Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 1, Ayat: 5-7)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } . فهو - والله أعلم - على إضمار الأَمر ، أي : قل : ذا . ثم لم يجعل له أن يَسْتثنى في القول به ، بل ألزمه القول بالقول فيه . ثم هو يتوجه وجهين : أحدهما : يحال القول به على الخبر عن حاله ؛ فيجب ألا يستثنى في التوحيد ، وأن من يَسْتَثْني فيه عن شَكٍّ يُسْتَثْنَى . والله - تعالى - وصف المؤمنين بقوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ … } الآية [ الحجرات : 15 ] . وكذلك " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال : " إيمان لا شكَّ فيه " " . والثاني : عن الأحوال التي ترد في ذلك . لكنه إذا كان ذلك على اعتقاد المذهب لم يجز الشك فيه ؛ إذ المذاهب لا تعتقد لأوقات ، إنما تعتقد للأبد ؛ لذلك لم يجز الثناء فيه في الأبد . وبالله التوفيق . ثم قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } يتوجه وجهين : أحدهما : إلى التوحيد ، وكذا رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : " كُلُّ عبادةٍ في القرآنِ فهو توحيدٌ " . والوجه الآخر : أن يكون على كل طاعة أن يعبد الله بها ، وأصلها يرجع إلى واحد ؛ لما على العبد أن يوحد الله - تعالى - في كل عبادة لا يُشرك فيها أحداً ، بل يخلصها فيكون موحِّداً لله تعالى بالعبادة والدين جميعاً . وعلى ذلك قطعُ الطمع ، والخوف ، والحوائج كلها عن الخلقِ . وتوجيهُ ذلك إلى الله تعالى بقوله : { أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } [ فاطر : 15 ] وعلى ذلك المؤمن لا يطمعُ في الحقيقة بأحدٍ غير الله ، ولا يرفع إليه الحوائج ، ولاَ يخاف إلا من الوجه الذي يخشى أن الله جعله سبباً لوصول بلاءٍ من بلاياه إليه على يديه ؛ فعلى ذلك يخافُه ، أو يرجو أن يكون الله تعالى جعلَ سببَ ما دفعه إليه على يديه ، فبذلك يرجو ويطمع ، فيكون ذلك من الضَّالِّين ، فيكون في ذلك التعوُّذُ من جميع أنواع الذنوب ، والاستهداءُ إلى كل أنواع البر . وقوله : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . فذلك طلب المعونة من الله تعالى على قضاء جميع حوائجه ديناً ودنيا . ويحتمل أن يكون هو على أثر الفزع إلى الله بقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } على طلب التوفيقِ لما أَمر به ، والعصمة عما حذَّره عنه ، وكذلك الأَمر البيّن في الخلق من طلب التوفيق ، والمعونة من الله ، والعصمةِ عن المنهي عنه جرت به سنة الأَخيار . والله الموفق . ثم لا يصلح هذا على قول المعتزلة ؛ لأن تلك المعونةَ على أَداءِ ما كلف قد أَعطى ؛ إذ هو على قولهم لا يجوز أن يكون مكلفاً قد بقي شيء - مما به أَداءُ ما كلف - عند الله ، وطلبُ ما أُعْطِي كتمانُ العطيةِ ، وكتمانُ العطيةِ كفرانٌ ؛ فيصير كأَنَّ الله أَمر أَن يَكْفُر نعمَهُ ويكتمها ويطلبها منه تعنتاً . وظنُّ مثله بالله كفرٌ . ثم لا يخلو من أَن يكون عند الله ما يُطْلب لم يُعطه التمام إذاً ، أَوْ ليس عندهُ فيكون طلبه استهزاءً به ، إذ مَنْ طَلَب إلى آخَرَ مَا يَعْلم أنه ليس عنده فهو هازئ به في العرف ، مع ما كان الذي يُطلب إما أن يكون لله ألا يعطيه مع التكليف فيبطل قولهم ؛ إذ لا يجوز أَن يكلف وعنده ما به الصلاح في الدين فلا يعطى ، أَوْ ليس له أَلا يعطى فكأَنه قال : اللهم لا تَجُرْ . وَمَنْ هذا عِلْمهُ بربه فالإسلام أَولى به ، وهذا مع ما كان لا يدعو الله أَحدٌ بالمعونة إلا ويطمئن قلبهُ أَنه لا يذل عند المعونة ، ولا يزيغ عند العصمة ، وليس مثلهُ يملك الله عند المعتزلة . ولا قوة إلا بالله . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خبر القسمة : " الله يقول : هذا بَيْني وبينَ عبْدي نِصْفين " . وذلك يحتمل : أن يكون كل حرف من ذلك بما فيها جميعاً الفزعُ إلى الله بالعبادة ، والاستعانة ورفع الحاجة إليه ، وإظهار غناه - جل وعلا - عنه ؛ فيتضمن ذلك الثناء عليه ، وطلب الحاجة إليه . ويحتمل : أن يكون الحرفُ الأَول لله بما فيه عبادتُه وتوحيدهُ ، والثاني للعبد بما فيه طلبُ معونته وقضاءُ حاجته . ويؤيد ذلك بقية السورة أنه أُخرج على الدعاء فقال الله - عز وجل - : " هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل " . وقوله : { ٱهْدِنَا } . قال ابنُ عباس - رضي الله عنهما - : أرْشِدْنا . والإرشاد ، والهداية واحد ، بل الهدايةُ في حق التوفيق أقربُ إلى فهم الخلق من الإرشاد بما هي أعم في تعارفهم . ثم القول بالهداية يُخرَّج على وجوهٍ ثلاثة : أحدها : البيانُ . ومعلومٌ أن البيانَ قد تقدم من الله لا أحد يريد به ذلك لمضى ما به البيان من كتابٍ وسنةٍ ، وإلى هذا تذهب المعتزلة . والثاني : التوفيقُ له ، والعصمةُ عن زيغة . وذلك معنى قوله : " اللهمَّ اهْدِنَا فيمَنْ هَدَيْتَ " ، وقوله : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ ٱلَّذِينَ } وصَفَهم إلى آخر السورة ، ولو كان على البيان على ما قالت المعتزلة فهو والمغضوب عليهم في ذلك سواء ، فثبت أَنه على ما قلنا دون ما ذهبوا إليه . والثالث : أَن يكون على طلب خلق الهداية لنا ؛ إذ نسب إليه من جهة الفعل ، وكل ما يفعله خلق ؛ كأَنه قال : اخلُق لنا هدايتنا ، وهو الاهتداءُ منا . وبالله التوفيق . ثم تأويل طلب الهداية ، ممن قد هداه الله يتوجه وجهين : أحدهما : طلب الثبات على ما هداه الله ، وعلى هذا معنى زيادات الإيمان ، أنها بمعنى الثبات عليه ، وذلك كرجلين ينظران إلى شيء فيرفع أَحدهما بصره عنه ، جائز القول بازدياد نظر الآخر . ووجه آخر : على أن في كل حال يخاف على المرءِ ضد الهدى ، فيهديه مكانه أبداً فيكون له حكم الاهتداءِ ؛ إذْ في كل وقت إيمانٌ منه دفع به ضده . وعلى ذلك قوله : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ … } الآية [ النساء : 136 ] ونحو ذلك من الآيات . وقد يحتمل أيضاً معنى الزيادةِ هذا النوعُ . وبالله التوفيق . وأما { ٱلصِّرَاطَ } فهو الطريق والسبيل في جميع التآويل وهو قوله : { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي … } الآية [ الأنعام : 153 ] ، وقوله : { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ } [ يوسف : 108 ] . ثم اختلفوا فيما يراد به : فقال بعضهم : هو القرآن . وقال بعضهم : هو الإيمان . وأيهما كان فهو القائم الذي لا عوج له ، والقيِّم الذي لا اختلاف فيه ، مَنْ لزِمهُ وصَلَ إلى ما ذكر . وبالله التوفيق . وقوله : { ٱلْمُسْتَقِيمَ } . قيل : هو القائم بمعنى الثابت بالبراهين والأَدلة ، لا يُزيله شيء ، ولا ينقضُ حُجَجه كيدُ الكائدين ، ولا حيلُ المريبين . وقيل : { ٱلْمُسْتَقِيمَ } الذي يستقيم بمن تمسك به حتى يُنجيه ، ويدخله الجنة . وقيل : { ٱلْمُسْتَقِيمَ } بمعنَى : يُستقامُ به ؛ كقوله : { وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } [ النمل : 86 ] ، أي : يُبْصَرُ به . يدل عليه قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ … } الآية [ فصلت : 30 ] ، فالمستقيم هو المتبع له . وبالله التوفيق . ثم ذكر من ذكر من المُنعَم عليهم ؛ ولله على كل مؤمن نعَمٌ بالهداية . وما ذكر دليل على أن " الصراط " هو الدين ؛ لأَنه أنعم به على جميع المؤمنين . لكن تأْويل من يردُّ إلى الخُصوص يتوجه وجهين : أحدهما : أنه أَنعم عليهم بمعرفة الكتب والبراهين ، فيكون على التأْويل الثاني من القرآن والأدلة . والثاني : أن يكون لهم خصوص في الدين قُدِّموا به على جميع المؤمنين ؛ كقول داود ، وسليمان : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النمل : 15 ] ، وعلى هذا الوجه يكون { ٱهْدِنَا } . ووجه آخر : وهو المخصوص الذي خص به كثيراً من المؤمنين من بين غيرهم ، لكن الثُّنْيَا يدل على صرف الإرادة إلى جملة المؤمنين ؛ إذ انصرف إلى غير المغضوب عليهم ولا الضالين . وقولَهُ : { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } . على قول المعتزلة : ليس لله على أحد من المؤمنين نعمة ليست على المغضوب عليهم ولا الضالين ؛ إذ لا نعمة من الله على أحد إلا الأَصلح في الدين والبيان للسبيل المرضي ، وتلك قد كانت على جميع الكفرة فيبطل على قولهم الثُّنْيَا . والله الموفق . ثم اختلف فى { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } . منهم من قال : هو واحد ؛ إذ كل ضال قد استحق الغضب عليه ، وكل مغضوب عليه استحق الوصف بالضلال . ومنهم من قال : { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } هم اليهود ، وإنما خصوا بهذا : بما كان منهم من فضل تمرد وعُتُو لم يكن ذلك من النصارى نحو إنكارهم بعيسى ، وقصدهم قتله مما لم يكن ذلك من النصارى . ثم قولهم في الله : { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ … } الآية [ المائدة : 64 ] . وقولهم : { لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ … } الآية [ آل عمران : 181 ] . وقول الله تعالى فيهم : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ … } الآية [ المائدة : 82 ] . وكفرِهم برسول الله صلى الله عليهم وسلم بعد استفتاحهم ، وشدة تعنتهم ، وظهور النفاق ؛ فاستحقوا بذلك اسم الغضب عليهم ، وإن كانوا شركاء غيرهم في اسم الضلال . وبالله التوفيق . وفي هذا وجه آخر : أَن يُحْمل الذنوب على وجهين : منها ما يوجب الغضب : وهو الكفر - ومنها ما يوجب اسم الضلال - وهو ما دونه - كقول موسى : { فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ } [ الشعراء : 20 ] . ورؤية الهداية لأَهلها والتعوذ به من كل ضلال ، ومن جميع ما يوجب مقته وغضبه - وبالله النجاة والخلاص - مع ما في خبر القسمة ، وعد جليل من رب العالمين في إجابة العبد مما يرفع إليه من الحوائج ، إذْ قال : " قسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين " ثم صَيَّر آخر السورة لعبده ، وليس في صلاته سوى إظهار الفقر ، ودفع الحاجة ، وطلب المعونة ، والاستهداء إلى ما ذكر مع التعوذ عما وصف ، وليس ذلك مما يوصف به العبد أَنَّه له ؛ فثبت أن له في ذلك إجابة ربه فيما أمره به ، ووعد ذلك ، وهو لا يخلف وعده . فأَنَّى يحتمل ذلك بعد أمره العبدَ بالذي تضمنه أول السورة ، فقام به العبد مع لُؤمه وجفائه ، والله بكرمه وجوده لا ينجز له ما وعد ؟ ! لا يكون هذا أَلبتة ، وقد قال : { ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] وغير ذلك مما فيه الإنجاز ، وأنه لا يخلف الميعاد . ثم قد جعلت - بما جاء من الحديث في تلاوتها - أن قدمها على التوراة ، والإنجيل ، وعدلها بثلثي القرآن ، وجعلها شفاءً من أَنواع الأدواء للدين ، والنفس ، والدنيا ، وجعلها معاذاً من كل ضلال ، وملجأً إلى كل نعمة . وبالله نستعين . مع ما أَوضح - في الأَسماء التي لقب بها فاتحة القرآنَ - عظيمَ موقعه ، وجليلَ قدره ، وهو أن سمَّاه فاتحة القرآن بما به يفتح القرآن ، وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يفتتح القراءَة به وسمى فاتحة الكتاب بما به يفتتح كتابة المصاحف والقرآن . وسمى أُم القرآن لما يؤم غيره في القراءَة . وقيل : الأُم بمعنى الأَصل ، وهو ألا يحتمل شيء مما فيه النسخَ ولا الرفعَ فصار أصلاً . وسمى المثاني ؛ لما يثنى في الركعات ، ولا قوة إلا بالله . وفي قوله : { ٱهْدِنَا } إلى آخره وجهان سوى ما ذكرنا ؛ إذ قوله : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } دعاء كاف عما تضمن إلى آخر السورة ؛ إذ ليس فيها غير تفسير هذه الجملة . أحدهما : تذكير نعم الله على الذين يقبلون دينه في قلوبهم ، والتوفيق لهم بذلك ، وأفضاله عليهم بما ليس لهم عليه . والثاني : تعوذهم عن زيغ ومقت ، وضلال ، وذنب ، والتجاؤم إليه في ذلك بقوله : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } .