Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 18-24)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } هو ما ذكرنا أن لا أحد أظلم على نفسه ممن أخذ نفسه من معبوده وشغلها في عبادة من لا يملك له نفعاً إن عبده ولا ضر إن ترك عبادته ، أو يقول : لا أحد أظلم على نفسه ممن ألقى نفسه الطاهرة في عذاب الله ونقمته أبداً بافترائه على الله ، وبالله العصمة والقوة . وفي التأويل لا أحد أظلم على نفسه ممن افترى على الله كذباً ، وفي المعنى لا أحد أفحش ظلماً ممن افترى على الله كذباً بعد معرفته أن جميع ما له من الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } أي : أولئك الذين تعرض أعمالهم على أنفسهم عند ربهم ، فإن وافقت أعمالهم [ ما في ] شهادة خلقتهم أدخلوا الجنة ، وإن خالفت أعمالهم شهادة خلقتهم أدخلوا النار ، تعرض أعمالهم على أنفسهم عند ربهم ؛ لأن الله عز وجل عالم بما كان منهم من الأعمال والأقوال على ربهم ، أي : عند ربهم ؛ كقوله : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 30 ] [ أي : عند ربهم ] وتأويله ما ذكرنا يعرضون على ربهم لأنفسهم ؛ لأنهم إنما يؤمرون وينهون ويمتحنون لأنفسهم ولمنفعة أنفسهم فيكون عرضهم لهم ، أو أن يكون قوله : { أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ } على ما وعدهم ربهم في الدنيا ، أو يقول : أولئك يعرضون لأنفسهم على ربهم من غير غيبة كانت منه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } : اختلف فيه : قيل : الأشهاد : الرسل والأنبياء . وقال بعضهم : الأشهاد : الملائكة . وقال بعضهم : الأشهاد : المؤمنون . فمن قال : هم الأنبياء والمؤمنون ؛ فهو كقوله : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] ؛ وكقوله : { وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] ومن قال : هم الملائكة ؛ كقوله : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] ، وقوله : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ … } الآية [ الانفطار : 10 - 11 ] ، ونحوه . ومعناه - والله أعلم - أنه : تعرض أعمالهم وأقوالهم على أنفسهم فإن أقروا بها بعثوا إلى النار ، وإن أنكروا يشهد عليهم ما ذكر من الشهداء فإن أنكروا يقال له : { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ … } الآية [ الإسراء : 14 ] ، فإن أنكروا ذلك [ فعند ذلك ] تشهد عليهم جوارحهم ؛ كقوله : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ … } الآية [ النور : 24 ] . ويحتمل أن يكون الملائكة نادوا في ملأ الخلق قبل أن يدخلوا النار : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم . ويحتمل ما ذكر من شهادة الذين كانو موكلين بكتابة أعمالهم وأقوالهم يخبرون عما كتبوا في الكتب . وقوله - عز وجل - : { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } : اللعنة . قال بعضهم : هي الطرد عن جميع المنافع والإبعاد عن رحمة الله في الدنيا عن دينه وفي الآخرة عن ثوابه . وقال بعضهم : اللعنة هي العذاب . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } يصدون يحتمل وجهين : يحتمل أن أعرضوا هم بأنفسهم عن دين الله . ويحتمل صرفوا الناس عن دين الله ، لكنه يتبين ذلك بالمصدر أنه أراد ذا أو ذا ، يقال في الإعراض بنفسه : صد يصد صدودا ؛ كقوله : { يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } [ النساء : 61 ] ، ويقال في صرف غيره : صد يصد صدا . وقوله - عز وجل - : { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } [ الأعراف : 45 ] : قال بعضهم : هم بغاة على دين الله بالجور . وقال بعضهم : يبغون من النساء الميل عن دين الله إلى دينهم ، فذلك هو بغي العوج ، كل سبيل غير سبيل الله فهو عوج وبغي ، كأنه يقول : يبغون سبيلا غير سبيل الله . { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } : في الدنيا . وقوله - عز وجل - : { أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } أي : أولئك لم يكونوا معجزي الله في الدنيا من أن يعذبهم وينتقم منهم إن شاء . والثاني : أولئك لم يكونوا سابقي الله في الآخرة في دفع العذاب عن أنفسهم . وجائز أن يكون الآية في الأئمة منهم والجبابرة يخبر أنهم غير معجزي الله فيما يريد منهم من التعذيب لهم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } هم حسبوا أن أولئك الذين عبدوهم من دون الله يكونون لهم أولياء ؛ لأنهم يقولون : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] و { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] كانوا يطمعون في شفاعة الأصنام التي كانوا يعبدونها ، أو الذين اتبعوهم يكونون لهم أولياء فأخبر أن ليس لهم أولياء على ما ظنوا وحسبوا ، بل يكونون لهم أعداء ؛ كقوله : { وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً … } الآية [ الأحقاف : 6 ] ، وأمثاله كثير ؛ وكقوله : { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [ العنكبوت : 25 ] ؛ وكقوله : { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } [ مريم : 81 ] أي : لم يكن لهم ما طمعوا ، وقوله : { سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] صاروا لهم أعداء على ما ذكر . ويحتمل { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } أي : لا ينفعهم ولاية من اتخذوا أولياء ؛ كقوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] ونحوه . وقوله - عز وجل - : { يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ } : هذا يدل على أن قوله : { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } في الأئمة الذين صرفوا الناس عن دين الله ؛ لأنه أخبر أنه يضاعف لهم العذاب . وهو يحتمل وجهين : أحدهما : لما ضلوا هم بأنفسهم ، والآخر : لما صرفوا الناس عن دين الله تعالى . وقوله - عز وجل - : و { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } : قالت المعتزلة فيه بوجهين : أحدهما : أنهم كانوا يسمعون ويبصرون ، لكنه قال لا يستطيعون السمع ولا يبصرون استثقالا منهم لذلك ، وهو كما يقول الرجل : ما أستطيع أن أنظر إلى فلان ولا أسمع كلامه ، وهو ناظر إليه سامع كلامه ، لكنه يقول ذلك لاستثقاله النظر إليه وسماع كلامه ؛ فعلى ذلك الأول كانوا يسمعون ويبصرون ، لكنهم كانوا يستثقلون السمع والنظر إليهم [ فنفى عنهم ] ذلك . والثاني : كانوا لا يستطيعون السمع ، أي : كانوا كأنهم لا يستطيعون السمع ولا النظر ، وهو ما أخبر أنهم صم بكم عمي ، كانوا يتصامون ويتعامون الحق . وأمّا عندنا : الجواب للتأويل الأول أنهم كانوا لا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون السماع سمع الرحمة والنظر إليه بعين الرحمة والقبول ، فهم من ذلك الوجه كانوا لا يستطيعون . والثاني : يحتمل سمع القلب وبصر القلب ، وهم كانوا لا يستطيعون السمع سمع القلب وبصر القلب ؛ كقوله : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] وهذه الاستطاعة عندنا هي استطاعة الفعل لا استطاعة الأحوال ؛ إذ جوارحهم كانت سليمة صحيحة ؛ فدل أنها الاستطاعة التي بها يكون الفعل لما ذكرنا . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : ( يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ) ، ثم سئل الحسن عن ذلك ؟ فقال : هو قول الله : { ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } [ الكهف : 101 ] إذا سمعوا الوحي تقنعوا في ثيابهم ، فلم يستطيعوا احتمال ذلك . وفي حرف حفصة : ( وما كانوا يستطيعون السمع ) بالواو . وأما في حرف ابن مسعود ظاهر تأويله أي : يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ، فلم يسمعوا عنادا وإبطاء ، وأصله ما كانوا يستطيعون السمع المكتسب والبصر المكتسب عندنا ، ما ذكر من السمع والبصر هو السمع المكتسب والبصر المكتسب والحياة المكتسبة ؛ لأن سمع الآخرة وحياتها مكتسبان ، وحياة الدنيا والسمع والبصر مخلوقة . وقوله - عز وجل - : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } : أما في الدنيا عبادتهم غير معبودهم الذي كان منه جميع النعم والمنافع ، وما لحقهم بذلك من الذل والصغار ، وأما في الآخرة فالعذاب والهوان الدائم بدلا عن النعم الدائمة . { وَضَلَّ عَنْهُمْ } أي : بطل عنهم ، { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] و { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ … } الآية [ الزمر : 3 ] وأمثاله . وقوله - عز وجل - : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } : قال أبو عوسجة : لا جرم واجب من الكلام ، أي : الحق أنهم في الآخرة هم الأخسرون . وقال بعضهم : لا جرم أي : نعم إنهم في الآخرة هم الأخسرون . وقال الفراء : قوله : { لاَ جَرَمَ } أي : لا بد ، لكن الناس أكثروا استعماله فصار في معارفهم حقا ، ولا بد في الحقيقة حقا ؛ لأنه إذا كان لا بد فهو حق . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلجَنَّةِ } : تأويله - والله أعلم - أن الذين آمنوا بالله وبجميع ما أنزل على رسوله ، وعملوا الصالحات ولزموا ذلك حتى صاروا إلى الله أولئك أصحاب الجنة ؛ وهو كقوله : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [ طه : 82 ] أي : من تاب من الشرك وآمن بالله وعمل صالحاً ثم اهتدى أي : ثم لزم ذلك حتى صار إلى الله هكذا ؛ فعلى ذلك قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } لزموا ذلك كله حتى صاروا إلى الله . ويحتمل قوله : { ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [ طه : 82 ] سنن الذين أولئك كذا . وقوله : { وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } اختلف فيه : قال بعضهم : الإخبات التخشع والتواضع ، أي : تخشعوا وتواضعوا فرقاً من ربهم . وقال بعضهم : أخبتوا أي : اطمأنوا على ذلك أولئك كذا . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : أخبتوا قال : خافوا من ربهم . وقال القتبي : أخبتوا أي : تواضعوا لربهم ، وقال : الإخبات التواضع والوقار . وقال أبو عوسجة : الإخبات التوبة والمخبت التائب . وقال غيرهم : الإخبات الإنابة ، أخبتوا أي : أنابوا إلى الله ؛ وبعضه قريب من بعض . ومن قال : الإخبات هو التواضع الخشوع فمعناه - والله أعلم - أي : تواضعوا وخشعوا بالإجابة إلى ما دعاهم إليه ربهم وندبهم إليه . وقوله - عز وجل - : { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ } أي : الصنفين اللذين سبق وصفهما ، وهو قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا … } الآية [ هود : 15 ] فهو وصف الكافر ، والفريق الآخر قوله : { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } [ هود : 17 ] إلى آخر ما ذكر وفيه وصف المؤمن . أو يكون وصف الكافر ما ذكر : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ … } إلى قوله : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } هو وصف أحد الفريقين وهم الكفار ، والفريق الآخر ما ذكر : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } هذا - والله أعلم - الفريقين اللذين ضرب مثلهما بالأعمى والأصم و [ البصير والسميع ] . ثم وجه ضرب مثل الكافر بالأعمى والأصم ، والمؤمن بالبصير والسميع ، فهو - والله أعلم - أن الكافر أعمى القلب وأصم السمع ، لم يبصر ما غاب عنه من الموعود ، ولا يسمع ما غاب عنه من الموعود ، وإنما أبصر ظواهر الأمر ؛ وكذلك إنما سمع ظواهر من الأمور وبواديها ، لم ينظر إلى الغائب من الموعود ولا سمع ذلك ، وهو لم يخلق لمعرفة ذلك الظاهر خاصة ، وإنما خلق لما وعد وأوعد في الغائب . والمؤمن أبصر ذلك الغائب وسمع ما غاب من الموعود ، فيقول [ كما لم يستو ] عندكم في الظاهر البصير والأعمى والسميع والأصم لم يستو من كان أعمى القلب بمن كان بصير القلب بذلك ، ولم يستو أيضاً من به صمم القلب بمن كان سميعاً بذلك . { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } : أنهما لا يستويان ، أو يقول : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : أفلا تتعظون بما نزل من القرآن وتنتهون عما تنهون ، والله أعلم . وفي قوله : { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } وجوه من الأسئلة : أحدها : أن يقال : كيف احتج عليهم وهو ما ذكر أنهم عميان وصم أو كالعميان والصم ، ولا يكلف الأعمى الإبصار والنظر ولا الأصم السماع ؟ ! والثاني : يقولون : إنا [ بصراء سمعاء ] ليس بنا صمم ولا عمى ، بل أنتم العميان والصم . والثالث : كيف ذكر المثل لهم ، وهم لا يتفكرون ولا ينظرون في المثل ولا يلتفتون إليه ؟ ! أما جواب الأول : فأنه احتج عليهم ؛ لأنهم تركوا اكتساب بصر الآخرة وسمع سماع الآخرة ، فنفى عنهم السمع والبصر والحياة ؛ لأنه ببصر المخلوق يكتسب بصرا في الدين وسمعا في أمر الدين وحياة الدين ، فيصير بذلك مكتسب الحياة الدائمة والبصر الدائم والسمع الدائم ، فيكونون في الآخرة بصراء سمعاء أحياء ؛ كقوله : { ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] . والثاني : نفى عنهم هذه الحواس ؛ لأنهم لم ينتفعوا بها ؛ لأن هذه الحواس إنما أنشئت لهم وخلقت لينتفعوا بها ، وهو المقصود بإنشائها ، فإذا تركوا الانتفاع بها فكأنها ليست لهم . وأما جواب ما قالوا : إنا [ بصراء وسمعاء ] وأنتم العميان والصم ، فيقال لهم : إن أهل الإسلام إذا سمعوا ذلك قد اشتغلوا بالتفكر فما فرغ سماعهم من الآيات والنظر فيها ، وأنتم لا بل تعاموا عنها وتصاموا ، فدل تفكرهم ونظرهم فيها على أنهم بصراء و [ سمعاء وأحياء ] ، وأنتم يا أهل الكفر العميان والصم والأموات . والثاني : أن هذه الآيات إنما نزلت في محاجة أهل مكة ، وهم قد علموا أن آباءهم لم يكونوا حكماء ولا علماء ، فلم يكونوا ما ذكر بصراء ولا أحياء ولا سمعاء ، فصاروا صمّاً عمياناً أمواتا ؛ ولأن أحد الفريقين لا محالة ما ذكر نحن ، أوهم ثم قد استووا في هذه الدنيا وفي العقل والحكمة التفريق بينهما ؛ فدل أنهم بما ذكر أولى . وأما جواب ذكر المثل لهم على علم منهم أنهم لا يقبلون المثل ولا ينظرون بأنه إنما ذكر لأهل الإسلام ؛ ولأن ذكر المثل به ربما يبعثهم على النظر فيه والتفكر .