Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 35-41)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً } . أي : مأمناً ، سمي آمنا ، لما يأمن الخلق فيه ؛ كما سمي النهار مبصراً ، والنهار لا يبصر ولكن يبصر فيه ، ومثله كثير . ثم يحتمل قوله : { ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً } قال بعض أهل التأويل : إنما طلب إبراهيم أن يجعله آمناً على أهله وولده خاصة ، لا على الناس كافة ؛ إذ قد سفك فيه الدماء ، وهتك فيه الحرم ؛ دل أنه جعله آمنا على أهله وولده خاصة ، ولكن لو كان ما ذكروا محتملا - ما يصنع بقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً … } الآية [ العنكبوت : 67 ] وقوله : { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } [ البقرة : 125 ] وغيره من الآيات . أخبر أنه جعل تلك البقعة مأمناً للخلق يأمنون فيها . ثم يحتمل وجهين : أحدهما : جعله آمناً بحق الابتلاء والامتحان ، ألزم الخلق حفظ تلك البقعة عن سفك الدماء فيها ، وهتك الحرم ، وغير ذلك من المعاصي ، وإن كانوا ضيعوا ذلك ، وعملوا فيها ما لا يصلح ؛ كالمساجد التي بنيت للعبادة وإقامة الخيرات - ألزم أهلها وعلى جميع الخلائق حفظها عن إدخال ما لا يصلح ولا يحل ، ثم إن الناس قد ضيعوا ذلك ، وعملوا فيها ما لا يليق بها ولا يصلح ، فعلى ذلك الحرم الذي أخبر أنه جعله مأمناً . والثاني : جعله مأمناً بالخلقة من ذا الوجه ، يجوز أن يقال : كيف سفك فيه الدماء وهتك فيه الحرم ؛ وهو بالخلقة جعله مأمناً ؟ قيل : يجوز هذا بحق العقوبة ؛ وإن كان [ بالخلقة ] آمناً ؛ ألا ترى أنه قال : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ … } الآية [ النساء : 160 ] الطيبات بالخلقة حلال ؛ لكنه حرم عليهم ذلك بالظلم الذي كان منهم ؛ بحق العقوبة والانتقام ، فعلى ذلك الحرم ؛ جعله مأمناً بالخلقة ، ثم قتل فيه عقوبة ؛ لما كان منهم من المعاصي . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَام } الآية . فإن قيل : كيف دعا وطلب منه العصمة ؛ وقد عصمه بالنبوة والرسالة ؛ واختارهما له من ذلك كله ؟ قال بعض أهل التأويل : إنما سأل عصمة ولده وذريته ؛ لما علم أن ذريته قد يختلفون في دين الله وتوحيده ، وما ذكر نَفْسَهُ ؛ لما المعروف أنّ من دعا لآخر بدأ بنفسه . قالت المعتزلة : دعاء إبراهيم وطلبه العصمة ؛ مما ذكر ؛ يدل أنه [ قد ] يجوز أن يدعي بدعوات عبادة ؛ وإن كان قد أعطاه ذلك ، أو يعلم أنه مغفور . قيل : دعاء إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم السلام ؛ يجوز أن يكون عصمتهم كانت مقرونة [ بما طلبوه ] منه ، وسألوه وتضرعوا إليه ؛ إذ معلوم أنهم لم يستفيدوا تلك العصمة ؛ بإهمالهم [ أنفسهم ] وتركهم إياها سُدىً ؛ بل إنما أوجب لهم ذلك بما أجهدوا أنفسهم في طاعة الله . ثم الآية على المعتزلة من وجهين : أحدهما : أن إبراهيم طلب منه العصمة عن عبادة الأصنام ، وهو علم أنه يعتصم إذا عصمه عن ذلك ، واهتدى إذا هداه ، وهم يقولون : الله يعصم ولا يعتصم العبد ، ويهدي ولا يهتدي العبد . ويقولون : إذا أعطى أحداً ذلك ، خرج ذلك من يده ، ولا يملك إعطاء ذلك ، فعلى قولهم تخرج دعوات الرسل على الاستهزاء أو على الكتمان ؛ لأن من سأل من آخر شيئاً يعلم أنه ليس ذلك عنده ؛ فهو هزء ، أو سأل وهو يعلم أنه قد أعطاه ذلك ؛ فهو كتمان ، وكان خوف الأنبياء والرسل والكبراء من الخلق أشد وأكثر على دينهم ، والزيغ عما هم عليه ؛ لما خافوا أن يكونوا عند الله على غير ما هو عند أنفسهم ، كانوا أبداً وجلين خائفين على سلب ما هم عليه ، وهكذا الواجب أن يكون الخوف على من نعمه عليه أكثر ؛ فخوفه أشد . وقال أبو عوسجة : { وَٱجْنُبْنِي } أي : باعدني ، وجنبني أيضاً . وقال القتبي : أي : جنبني وإياهم . وقوله - عز وجل - : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } . نسب الإضلال إلى الأصنام - وإن لم يكن لها صنع في الإضلال لأنهم بها ضلوا ، وكانت الأصنام سبب إضلالهم ، وقد تنسب الأشياء إلى الأسباب ، وإن لم يكن للأسباب صنع فيها نحو ما ذكرنا من قوله : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ … } [ التوبة : 125 ] والسورة لا تزيدهم رجساً ، لكن نسب الرجس إليها لما كانت هي سبب زيادة رجسهم ، وهو أنها لما نزلت يزداد لهم بها تكذيباً وكفرا بها ، فنسب ذلك إليها ، فعلى ذلك الأول . والثاني : ينسب إلى الأحوال التي كانت بها ؛ ما لو كانت تلك بذوات الأرواح ، لكانت تضل وتغوي [ كذي الروح ] ممن يكون منه الإضلال ، لأنها تزين وتحلى بالأشياء ؛ نحو ما نسب الغرور إلى الدنيا ؛ وإن كانت الدنيا لا تغر ؛ لأنها تكون بحال لو كانت تلك الأحوال من ذي الروح لكان ذلك تغريراً ، فعلى ذلك نسبة الإضلال إلى الأصنام . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } . يشبه أن يكون { مِنِّي } : أي : موافقي في الدين ، أو في الولاية ، وحاصله - والله أعلم - : معي في الدين وفي أمر الدين ، وكذلك [ معنى ما روي : ] " من غش فليس منا " أي : ليس بموافق لنا ، أو ليس معنا ، أو ليس من ملتنا ، وكذلك قوله : { فَإِنَّهُ مِنِّي } أي : من ملتي . وحاصله : فمن تبعني وأجابني فيما دعوته إليه وأمرته به فإنه مني ؛ أي : مما أنا عليه ، وكذلك قوله : " من غش فليس منا " أي : ليس مما نحن عليه . وقوله - عز وجل - : { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } , يشبه قوله : { وَمَنْ عَصَانِي } ليس عصيان شرك ، ولكن عصيان ما دون الشرك ؛ فإنه غفور رحيم . أو من عصاني فإنك غفور ؛ أي : ساتر عليه الكفر إلى وقت معلوم ؛ إذ الغفران : هو الستر ؛ فستر عليه إلى أجل ؛ كقوله : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ } أو يقول : { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } : أي : تمكن له من التوبة والإسلام ؛ فيسلم ويتوب ؛ فتغفر له ما كان منه من العصيان ؛ وترحم عليه . وقوله : { وَمَنْ عَصَانِي } فيما دعوته إليه وأمرته به { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تمكن له من التوبة ، والرجوع عما كان ؛ فتغفر له وترحمه . وقوله - عز وجل - : { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } . لا يحتمل أن يكون قال هذا أول ما قدم تلك البقعة ؛ لأنه قال : { عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } ولا بيت هنالك ، دل أنه إنما دعا بهذه الدعوات : { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } وما ذكر { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ … } [ البقرة : 128 ] إلى آخر ما ذكر ؛ بعد ما رفع البيت . وقوله - عز وجل - : { أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } دل أنه إنما أسكن بعض ذريته ؛ لم يسكن ذريته كلها ؛ حيث قال : { مِن ذُرِّيَّتِي } . قد امتحنه الله بمحن ثلاثة ؛ لم يمتحن بمثلها أحداً من الأنبياء : أحدها : امتحنه بإسكان ولده بواد غير ذي زرع ؛ وغير ذي ماء ، مما لا يحتمل قلب بشر تركه في مثل ذلك المكان مثله ، دل أنه إنما فعل بأمر من الله تعالى . والثاني : امتحنه بذبح ولده حتى إذا أشرف على الهلاك - فداه الله تعالى بكبش . [ والثالث ] : امتحنه بإلقائه في النار ؛ فألقي حتى إذا أشرف على الهلاك - جعلها الله تعالى عليه برداً وسلاماً . ففي ذلك كله دلالة رسالته . وكانت له هجرتان : إحداهما إلى مكة ؛ حيث أسكن فيها ولده ، والهجرة الثانية إلى بيت المقدس ؛ وهو ما ذكر : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا … } الآية [ الأنبياء : 71 ] . ثم قوله : { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } هو دعاء بتعريض لا بتصريح ، والدعاء بالتعريض ؛ والسؤال بالكناية أبلغ وأكثر من السؤال بالتصريح ، وهو كدعاء آدم وحواء : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا … } الآية [ الأعراف : 23 ] فهذا أبلغ في السؤال من قوله : اغفر لنا وارحمنا ؛ لأن مثل هذا قد سئل من دونه ؛ ولا يكون فيه ما ذكر فيه من الخسران . وقوله : { مِن ذُرِّيَّتِي } يحتمل أن يكون كلمة ( من ) صلة ؛ أي : أسكنت ذريتي ، ويحتمل على التبعيض ؛ أي : أسكنت بعض ذريتي ، على ما ذكر في بعض التأويلات : إسماعيل وإسحاق . وقوله - عز وجل - : { عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } . يحتمل قوله : { ٱلْمُحَرَّمِ } وجهين : أحدهما : حرمه أن يستحل فيه ما لا يحل ولا يصلح ؛ لكنه خص تلك البقعة بالذكر ؛ وإن كان ذلك لا يحل في غيرها من البقاع ؛ لفضل الحرمة التي جعلها الله لها ، كما خص المساجد بأشياء ؛ لفضلها على غيرها من الأمكنة والبقاع . والثاني : قوله : { عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } : أي : الممنوع ؛ يقال : حرم : أي : منع ؛ كقوله : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ } [ القصص : 12 ] ليس ذلك على التحريم ألا يحل له المراضع ؛ ولكن على المنع ؛ أي : منعنا عنه ؛ لنرده إلى أمه ، فعلى ذلك قوله : { عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } أي : الممنوع عن الخلق لله ؛ حتى لم يقدر واحد من الفراعنة والملوك الغلبة عليها وإدخالها في منافع أنفسهم ، بل هي ممنوعة عنهم ؛ على ما كان ، وفيه آية الوحدانية له والألوهية . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } . قال بعض أهل التأويل : فيه تقديم يقول : { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } ليقيموا الصلاة لك عند بيتك . ويحتمل أيضاً غير هذا ؛ وهو أن يقال : { أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } أي : ليس فيه ما يشغلهم عن الصلاة ؛ لأن الزرع وغيره من النعيم يمنع الناس عن إقامة الصلاة ، [ والعبادة لهم ، أي : أسكنت من ذريتي بواد ليس فيه زرع يشغلهم عن إقامة الصلاة ] ثم يحتمل الصلاة : الصلاة المعروفة ، ويحتمل الصلاة : الدعاء والأذكار ؛ وغيرها من الدعوات ، ويحتمل قوله : { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } : [ الصلاة ] نفسها ؛ وغيرها من الطاعات ، وكذلك قوله : { رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي } . وقوله - عز وجل - : { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ } . يحتمل سؤاله ربه - أن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم - وجهين : أحدهما : لما أسكن ذريته في مكان لا ماء فيه ولا نبات ولا زرع ؛ ففي مثل هذا المكان يستوحش المقام فيه ؛ فسأل ربه أن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ؛ ليأتوا ذلك المكان ؛ فتذهب عنهم تلك الوحشة ؛ فيستأنس بهم ، أو سأله أن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ، ليتعيشوا بما ينقل إليهم من الزاد والأطمعة إذ أسكنهم في مكان لا زرع فيه ، ولا ماء يعيشون فيه به ، وقد جعل الله بنية هذا البشر ؛ أن لا قوام لهم إلا بالأغذية والأطعمة ، فسأل ربه ؛ ليتعيشوا بما يحمل إليهم . وقال أهل التأويل : { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ } للحج ، وقالوا : لو قال : فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ؛ ولم يقل ( من ) لحجه الخلق جميعاً : الكافر والمؤمن ، لكن لا يحتمل عندنا أن يكون سؤاله للخلق جميعاً أو يكون قوله : { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } [ الحج : 27 ] للخلائق جميعاً : للكافر والمؤمن ، بل يرجع ذلك إلى خصوص . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } . يحتمل : { وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } تلك الثمرات ، ويحتمل : لعلهم يشكرون بما جعل لهم من التعيش بما يحمل إليهم من الأغذية والأطعمة . وقوله : { وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ } ليس على تخصيص الثمرات ، ولكن سأل الثمرات وما به غذاؤهم وقوامهم . وقوله - عز وجل - : { رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } . لا يحتمل أن يكون مثل هذا الدعاء [ منه ] مبتدأ ، بل كأنه - والله أعلم - عن نازلة دعاه ؛ إذ يعلم صلوات الله عليه أنه كان يعلم ما يخفون وما يعلنون ، لكن لم يبين : ما تلك النازلة ؟ وأهل التأويل يقولون : قال هذا ؛ أي : { تَعْلَمُ مَا نُخْفِي } من الحزن والوجد على إسماعيل وأمه حين تركهما بوادٍ لا ماء فيه ولا زرع ، ويقولون : { وَمَا نُعْلِنُ } وهو قوله : { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } ، لكن لا نعلم ذلك . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ فَي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } . كان هذا جواباً عن الله وإخباراً منه إياه ؛ أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؛ أي : لا يخفى عليه ما لا أمر فيه ولا نهي ولا جزاء ؛ فكيف يخفى عليه الأعمال التي عليها الجزاء والأمر ؟ وقوله - عز وجل - : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } . قال أهل التأويل : إنه وهب له الولد ؛ وهو ابن كذا وامرأته ابنة كذا ؛ لكن لا نعلم ذلك سوى ما ذكر أنه وهب له الولد على الكبر في وقت الإياس عن الولد ؛ حيث بشر بالولد ؛ فقال : { أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ } [ الحجر : 54 ] حيث قالت امرأته لما بشرت بالولد { ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] يعلم أنه وهب له الولد ؛ وهما كانا كبيرين في وقت الإياس عن الولد . وقوله : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } يكون حمده على الأمرين جميعاً : على الهبة ؛ وعلى الولادة في حال الكبر ؛ وهو حال الإياس ؛ إذ كل واحد مما يوجب الحمد عليه والثناء . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } قيل : لمجيب الدعاء . وقوله - عز وجل - : { رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي } . قد سبق من الله الأمر بإقامة الصلاة ؛ وهو المقيم لها ؛ فدل الدعاء منه والسؤال ؛ على أن يجعله مقيم الصلاة - أن عند الله لطفا سوى الأمر لم يعطه ؛ فسأله ذلك ؛ هو التوفيق . وعلى قول المعتزلة ؛ لقولهم : إنه قد أعطى كل شيء حتى لم يبق عنده ما يعطيه . وقوله - عز وجل - : { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } . قال بعضهم : تقبل دعائي في إقامة الصلاة لنفسه وذريته ؛ لكن لا يجب أن يخص دعاء من الدعوات التي سأل ربه ؛ وقد دعا ربه بدعوات كثيرة ؛ نحو ما قال : { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } ، وقوله : { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ } ، وقال : { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [ البقرة : 128 ] ، وغير ذلك من الدعوات . وقوله - عز وجل - : { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } . طلب من ربه المغفرة لوالديه . قال الحسن : إن أمّه كانت مسلمة ، وأما أبوه : فكان كافراً ؛ لأنه قال : { وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ } [ الشعراء : 86 ] فخص والده بالضلال ؛ دل أن أمه كانت مسلمة ؛ لكنا لا نعلم ما حال الأم : أمه كانت مسلمة أو كافرة ، وأما أبوه فهو لا شك أنه كان كافراً . ثم [ لا ] يحتمل دعاؤه لوالديه ؛ وهما كافران ؛ إن كانت أمّه كافرة ؛ إلا على إضمار الإسلام ؛ أي : اغفر لهما إن أسلما ، أو أن يكون سؤاله المغفرة لهما سؤال الإسلام نفسه ، أو أن يكون طلب منه الستر عليهما في الدنيا ، وألاَّ يفضحهما ولا يخزيهما ، لكنه سأل المغفرة يوم يقوم الحساب . ولا يحتمل طلب الستر إلا أن يفصل بين قوله : { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } وبين قوله : { وَلِلْمُؤْمِنِينَ } يبتدئ بالمؤمنين يوم يقوم الحساب ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم ودعاء إبراهيم وسؤاله المغفرة لوالديه يكون سؤال السبب ؛ الذي يستحقان به المغفرة من ربها ، ويكونان أهلا لها ؛ وهو التوحيد ومعرفة المولى ؛ وهو ما ذكرنا في أمر نوح قومه الاستغفار له ، وكذلك قول هود ؛ حيث قال : { وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ … } الآية [ هود : 52 ] وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ } . يحتمل قوله : { يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ } : بالعدل ؛ يقول الرجل لآخر : أقم حسابي أي : اعْدل فيه . وإقامة الحساب : العدل فيه ؛ على ما توجبه الحكمة ، لا يزاد ولا ينقص ؛ كقوله : { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ } [ الأنبياء : 47 ] قال بعضهم : { يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ } : يوم يحاسبون ، قيام الحساب : هو المحاسبة نفسها والله أعلم . ويحتمل قوله : { إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } كانت له حاجات أخفاها ، طلب قضاءها ؛ فقال : تعلم حاجاتي ؛ أخفيتها ، أو أعلنتها فاقضها لي ، أو أن يكون قومه طعنوا في شيء ؛ فقال ذلك على التبري من ذلك ؛ إنه يعلم ما نخفي وما نعلن ، ولم يعلم ذلك الذين يطعنون في { مِنِّي } والله أعلم ؛ كقول عيسى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } [ المائدة : 116 ] أو أن يكون قال ذلك ؛ لأن أهل الأديان جميعاً كانوا يوالون إبراهيم ويدعون أنه على دينهم ؛ ولذلك قال : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً … } [ آل عمران : 67 ] الآية . برأه الله مما ادعى كل فريق . ثم منهم ؛ من كان من هذه الفرق ؛ يدعون الأسرار عن الله والإخفاء عنه ؛ فقال هذا ليعلم الناس توحيده ؛ أنه لا يخفى عليه شيء ؛ أُخفي أو أعلن ؛ ليعرفوا توحيده أنه ليس شيء يخفى عليه . والله أعلم .