Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 42-52)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ } . قال بعضهم : المخاطب بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة ؛ على علم منه أن رسول الله كان لا يظن أن الله يغفل عما يعمل الظالمون ؛ لكنه خاطب به كما خاطب به في قوله : { وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } [ القصص : 88 ] وقوله : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ القصص : 87 ] وأمثاله ، نهاه مع العلم أنه لا يغفل ذلك ، وأصله في هذا أن العصمة لا ترفع المحنة ، وليس المحنة إلا الأمر والنهي ؛ إذ لو رفعت العصمة المحنة ؛ والأمر والنهي ؛ لذهبت فائدة العصمة ، ولا حاجة تقع إليها ، فدل أن العصمة تزيد في المحنة ، ومع المحنة يحتاج إليها وينتفع بها . ويحتمل أن يكون الخطاب بالآية غيره ، كل ظانّ يظن بالله الغفلة عن ظلم الظالم ؛ وهو كما خاطب بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } [ الانفطار : 6 ] إنما خاطب به كل غارّ بربه الكريم لا كل إنسان ، فعلى ذلك خاطب بقوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ } كل ظانّ بالله الغفلة عن ظلم الظالمين ، ثم إن الذي حملهم على الظن بالله الغفلة عن ظلم الظالم - حلمه ، وتأخيره العذاب عنهم عن وقت ظلمهم ، وترك أخذهم بذلك : فمنهم من ادعى الغفلة عن ذلك ؛ لما رأوا من عادة ملوك الأرض أن من ظلم [ أحداً ] منهم انتقم منه في أعجل وقت يقدر على الانتقام منه ؛ فحمل تأخير الله العذاب منهم ؛ والانتقام منهم - على القول بالغفلة . ومنهم من ادعى الرضا ؛ بما اختاروا هم من الشرك والكفر بالله ، وادعوا الأمر بذلك ؛ لما لم يأخذهم ولم يستأصلهم بصنيعهم ؛ فاستدلوا بذلك [ على ] رضاه بفعلهم ، وأمره أياهم بذلك . فأخبر رسوله أن تأخيره العذاب عنهم وإمهاله إياهم - ليس عن غفلة [ عنه ] ولا عن سهو ، ولا لرضاه به وأمره ولكن إنما يؤخرهم ليوم ، ثم وصف ذلك اليوم ؛ لشدة فزعه وهوله فقال . { لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } . قال بعضهم : هذا كله يرجع إلى الطرف والبصر ؛ يقول : شاخصة أبصارهم مهطعين : ناظرين إليه ؛ أي : إلى الداعي ، مقنعي رءوسهم : رافعي رءوسهم ، لا يرتد إليهم طرفهم ؛ لهول ذلك اليوم ، هذا كله يصرفون إلى الأبصار دون النفس ؛ لأن الإهطاع والإقناع : هو للنظر ولشخوص الأبصار . ومنهم من صرف قوله : { تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } ، و { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } إلى البصر ، وصرف قوله : { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } إلى الأنفس ؛ وهو ما ذكر في موضع آخر : { مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ } [ القمر : 8 ] أي : مسرعين إليه الإجابة ؛ رجاء التخلص والنجاة عما حل بهم ؛ بترك الإجابة . والإهطاع : قيل : هو النظر الدائم ، والإقناع : هو الرفع ؛ رفع الرءوس ، مهطعين : أي : مديمي النظر ، مقنعي رءوسهم أي : رافعيها ، وعلى تأويل بعضهم : مسرعين ؛ عل ما ذكرنا . وقال بعضهم : { مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } : أي : رافعيها ؛ ملتزقة إلى أعناقهم . وقوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ } . [ يخرج على وجهين : أحدهما : يقول : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ } ] وقت خلقه الخلق وإنشائهم ؛ عما يكون منهم من الظلم ؛ أي : لا عن غفلة وسهو عن ظلم الظالمين أنشأهم وخلقهم ؛ ولكن على علم بما يكون منهم أنشأهم وخلقهم ؛ لكن أنشأهم على علم منه ، [ بذلك ؛ لأن منافع ما يكون منهم وضرره يرجع إليهم ؛ فلم يخرج إنشاؤه إياهم على علم منه ذلك ] عن الحكمة . والثاني : ما ذكرنا أن تأخيره العذاب عنهم - ليس لغفلة منه بذلك ؛ ولكن لما في أخذهم بالعذاب وقت صنيعهم زوال المحنة ؛ لأنه يصير العذاب والثواب مشاهدة . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } . [ قيل ] : خالية ؛ لهول ذلك اليوم ؛ أي : خالية عن التدبير ؛ لأن في الشاهد أن من بلي ببلايا وشدائد يتدبر ويتفكر في دفع ذلك ؛ فيخبر أن أفئدتهم هواء يومئذ : أي خالية عن التدبير ؛ إذ أفئدتهم لا تكون معهم ؛ لشدة أهواله . وقال بعضهم : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } أي : لا شيء فيها ؛ ما ينتفعون بها ، وهكذا الهواء - هواء كل شيء - يوصف بالخلاء عن كل شيء . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } . يحتمل قوله : { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } قولهم الذي يقولون يومئذ : { رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } . ويحتمل : { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } الذي يحل بهم . ثم أخبر عما يقولون - إذا حل بهم العذاب - : { رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } قال بعضهم : إلى الدنيا ؛ والدنيا أجلها قريب ، لكن هذا لا يحتمل ؛ لأن الدنيا أولى ، والآخرة آخرة ، فلو جاز هذا لتكون الآخرة أولى ؛ فذلك بعيد ؛ لكن طلبوا - والله أعلم - الردّ إلى حال الأمن ؛ ليجيبوا داعيه ؛ إذ لم تنفعهم إجابتهم في حال الخوف والهول ، وما حل بهم إنما حل بتركهم [ الإجابة ] في حال الأمن ؛ فطلبوا الرد إلى الأمن ؛ ليجيبوا داعيه لتنفعهم إجابتهم ؛ حيث قالوا : { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ } . وقوله - عز وجل - : { أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } . لم يبين بما أقسموا في هذه الآية ؛ وهو ما بين في آية أخرى : { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] . ثم قوله : { مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } : قال قائلون : ما لكم من زوال من الدنيا ، أي : كنتم تقولون : أن ليس إلا الدّنيا لا زوال لنا عنها ؛ أحياء وموتى ؛ كقولهم : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا … } الآية [ المؤمنون : 37 ] على ما ذكر من قسمهم أنهم لا يبعثون . وقال قائلون : قوله : { مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } جواب لسؤالهم : { رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } على الاستئناف ؛ قال : ما لكم عما أنتم فيه من العذاب إلى ما تسألون من المدة والتأخير ؛ أي : ما لكم إلى ذلك سبيل . وقال بعضهم : في قوله : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } : أي : تنزع قلوبهم ؛ حتى صارت في حناجرهم ؛ فلا تخرج من أفواههم ، ولا تعود إلى أماكنها ؛ لشدة هول ذلك اليوم وفزعهم عليه ، وهو على التمثيل والكناية ؛ كقولهم : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ … } الآية [ الأحزاب : 10 ] ؛ لشدة خوفهم ، وهو على التمثيل ؛ إذ لا يحتمل بلوغ القلوب الحناجر في الدنيا حقيقة ؛ إذ لو بلغت ذلك لخرجت فماتوا ، إذ الدنيا يحتمل الموت فيها ، فدلّ أن ذلك على التمثيل لشدّة خوفهم . وقوله - عز وجل - : { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } بتكذيبهم الرسل . [ وتأويله - والله أعلم - : أنهم كانوا يطلبون من ربهم الرد إلى حال الأمن ؛ ليجيبوا بقولهم : { رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ } ؛ والله أعلم ، فقال : { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } ؛ بتكذيبهم الرسل ] ؛ أي : سكنتم في الدنيا في مثل منازلهم ومساكنهم ؛ فرأيتم ما نزل بأولئك الذين صنعوا مثل صنيعكم . وذلك قوله - عز وجل - : { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } من التعذيب والاستئصال ثم لم يتعظوا بما حلّ بهم ، فعلى ذلك إذا رددتم إلى حال الأمن لا تتعظون بما حلّ بكم في هذه الحال ، وهو ما قال : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] فيما يقولون : إنهم يجيبون دعوته ، هذا - والله أعلم - تأويله . وقال بعض أهل التأويل : { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } : أي : عملتم مثل أعمالهم ، { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } من الاستئصال بالتكذيب ؛ بتكذيبهم الرسل ؛ فلم تتعظوا بذلك ؛ فلا تتعظون بهذا أيضاً إذا رددتم . والله أعلم . وفي قوله : { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ … } إلى آخر ما ذكر : دلالة لزوم النظر والاستدلال ، ولزوم القياس ، ودلالة لزوم العقوبة ؛ وإن كان لم يعلموا به ؛ بعد أن مكنوا من العلم به . أما دلالة النظر والاستدلال : هو قوله : { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } : فهلا نظرتم ما حلَّ بهم من تكذيبهم الرسل ؛ واتعظتم به . ودلالة القياس : هو ما خوفهم أن ينزل بهم ما نزل بأولئك ؛ لأنهم أشتركوا في المعنى الذي نزل بأولئك ؛ ما نزل وهو تكذيبهم الرسل ، وسوء معاملتهم إياهم . وقوله - عز وجل - : { وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ } : أي : { وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ } ؛ ما لو تفكرتم فيها ونظرتم ثم لكان ذلك لكم موعظة وزجراً عن مثل صنيعكم . أو يقول : وضربنا لكم الأمثال : أي : قد بينّا لكم الأمثال والأشباه ما يعرفكم ؛ لو تأملتم أن أولئك لكم أشباه وأمثال ، وصنيعهم لصنيعكم أشباه وأمثال ؛ فينزل بكم ما نزل بهم . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } . [ مكروا ] واحتالوا على إهلاك الرسل وقتلهم ؛ كقوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } الآية [ الأنفال : 30 ] وكيدهم الذي ذكر - في غير آي من القرآن - برسل الله ؛ حتى قال الرسل فيكيدوني جميعاً ، ومكروا أيضاً بدين الله الذي أتت به الرسل ، مكروا واحتالوا على إطفاء ذلك النور ؛ فأبى الله ذلك عليهم ، وأظهر دينه ، وأبقى نوره إلى يوم القيامة ، كقوله : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ } [ الصف : 8 ] ، كأن مكرهم وحيلهم يرجع - في أحد التأويلين - إلى أنفس الرسل حين هموا وتعمدوا إهلاكهم . والثاني : يرجع إلى إطفاء الدِّين ؛ [ الذي ] أتى به الرسل ؛ والنور الذي دعوا إليه . وقوله - عز وجل - : { وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ } . يحتمل : عند الله جزاء مكرهم ؛ الذي مكروا برسل الله وبدينه . [ أو ] { وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ } : أي : عند الله العلم بمكرهم ، محفوظ ذلك عنده ، لا يفوت ولا يذهب عنه شيء ؛ فيجزيهم بذلك في الآخرة . أو { وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ } : أي : عند الله الأسباب التي بها مكروا ، من عند الله استفادوا ؛ وهو النعم التي أعطاهم ، والأموال التي ملكهم ، والعقول التي ركب فيهم ؛ بما قدروا على المكر والاحتيال عند الله [ ، ذلك كله ، ] والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ } . اختلف في تلاوته ، وقراءته ، وتأويله : قرأ بعضهم : ( وإن كاد مكرهم ) بالدال ؛ وهو حرف عبد الله بن مسعود ، وأبي ، وابن عباس رضي الله عنهم . وقرأ بعضهم ( وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ ) بالنون . ثم اختلف في قوله : { وَإِن كَانَ } . وقال الحسن وغيره : و ( إن ) بمعنى : ( ما ) ، أي : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، قال : كان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال ، و ( إن ) بمعنى : ( ما ) كثير في القرآن ، كقوله : { لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 17 ] أي : ما كنا فاعلين ؛ وكقوله : { إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ إبراهيم : 11 ] أي : ما نحن إلا بشر مثلكم . وقد تستعمل ( إن ) في موضع ( قد ) ؛ كقوله : { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 108 ] أي : قد كان وعد ربنا لمفعولا . فمن حمله على ( ما ) فقد استهان بمكرهم ، واستخف به ؛ فقال : إن مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال ، والجبال أوهن وأسرع زوالا من رسالة الرسل ودين الله ، بل رسالة الرسل ؛ ودين الله [ أثبت من الجبال ، لأن دين الله ] ورسله معهما حجج الله وبراهينه ، فإذا لم يعمل مكرهم في إزالة الجبال - لا يعمل في إزالة دين الله ورسالة الرسل ، ومعهما الحجج والبراهين . ومن قال : { وَإِن كَانَ } : قد حمله على الاستعظام بمكرهم . وعلى ذلك : من قرأ [ ( كاد ) ] بالدال على الاستعظام بمكرهم ؛ كقوله : { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً } [ مريم : 90 - 91 ] من عظيم ما قالوا في الله كادت السماوات أن تنشق ، فعلى ذلك مكرهم جميعاً الوجهين : أن يستهان مرة ويستعظم ؛ إلا أن يقال : إن كلمتهم من حيث الشرك والكفر عظيمة ، ومن حيث احتيالهم ومكرهم - في إزالة ذلك النور وإطفائه - ضعيفة . والله سبحانه أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } . الخطاب به يحتمل ما ذكرنا : أي : لا تحسبن أن ما تأخر ؛ من نزول ما وعد ؛ أنه يخلف وعده الذي وعد رسله ؛ كما لم يكن تأخير العذاب عنهم ؛ من وقت ظلمهم عن غفلة وسهو ، ولكن كان وعده إلى ذلك الوقت ، وخلف الوعد في الشاهد من الخلق - إنما يكون لوجهين : أحدهما : لما لا يملك إنجاز ما وعد . والثاني : لما يضره الإنجاز ، فتعالى الله عن ذلك كله . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } . قال بعضهم : عزيز : لا يعجزه شيء . وقيل : عزيز : قاهر يقهر ويذل ؛ فالخلائق كلهم أذلاء دونه . وقوله : { عَزِيزٌ } : أي : غالب قاهر ذو انتقام لأوليائه من أعدائهم ؛ أي : غالب الأعداء وقاهرهم ، وناصر الأولياء . وأما ما قال أهل التأويل في قوله : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ } . إنه نزل في [ شأن نمرود ] وإنه اتخذ تابوتاً ، وربط ثوراً على قوائمه ، وما ذكروا إلى آخره - فلا علم لنا إلى ذلك ، وأظنه أنه كله خيال ، فلا نقول إلا القدر الذي ذكر في الآية . و " لَتزولُ " بنصب اللام [ الأولى ] وبرفع الآخرة : على معنى التوكيد ، و { لِتَزُولَ } بكسر [ اللام ] [ الأولى ] ونصب الآخرة : على الجحد ؛ أي : ما كانت الجبال لتزول من مكرهم ، وهو ما ذكرنا . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ } . قال الحسن : تفنى هذه الأرض ، ثم تعاد من ساعته مستوية ، لا شجر فيها ، ولا جبال ، ولا آكام ، قاعاً صفصفاً لا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً . وقال بعضهم : تبدل هذه الأرض أرضاً غير هذه ؛ بيضاء نقية ، لم يسفك عليها دم ، ولم يعمل عليها بالمعاصي ، وكذلك السماوات . ومنهم من يقول : لا تبدل عينها ؛ ولكن يتغير صفتها وزينتها ؛ كما يقول الرجل لآخر : تبدلت يا فلان ، ولا يريد تبدل أصله وعينه ؛ ولكن تغير الأخلاق والدِّين ، فعلى ذلك ما ذكر من تبديل الأرض والسماوات . والأشبه أن يكون على اختلاف الأحوال ؛ لأنه ذكر في آية : { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } [ الزلزلة : 4 ] وقال : { وَإِذَا ٱلأَرْضُ مُدَّتْ } [ الانشقاق : 3 ] وقال : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ } [ الفرقان : 25 ] ، { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } [ الانشقاق : 1 ] { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ } [ الانفطار : 1 ] { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [ النمل : 88 ] و { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ } [ الكهف : 47 ] ، وقال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ } [ طه : 105 ] وقال : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } الفرقان : 23 ] ذكر مرة تمد الأرض ، وذكر مرة أنها تخبر وتحدث عما عمل عليها ، وذكر في السماء بالتشقق والانفطار ، وفي الجبال بالسير والمرور مرة ؛ ومرة بالرفع ومرة أخبر أنه جعلها هباء منثورا وأمثاله . فيشبه أن يكون هذا كله على اختلاف الأحوال والأوقات ؛ إذ يوم القيامة يوم ممتدّ ؛ فيكون كل ما ذكر على ما قال يومئذ ؛ { فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ القصص : 66 ] ؛ قال في آية : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] وقال : { وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] وقوله : { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الرحمن : 29 ] فهو - والله أعلم - : على اختلاف الأحوال والأوقات ، فعلى ذلك الأول ، والله أعلم بذلك . وتبديل الأرض والسماوات : يحتمل وجهين : أحدهما : تبديل أهلها على ما يذكر ؛ الأرض والقرية ، والمراد منها الأهل ؛ كقوله : { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلْعِيْرَ ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا } [ يوسف : 82 ] وقوله : { قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً … } الآية [ النحل : 112 ] ونحوه كثير . والثاني : تبديل نفس الأرض . ثم يحتمل كل واحد من الوجهين وجهين : إما تبديل أهلها : هو أن يكونوا مستسلمين خاضعين له في ذلك ، ولم يكونوا في الدنيا [ كذلك ] . والثاني : تبدل أهلها : هو أن يكون الأولياء في النعم الدائمة ، واللذة الباقية ، والأعداء في عذاب وألم وشدة ، وكانوا في هذه الدنيا جميعاً مشتركين - الأولياء والأعداء - في اللذات والآلام . فإن كان تبديل نفس الأرض - فهو يخرج على وجهين [ أيضاً ] : أحدهما : تبديل زينتها وصفتها . والثاني : تبديل عينها وجوهرها ؛ وهو ما ذكر : أن أرض الجنة تكون من مسك وزعفران ، ونحو ما روي في الخبر والله أعلم . كأنّ قوله : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } صلة قوله : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ … } الآية فقالوا : متى يكون ذلك ؟ فقال : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } يخرج جواباً لسؤالهم والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } . قد ذكرنا تخصيص بروزهم لله يوم القيامة أنه - والله أعلم - أنشأ هذا العالم الأول للعالم الثاني ، فالعالم الثاني هو المقصود في إنشاء هذه العالم ، فخص بروزهم يومئذ له ؛ لما هو المقصود في إنشائهم . وقال قائلون : تخصيص البروز له يومئذ ؛ لأنهم يخرجون من قبورهم للحساب لا لغيره ، فهو يحاسبهم ؛ فأضاف البروز إليه ؛ لما لا يخرجون إلا له ، وأما في الدنيا : فإنما يخرجون لحوائج أنفسهم ؛ لذلك خرج التخصيص له والإضافة . وقوله : { وَبَرَزُواْ لِلَّهِ } : يحتمل وجهين : أحدهما : برزوا له مستسلمين خاضعين ، قابلين طائعين ، ولم يكونوا في الدنيا كذلك . والثاني : يبرزون له ؛ لما وعدوا وأوعدوا ؛ بارزون لوعده ولوعيده ، ولما دعوا إليه ، ورغبوا فيه . والثالث : يبرزون له ؛ لما لا يملكون إخفاء أنفسهم وسترها ؛ بل ظاهرين له . وقوله - عز وجل - : { ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } . [ الواحد : ] الذي لا شريك له ، والقهار : يقهر الخلائق كلهم ؛ ويغلبهم : الجبابرة ، والفراعنة . أو يبرزون له ليجزيهم ، على ما ذكر تعالى { لِيَجْزِىَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } . وذكر { مِّن قَطِرَانٍ } : قيل : ( القطر ) هو النحاس [ و ( آن ) أي : قد انتهى حره ، كقوله : { وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] . وقيل : الصفر وقال بعضهم { مِّن قَطِرَانٍ } أي : من نحاس أنى لهم أن يعذبوا به ] . وقال بعضهم : هو من القطران المعروف الذي يطلى به الإبل ؛ ذكر هذا لأنه أشدّ إحراقاً واشتعالا . وقوله : { وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ … } إلى آخر ما ذكر : جعل الله عذاب الكفرة في الآخرة بالأسباب والأشياء التي كانوا يفتخرون بها في الدنيا ؛ من اللباس والشراب والأصحاب ؛ وغيره ، وهو كان سبب منعهم عن إجابة الرسل فيما دعوهم إليه ، فجعل تعذيبهم في الآخرة بذلك النوع من النار ؛ فقال : { وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } يقرن ويقيض بعضهم ببعض ؛ كقوله : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً … } الآية [ الزخرف : 36 ] ؛ لأنه كان يتبعه ويأتمر بأمره ؛ وكقوله : { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ … } الآية [ الصافات : 22 ] ، وكذلك الرؤساء منهم ، والمتبوعون . وقوله : { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } لما كانوا يفتخرون في الدنيا بلباسهم ، وكذلك كل نوع [ كانوا ] يفتخرون به في الدنيا ، ويمنعهم عن الإجابة ؛ إجابة الرسل ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم . والأصفاد : قيل : الأغلال ؛ أي : قد قرن بعضه إلى بعض في الأغلال ، واحدها : صفد ؛ وهو قول القتبي ، وكذلك قول أبي عوسجة في الأصفاد ، إلا أنه قال : واحدها : صفاد ، والصفد العطيّة . { سَرَابِيلُهُم } : قمصهم ، واحدها : سربال . { مِّن قَطِرَانٍ } : القطر - ما ذكرنا - النحاس ، والآن الذي [ قد ] اشتد حره ، وهو قول القتبي وأبي عوسجة . ذكر هذه المواعيد والشدائد ، وأنواع ما يعذبون به في الآخرة ، ونعيمها على ألسن من قد ظهر صدقهم بالآيات والحجج ؛ ليحذروا ما أوعدوا ، ويرغبوا فيما رغبوا لئلا يكون لهم الاحتجاج يومئذ ؛ كقوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] وقوله : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ … } الآية [ الأنفال : 42 ] ونحوه . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ } . لأن أيديهم مغلولة إلى أعناقهم ؛ فلا يقدرون أن يتّقوا النار بأيديهم ذكر هذا ؛ لأن في الشاهد : من [ أصاب وجهه ] أذىً يتقي عنه بيده ، فيخبر أنهم إنما يتقون ذلك بوجوههم . والله أعلم . { لِيَجْزِىَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } . لما ذكرنا ؛ يبرزون لله ؛ ليجزيهم من خير وشر . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } . قال بعضهم : كان قد جاء حسابه . والثاني : ذكر هذا ؛ لأن الحساب إنما يبطئ لما لا يتذكر من له الحساب لمن يحاسبه في الشاهد - فيما يحاسبه ، فيطول الحساب أو الاشتغال بشيء [ يشغله ] عنه ، أو لجهل بالحساب . فأمّا الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء ، ولا يشغله شيء عن شيء ، كله محفوظ عنده ؛ فهو سريع الحساب . والله أعلم . أو نقول : إنما يطول الحساب في الشاهد ؛ ويمتد لما يحتاج إلى التفكر [ والنظر ] والتذكر في ذلك ، فالله سبحانه متعال عن التفكر والنظر ، بل كل شيء محفوظ عنده . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } . يحتمل قوله : { هَـٰذَا بَلاَغٌ } : القرآن ؛ هو بلاغ للناس ، على ما ذكر في صدر السورة : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ … } الآية [ إبراهيم : 1 ] هو بلاغ على ما ذكر . والله أعلم . { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } : أي : بالقرآن أيضاً على ما ذكر : { وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا } [ الأنعام : 92 ] ويحتمل قوله : { هَـٰذَا بَلاَغٌ } ما ذكر من المواعيد ؛ وهو قوله : { وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } إلى آخر ما ذكر ؛ أي : هذا الذي ذكر بلاغ يبلغهم لا محالة ، ولينذروا بما ذكر . { وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } . لا شريك له ؛ بالآيات التي أقامها على وحدانية الله وألوهيته . { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [ أي : ذوو العقول ، والله أعلم ] .