ؛ إذ نفسُه لا تستوجبه بها ، بل بالله تعالى . والثاني : أَن الله تعالى حقيق بذلك ؛ إذ لا عيب يمسُّهُ ، ولا آفة تحل به فيدخل نقصان في ذلك . ولا هو خاصّ بشيء . والعبْدُ لا يخلو عن عيوب تمسُّه ، وآفات تحل به ، ويُمدح بالائتمار ، ويذم بتركه . وفي ذلك تمكن النقصان ، وحق لمثله الفزع إلى الله ، والتضرع إليه ، ليتغمدهُ برحمته ، ويتجاوز عن صنيعه . وعلى ذلك معنى التكبير ، نحمد به ربنا ولا نحمد غيره ؛ إذ ليس للعبد معنى يستقيم معه تكبُّره ، إذ هُم جميعاً أَكفاء من طريق المحبَّة ، والخلق ، وما أَدرك أَحدٌ منهم من فضيلة أو رفعة فبالله أدركه ، لا بنفسه ؛ فعليه تنزيه الرب ، والفزعُ إليه بالشكر ، لا بالتكبر على أمثاله . والله عن هذا الوصفِ مُتَعَالٍ . ويحتمل أن يكون قوله : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } على إضمار الأَمر ، أي : قولوا : الحمد لله ؛ لأن الحمد يضاف إلى الله ، فلا بد من أن يكون له علينا ؛ فأَمرَ بالحمد لذلك . ثم يخرج ذلك على وجهين : أحدهما : ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : " الحمد لله : أي الشكر لله بما صنع إلى خلقه " . فيخرج تأويل الآية على هذا ؛ لأنه - على هذا الترتيب - على الأَمر بتوجيه الشكر إليه ، وذلك بتضمن الأَمر أيضاً بكل الممكن من الطاعة على ما روي عن النبي - عليه السلام - " أَنَّه صَلَّى حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فقِيلَ لَهُ : أليسَ قَدْ غَفَرَ اللهُ لكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ : أَفلا أكونُ عَبْداً شَكُوراً " فصيَّر أَنواع الطاعات شكراً له ، فمن أَطاع الله - تعالى - فقد شكر له ، فيخرج تأْويل الآية على هذا . والوجه الثاني : أنه يخرج مخرج الثناء على الله - عز وجل - والمدح له ، والوصفِ بما يستحقه ، والتنزيه عما لا يليق به ، من توجيه النعم إليه ، وقطع الشركة عنه في الإنعام والإفضال على عباده . وعلى ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَن الله - عز وجل - يقول : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد : الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمين ، قال الله تعالى : حَمِدَني عَبْدي " ؛ فجعل الحمدَ هذا الحرف ، وصيَّر منه ثناءً ؛ لوجهين : أحدهما : أنه نسب الربوبية إليه في جميع العالم ، وقطعها عن غيره . والثاني : أَنه سَمَّى ذلك صلاةً ، والصلاةُ اسْم للثناءِ والدعاءِ ، وذلك خلاف الذم ونقيضه . وفي الوصف بالبراءَة من الذم مدحٌ ، وثناءٌ بغاية المدح والثناءِ ؛ ولذلك يفرق القول بين الحمد والشكر ؛ إذ أُمِرْنا بالشكر للناس بما جاءَ عن رسول الله - عليه السلام - : " إنَّ من لم يَشكُرِ النَّاس لم يشكرِ الله " صيره بمعنى المجازاة ، والحمدُ بمعنى الوصف بما هو أَهله ؛ فلم يُسْتَحَب الحمد إلا لله . وبالله التوفيق . وقوله : { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } . رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : " سيد العالَمين " . والعالم : كل من دَبَّ على وجه الأرض . وقد يتوجه : الربُّ " إلى الرُّبُوبية لا إلى السؤدد ؛ إذ يستقيم القول برب كل شيء من بني آدم و غيره ، نحو رب السماوات والأرضين ، ورب العرش ونحوه ، وغير مستقيم القول بسيد السماوات ونحوه . وقد يتوجه اسم الرب إلى المالك ؛ إذ كل من يُنْسب إليه الملك يُسمَّى أنه مالكه . ولا يُسمَّى أنه سيد إلا في بني آدم خاصةً . واسم الرب يجمع ذلك كلَّه ؛ لذلك كان التوجيه إلى المالك أقرب ، وإن احتمل المروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - إذا هو في الحقيقة سيِّدُ من ذُكِر ورَبُّهم . والله الموفق . ثم اختلَف أَهلُ التفسير في العَالَمِين : فمنهم من رد إلى كل ذي روح دب على وجه الأرض . ومنهم من رد إلى كل ذي روح في الأَرض وغيرها . ومنهم من قال : لله كذا ، كذا عالم . والتأْويل عندنا ما أجمع عليه أَهل الكلام : أن العالَمين : اسم لجميع الأَنام والخلق جميعاً . وقول أَهلِ التفسير يرجع إلى مثله ، إلا أَنهم ذكروا أَسماءَ الأَعلام ، وأَهل الكلام ما يجمع ذلك وغيرَهم . ثم العالَم اسم للجميع ، وكذلك الخلق ، ثم تعريف ذلك بالعالَمين والخلائق يتوجه إلى جمع الجمع ، من غير أن يكون في التحقيق تفاوتٌ ، وقد يتوجه إلى عالم كل زمان وكذا خلقِ كل زمان على حكم تجدد العالم . وبالله التوفيق . وفي ذلك أن الله - عز وجل - ادعى لنفسه : رب العالمين كلهم ، من تقدم وتأَخر ، ومن كان ويكون ، لم يَقْدر أَحد أَن ينطق بالتكذيب ، يدَّعي شيئاً من ذلك لنفسه ؛ فدل ذلك على أن لا رب غيره ، ولا خالق لشيء من ذلك سواه ؛ إذ لا يجوز أَن يكون حكيم أَو إليه ينشىء ويبدع ولا يدعيه ، ولا يفصل ما كان منه ما كان لغيره ، وبنفسه قام ذلك لا بغيره ؛ وعلى ذلك معنى قوله تعالى : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ } [ المؤمنون : 91 ] فهذا - مع ما في اتِّساق التدبير ، واجتماع التضاد ، وتعلق حوائج بعضٍ ببعض ، وقيام منافع بعضٍ ببعض ، على تباعد بعضٍ من بعض وتضادها - دليلٌ واضح على أن مدبر ذلك كله واحد ، وأَنه لا يجوز كون مثل ذلك من غير مُدبِّر عليم . والله المستعان . وقوله : { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } . اسمان مأْخوذان من الرحمة ، لكنه رُوِي فيهما : رقيقان أَحُدهما أَرقُّ من الآخر ، وكأن الذي رُوِي عنه هذا أَراد به لطيفان أَحُدُهما أَلطف من الآخر ، دليل ذلك وجهان : أَحدهما : مجيء الأَثر في ذلك - اللطيف - في أسماء الله تعالى مع ما نطق به الكتاب ، ولم يذكر في شيء من ذلك رقيق . ومعنى اللطيف : استخراج الأُمور الخفية وظهورها له ؛ كقوله : { إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } إلى قوله : { لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] ، وبالله التوفيق . والثاني : أن اللطيفَ حرف يدل على البرِّ والعطفِ . والرقة على رقة الشيء التي هي نقيض الغلظ والكثافة كما يقال : فلان رقيق القلب . وإذا قيل : فلان لطيف ، فإنما يراد به بارٌّ : عاطف ؛ فلذلك يجوز : لطيف ، ولا يجوز : رقيق ، وكذلك فسر من فسر " الرحمن " بالعاطف على خلْقه بالرزق . وذهب بعضهم - وهو الأول - إلى اللطافة وذلك بعيد ، وإنما هو من اللُّطف . وقوله : أَحدُهما أَرق من الآخر ، بمعنى اللطف - يحتمل وجهين : أحدهما : التحقيق بأَن اللطف بأَحد الحرفين أَخص وأَليق ، وأَوفر وأَكمل ، فذلك رحمته بالمؤمنين أنه يقال : رحيم بالمؤمنين على تخصيصهم بالهداية لدينه ؛ ولذا ذكر أُمته وإن أشركهُم في الرزِق فيما يراهم غيرهم ؛ ألا ترى أنه لا يقال : رحمن بالمؤمنين ، وجائز القول : رحيم بهم ، وكذلك لا يقال : رحيم بالكافرين ، مطلقاً ؟ ! وبالله التوفيق . ووجه آخر : أَن أحدهما أَلطف من الآخر ؛ كأنه وصف الغاية في اللطف حتى يتعذر وجه إدراك ما في كل واحد منهما من اللطف ، أو يوصف بقطع الغاية عما يتضمنه كل حرف . وبالله التوفيق . ثم في هذا أن اسم " الرحمن " هو المخصوص به الله لا يسمى به غيره ، و " الرحيم " يجوز تسمية غيره به ؛ فلذلك يوصف أن " الرحمن " اسم ذاتي ، و " الرحيم " فِعْلي ، وإن احتمل أن يكونا مشتقين من الرحمة ؛ ودليل ذلك : إنكار العرب " الرحمن " ، ولا أحد منهم أنكر " الرحيم " ، حيث قالوا : { قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } [ الفرقان : 60 ] وذلك قوله : { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } [ الإسراء : 110 ] يَدُل على أنَّه ذاتيٌّ لا فعليٌّ ، وإن كان الفعل صفة الذات ؛ إذ محالٌ صفته بغيره ؛ لما يوجب ذلك الحاجة إلى غيره ليحدث له الثناءَ والمدح . وفي ذلك خَلَق الخلق لنفع الامتداح ، وهو عن ذلك متعالٍ ، بل بنفسه مستحقٌّ لكل حمدٍ ومدح ، ولا قوة إلا بالله . وروي في خبر القسمة : " أَن العبد إذا قال : الرحمن الرَّحيم ، قال الله تعالى : أَثنى عليَّ عبدي ، وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدني عبدي " وذكر أنه قال في الأول : بالتمجيد ، وفي الثاني : بالثناء ، وذلك واحد ؛ لأن معنى الثناء الوصف بالمجد والكرم والجود ، والتمجيد هو الوصف بذلك ، وبالله التوفيق . ثم أُجمع على أن قوله : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } أنه يوم الحسابِ والجزاءِ . وعلى ذلك القول : { أَءِنَّا لَمَدِينُونَ } [ الصافات : 53 ] ، وقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ } [ النور : 25 ] وهو الجزاء . ومن ذلك قول الناس : " كما تدين تدان " . وجائز أن يكون { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } على جعل ذلك اليوم لما يدان اليوم ؛ إذ به يظهر حقيقتُه ، وعِظمُ مرتبته ، وجليلُ موقعه عند ربه . وفي الآية دلالة وصف الرب بملكِ ما ليس بموجود لوقت الوصفِ بملكه ، وهو يوم القيامة . ثبت أن الله بجميع ما يستحق الوصف به يستحقه بنفسه لا بغيره . ولذلك قلنا نحن : هو خالق لم يزل ، ورحيم لم يزل ، وجواد لم يزل ، وسميع لم يزل - وإن كان ما عليه وقع ذلك لم يكن - وكذلك نقول : هو رب كل شيء ، وإله كل شيء في الأزل - وإن كانت الأَشياء حادثة - كما قال : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } وإن كان اليومُ بعدُ غير حادثٍ . وبالله التوفيق .