Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 9-17)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ … } الآية . يشبه أن يكون الخطاب لأهل الإيمان منهم ، والرسل خاطبهم - عز وجل - تصبيراً [ منه لهم ] وتنبيهاً على تكذيب الكفرة إياهم ؛ وأذاهم واستهزائهم بهم ؛ فقال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } أي : قد أتاكم نبأ الذين من قبلكم ما فيه مزجر لكم عن مثل معاملتهم الرسول ، وهو ما ذكره : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } [ القمر : 4 ] إنه نزل بهم بتكذيبهم الرسل والاستهزاء بأتباعهم ، يذكر هذا لهم ؛ ليهون ذلك عليهم وليخف ؛ لأن من علم أن له شركاً فيما بُلي به وامتحن كان ذلك [ عليه أهون ] وأخف من أن يكون هو المخصوص به . ويحتمل أن يكون الخطاب لأهل الكفر منهم ؛ يقول : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } أي : قد أتاكم خبر الذين من قبلكم ؛ [ أنه ماذا أنزل بهم بتكذيبهم الرسل واستهزائهم بأتباعهم ؛ فينزل بكم ] ما نزل بهم ؛ لأن الذي أنزل ذلك عليهم حي قادر على إنزال مثله ؛ فيخرج ذلك مخرج [ التوقيح و ] التوبيخ والتعيير والوعيد ؛ ليحذروا عن صنيع أولئك . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ } . فيه دلالة أن تكلف معرفة الأنساب وحفظها إلى آدم شغل وتكلف ؛ لأنه أخبر أن فيهم من لا يعلمه إلا الله وروي في الخبر أنه كان ينسب إلى مُضَر ، ولا ينسب إلى أكثر من ذلك . قال أبو بكر الأصم : قوله : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ يكذب من ادعى معرفة الأنساب المتقدمة ؛ لأنه قال : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ } ] وقد أخبر أيضاً أنه لم يقصّ عليه خبر الكل بقوله : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [ غافر : 78 ] فمن البعيد أن يتكلف تعرف ما لم يقصّ على رسوله والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ } . قيل : البينات : بينات على وحدانية الله وألوهيته ، ويحتمل الحجج التي أتوا بها الرسل على إثبات الرسالة والنبوة . وقال بعضهم : البينات : ما يتّقون ، وما يأتون ، وما يحل عليهم وما يحرم . وقوله - عز وجل - : { فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَٰهِهِمْ } . يحتمل أن يكون هذا على التمثيل والكناية عن التكذيب وترك الإجابة ؛ لأن رد الأيدي في أفواههم يمنعهم عن التصديق ؛ كقوله : { كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ … } الآية [ الرعد : 14 ] إذا ترك إجابته ، وقوله : { يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ } [ آل عمران : 149 ] وأمثاله . ويشبه أن يكون على تحقيق جعل الأيدي في أفواههم ، ثم يخرج على وجهين : أحدهما : { فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَٰهِهِمْ } : في أفواه الرسل : فيقولون إنكم كذبة . ويحتمل : ردّ الأيدي في أفواه أنفسهم يصوتون ويستهزئون بهم وبأتباعهم ؛ كقوله : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ … } الآية [ الأنفال : 35 ] وقد ذكرنا معناه في موضعه ؛ فعلى ذلك [ هذا يحتمل ذلك ، ] والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَقَالُوۤاْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ … } الآية . [ وقد ذكرنا معناه ] ؛ يحتمل قوله : { بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } التوحيد ؛ لأنهم أرسلوا بالدعاء إلى توحيد الله والعبادة له ، يدل على ذلك قولهم : { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } وقول الرسل { أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ … } الآية . ويحتمل قوله : { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } من إثبات الرسالة ، وإقامة الحجة عليها ، { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } من التصديق بالرسالة والنبوة . { مُرِيبٍ } : هذا يدل أنهم كانوا على شكّ مما يعبدون من الأوثان والأصنام ؛ لأنهم لو كان لهم بيان في ذلك وحجة ودعاء إليه ؛ لكانوا لا يقولون : { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } ولكن كانوا يقطعون فيه القول ؛ فدل أنهم كانوا [ على شك وريب ] ؛ في عبادتهم الأصنام والأوثان التي عبدوها . ثم الشك والريب ؛ قال بعضهم : هما سواء ، وقال بعضهم : الشك : هو الشك المعروف ، والريب : هو النهاية في الشك . وقال بعض أهل التأويل في قوله - تعالى - : { فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَٰهِهِمْ } : أي : عضوا على أصابعهم غيظاً على ما دعوا . وقال بعضهم : ردوا عليهم قولهم أو كذبوهم ، وهو ما ذكرنا بدءاً ؛ وقال : ردوا عليهم بأفواههم . وقوله - عز وجل - : { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي ٱللَّهِ } . أي : أفي ألوهية الله شك ؛ أو في عبادة الله شك ؟ أي : ليس في ألوهيته ولا في عبادته شك [ إذ تقرون أنتم أنه إله وأنه معبود ، وكذلك أقر آباؤكم أنه إله وأنه معبود ، فليس في ألوهيته ولا في عبادته شك ] ؛ إنما كان الشك في عبادة من تعبدون دونه ، من الأوثان والأصنام وألوهيتها ؛ لأن آباءكم أقروا بألوهية الله وأنه معبود ، حيث قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] وقالوا : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] وأقروا أنه خالق السماوات الأرض ، وفاطر جميع ما فيهما بقولهم : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ لقمان : 25 ] وإن الأصنام التي عبدوها لم تخلق شيئاً ؛ فليس في الله شك عندكم إنما الشك فيما تعبدون دونه ؛ أو في وحدانية الله . أو يقول : أفي الله شك أنه معبود ؛ أي : ليس في الله شك أنه لم يزل معبوداً إنما الشك في الأصنام التي قالوا : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ؛ فأما في الله فلا شك أنه لم يزل معبوداً فاطر السماوات والأرض . يشبه أن يكون على الإضمار ؛ أي : أفي الله شك وقد تقرون أنه فاطر السماوات والأرض ؛ وتعلمون أنه خالقهما . ويحتمل أن يكون على الاحتجاج ؛ أي : أفي الله شك وهو فاطر السماوات والأرض ؟ ! أي : تعلمون أنه فاطر السماوات والأرض وتقرون أنه خالقهما . وقوله - عز وجل - : { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } . هذا يحتمل [ وجهين : يحتمل ] : ليغفر لكم ذنوبكم التي كانت لكم في حال الفترة إذا أسلمتم . وفيه دلالة - والله أعلم - : أن المآثم التي كانت لهم في وقت الفترة - مأخوذة عليهم ؛ ثم وعد لهم المغفرة إذا أسلموا . والثاني : وعد المغفرة والتجاوز ؛ لما كان منهم من الافتراء على الله ؛ والقول فيه بما لا يليق به ؛ إذا أسلموا وتابوا عن ذلك ؛ أي : إنكم ، وإن افتريتم على الله وقلتم فيه ما قلتم ؛ وكذبتم رسله ، فإذا أسلمتم وتبتم وصدقتم رسله - غفر لكم ذلك كله وفيه ذكر لطفه وحسن معاملته خلقه . ويحتمل أيضاً قوله : { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىۤ أَجَلٍ مُّسَـمًّـى } جواب ما قالوا : { إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } [ القصص : 57 ] . [ ويحتمل أيضاً قوله : { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } ] يقول إذا أسلمتم وتبتم لا تتخطفون ؛ ولكن تبلغون إلى آجالكم المسماة ويؤخركم إلى أجل مسمّى . يتعلق المعتزلة بظاهر هذه الآية أن لكل إنسان أجلين : أجل في حال إذا كان فعل فعل كذا ، وأجل في حال إذا فعل كذا ؛ لكن جعل الأجلين إنما يكون بجهل في العواقب ممن يجهل العواقب ، فأمّا الله سبحانه وتعالى فهو عالم بما كان ويكون ؛ فلا يحتمل أن يجعل له أجلين ؛ وهو عالم بما يكون ؛ فإنما جعله أجله بالذي علم أنه يكون منه ؛ في الوقت الذي جعله ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا } . في قولهم تناقض من وجهين : أحدهما : أنهم تركوا طاعة رسلهم واتباعهم ؛ لأنهم بشر مثلهم ؛ [ ثم أطاعوا آباءهم واتبعوهم في عبادة الأصنام ، وهم بشر مثلهم ] حيث قالوا : { تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا } فذلك تناقض في القول . والثاني : أنهم لم يروا الرسل متبوعين ؛ [ لأنهم ] بشر ثم لا يخلو هم بأنفسهم من أن يكونوا متبوعين استتبعوا غيرهم دونهم ، أو كانوا أتباعاً لغيرهم ؛ حيث قالوا : { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] فذلك تناقض في القول . { فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } . سألوا الحجة على ما دعوا إليه من ألوهية الله تعالى وربوبيته ، أو على ما ادعوا من الرسالة من الله ، وفي كل شيء وقع عليه بصرهم دلالة وحدانية الله وألوهيته ، لكنهم سألوا ذلك سؤال تعنت وعناد ، وكذلك قد أقاموا الحجج على ما ادعوا من الرسالة ؛ لكنهم تعاندوا وكابروا في ردّ ذلك فسألوا سؤال آية وحجة ؛ تضطرهم وتقهرهم على ذلك ، أو يكون عند إتيانها هلاكهم ؛ فأجابهم الرسل فقالوا : { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي : ما كان لنا أن نأتيكم بآية تكون بهم هلاككم ؛ إنما ذلك إلى الله : إن شاء فعل ؛ وإن شاء لم يفعل . وقوله : { إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } . أي : ما نحن إلا بشر مثلكم ؛ [ ولكن الله يمن على من يشاء ، في دلالة ] رد قول الباطنية ؛ لأنهم ينكرون كون الرسالة في جوهر البشرية ؛ ويقولون : إنما تكون الرسالة في جوهر الروحانية ؛ فهم - صلوات الله عليهم وسلامه - إنما أجابوا قومهم ؛ حيث قالوا لهم : ما أنتم إلا بشر مثلنا ؛ وقولهم : { إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } لم يذكروا شيئاً سوى البشرية ؛ فدل أن قول الباطنية باطل ؛ حيث قالوا : { إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } . { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } . فيه دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الله لا يختص أحداً بالرسالة ؛ إلا من كان منه ما يستحق به الرسالة ؛ وهم صلوات الله عليهم ؛ لم يذكروا سوى منة الله عليهم ، دل أنه يمن عليهم ويختصهم ؛ لا بشيء [ من الاستحقاق و ] يكون منهم من الأعمال ؛ ولكن بالمنة والفضل منه عليهم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } . هو ما ذكرنا : الإذن موضوعه الإباحة ، هو مقابل الحجر ؛ لكن الإذن المذكور في القرآن ليس كله على وجه واحد ؛ ولكن يتجه في كل موضع ويحتمل على ما يليق به ، قال الله تعالى : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 251 ] أي : بنصر الله ؛ لأن الهزيمة هي موضع النصر ؛ تحمل عليه ، وقال : { وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 49 ] أي : بإنشاء الله ؛ [ فعلى ذلك الإذن هاهنا ؛ حيث قال : { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي : بإنشاء الله ] السلطان وإجرائه على أيدينا . ويحمل الإذن المذكور في القرآن على ما يصلح ويليق بما تقدم ذكره . ويحتمل الإذن هاهنا الأمر ؛ أي : بأمر الله نأتي أي : إن أمرنا الله بذلك نأتي به . وقوله - عز وجل - : { وَعلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } . يشبه أن يكون ذكر هذا على إثر وعيد وأذى كان منهم إليهم ؛ فقالوا : على الله يتكل ويعتمد المؤمنون في دفع وعيدكم وأذاكم . وقوله : { وَعلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } هذا يخرج على وجهين : أحدهما : على الأمر ؛ أي : على الله توكلوا أيّها المؤمنون ؛ في جميع ما يتوعدكم أهل الكفر ؛ وفي جميع أموركم . ويحتمل على الإخبار عن صنيع المؤمنين أنهم إنما يتوكلون على الله ، [ وبه يعتمدون ] في جميع أمورهم ؛ ومنه يرون كل خير وبرّ ، لا بالأسباب التي لهم ولا يرون منها . وأما أهل الكفر فإنما يتوكلون ويعتمدون بالأسباب ؛ ومنها يرون كل سعة وخير . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ } . كأن هذا يخرج على إثر جواب منهم ؛ لما قال الرسل : { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } فأجابوهم بحرف ؛ فعند ذلك قال الرسل : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ } لكنه لم يذكر ما كان منهم ؛ ولكن ذكر جواب الرسل لهم : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } قال بعضهم : وقد بين لنا سلوك سبلنا . وعندنا قوله : { وَقَدْ هَدَانَا } أي : وفق لنا السلوك في السبل التي علينا أن نسلكها ؛ وأكرم لنا ذلك ؛ أي : ما لنا ألا نتوكل عليه في النصر والظفر عليكم ؛ وقد وفقنا وأكرمنا السلوك في السبل التي علينا سلوكها ، وذلك أعسر من القيام للأعداء والنصر بهم ؛ وقد أكرمنا ما هو أعسر وأعظم ؛ فإن ينصرنا أولى . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ آذَيْتُمُونَا } . يحتمل أن يكون هذا قبل أن يأمروا بالقيام لهم والاستنصار منهم ؛ أمروا بالصبر على أذاهم ؛ فقالوا : { وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ آذَيْتُمُونَا } . ويشبه أن يكون قوله : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ } أنهم قالوا ذلك ؛ لما كان أهل الكفر في كثرة ؛ وكان أهل الإسلام وأتباع الرسل في قلة ؛ يستقلون أهل الإسلام ويعاتبون على ذلك ؛ فقالوا عند ذلك : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ } بالنصر على أعدائنا ؛ والغلبة عليهم ، وقد أكرمنا بما ذكر . وقوله - عز وجل - : { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ } كأنه يخرج على الأمر ؛ أي : على الله فتوكلوا ؛ لا تتوكلوا [ على ] غيره . ويشبه أن يكون على الخبر ؛ أي : لا يتوكل المؤمن إلا على الله ؛ لا يتوكل على غيره ؛ كقول الرسول حيث قال : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ … } الآية [ هود : 56 ] وهو قول هود ، وقول المؤمنين : { عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا … } الآية [ الأعراف : 89 ] ونحوه . وقوله - عز وجل - : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ } . الإخراج يحتمل وجوهاً ثلاثة : أحدها : على حقيقة الإخراج من البلد إلى غيره من البلدان والأرضين . ويحتمل الإخراج : الحبس { لَنُخْرِجَنَّـكُمْ } ؛ أي : لنحبسنكم عن [ الانتفاع بالبلد ] وبأهله وبما فيه ، ويحتمل الإخراج : القتل ؛ أي : نقتلنكم ؛ وقد كان أهل الكفر يوعدون ويخوفون الرسل وأتباعهم بهذه الثلاثة ؛ كقوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } الآية [ الأنفال : 30 ] ونحوه . ثم في وعيدهم الذي أوعدوا الرسل وجوهاً ثلاثة حيث تجاسروا إقبال الرسل بمثل هذا الوعيد ومع الرسل آيات وحجج : أحدها : أنهم رأوا أنفسهم مسلّطين على أولئك ؛ قاهرين عليهم ؛ وكانوا أهل كبر وتجبر ؛ ألا ترى أنه قال : { وَٱسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [ إبراهيم : 15 ] دل هذا أنهم كانوا رأوا أنفسهم - كما ذكرنا - أهل تسليط وتجبر . والثاني : قالوا ذلك لهم ؛ لما لم يكن عندهم ما يدفعون حجج الرسل وبراهينهم ؛ فهمُّوا قتلهم وإخراجهم ؛ لعجزهم عن دفع ما ألزمهم الرسل ، وهكذا الأمر المتعارف بين الخلق : أن الخصم لا يقصد إهلاك خصمه ؛ ما دام له الوصول إلى الحجاج ؛ فإذا عجز عن ذلك فعند ذلك يهمّ بقتله ويقصد إهلاكه . والثالث : جواب الرسل إياهم عند القول إليه بالقول الذي ليس فوقه أحسن منه . وقوله - عز وجل - : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } . الملة : الدين ؛ كقوله [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا يتوارث أهل الملتين " وقوله [ تعالى ] : { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ النحل : 123 ] أي : دين إبراهيم . وقوله : { لَتَعُودُنَّ } ليس أنهم كانوا فيها وتركوها ؛ ولكن على ابتداء الدخول فيها على ما ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ } . وعد لهم النصر ؛ والظفر عليهم ؛ والتمكين في أرضهم مع قلة [ عدد ] أتباع الرسل وضعف أبدانهم ؛ ومع كثرة الأعداء وقوة أبدانهم ؛ ليعلموا أنهم قالوا ذلك بوحي من الله ؛ ووعده إياهم ؛ لا من حيث أنفسهم ، والله أعلم . فكان على ما أخبروا ؛ فكان ذلك من آيات رسالتهم ، وما ينبغي لهم أن يطلبوا [ لهم ] من الرسل الآيات والحجج على ما ادعوا ؛ لأنهم لم يدعوهم إلى طاعة أنفسهم أو عبادتها ؛ إنما دعوهم إلى وحدانية الله تعالى وألوهيته ، وجعل الطاعة والعبادة له دون ما عبدوها من الأصنام ، وذلك في شهادة خلقتهم ؛ وشهادة كل خلقة ؛ وإن لطف وصغر ؛ فلم يحتاجوا إلى أن يقيموا البراهين والحجج على ما ادعوا ودعوهم إليه ؛ لكنهم كانوا قوماً معاندين مكابرين لا يقبلون قولهم ولا يصدقونهم ؛ تعنتاً منهم وتكبُّراً ، لم ينظروا في خلق الله ليدركوا آثار وحدانيته وألوهيته ؛ فكلفوا إقامة الحجج والآيات ؛ لئلا يكون لهم مقال واحتجاج ، وإن لم يكن لهم الاحتجاج . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي … } الآية . قوله - تعالى - ذلك يحتمل وجوهاً ؛ لأنه قد سبق خصال ثلاث ؛ ما يحتمل رجوع هذا الحرف إلى كل واحد من ذلك . أحدها : قوله : { إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } فيحتمل قوله ذلك : المن والفضل لمن خاف مقامي وخاف وعيد . وسبق أيضاً قوله : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ } أي : ذلك الهدى والسبل التي هدانا إليها ؛ أي : ذلك الهدى والهداية لمن خاف مقامي وخاف وعيد . وسبق أيضاً : { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ … } الآية أي : ذلك النصر والظفر بهم والتمكين في الأرض لمن خاف [ مقامي وخاف ] وعيد . ثم قوله : { ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } قال بعضهم : خاف مقامي في الدنيا والآخرة ، وتأويله - والله أعلم - أي : خاف سلطاني ونقمتي وعذابي في الدنيا والآخرة ، أمّا في الدنيا لما نزل بمكذبي رسله وأنبيائه ، وخاف وعيده وعذابه في الآخرة حيث وعد أنه يحل بهم بالتكذيب وترك الإجابة . وقال بعضهم : خاف مقامي في الآخرة ؛ وهو كقوله : { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ المطففين : 6 ] يخاف ذلك المقام ، وخاف ما وعد من العذاب في النار . ثم قوله : { مَقَامِي } حيث أضاف إليه ، ليس في الاشتباه بأقل من قوله : { ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ؛ وأقل من قوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ } [ الفجر : 22 ] وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ … } الآية [ البقرة : 210 ] وأمثاله ؛ فكيف اشتبه هذا على [ أهل ] التشبيه ؛ ولم يشتبه قوله : { مَقَامِي } ؛ حيث سألوا في ذلك ؛ ولم يسألوا في هذا ؛ وهذا إن لم يكن أكثر في الاشتباه ؛ فليس بأقل ، والأصل في هذا وأمثاله ؛ من قوله : { إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [ غافر : 3 ] { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } [ الأنعام : 60 ] { وَإِلَيْهِ مَآبِ } [ الرعد : 36 ] و { مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] ذكر هذا ؛ وإن كان الخلائق جميعاً في الدارين جميعاً - يكون مصيرهم ومرجعهم إليه ؛ لأنه - جل وعلا - لم يخلقهم للمقام في الدنيا والدوام فيها ؛ إنما خلقهم للزوال عنها والفناء ، والمقام في الآخرة والدوام فيها ؛ لكن خلقهم في هذه الدنيا - ليمتحنهم ويبتلون فيها ؛ ثم يصيرون إلى دار المقام ، فالآخرة هي المقصودة في خلقهم في الدنيا ؛ لا الدنيا ؛ فإذا كان كذلك أضاف المصير إلى نفسه ، لما هو المقصود في خلقهم ؛ وإن كانوا في الدنيا والآخرة صائرين إليه ، غير غائبين عنه طرفة عين ؛ ولا فائتين ، وبالله النجاة . ذكر الله - عز وجل - أنباء الرسل الماضية وأتباعهم ؛ وأنباء أعدائهم ؛ وما عامل بعضهم بعضاً ، وما نزل بالأعداء - بما عاملوا رسلهم - من العذاب والاستئصال وأنواع البلايا ، وما أكرم رسله وأتباعهم وأولياءهم من النصر على أعدائهم ؛ والظفر بهم ، والتمكين في الأرض ، وجعل ذلك كله كتاباً بالحكمة ؛ يتلى ليعلم ؛ [ أن كيف ] يعامل الأعداء والأولياء ؛ وليرغب فيما استوجب الأولياء من الكرامات وليحذروا عن مثل صنيع الأعداء ؛ وليعلموا أن كيف عامل الله رسله وأولياءه ، وكيف عامل الرسل ربَّهم ، أضاف الرسل جميع ما نالوا من الخيرات والكرامات إلى الله ؛ كأن لا صنع لهم في ذلك ؛ حيث قالوا : { إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } ، ذكر قوله : { إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } ليعلم أن الخير ليس يكون بالجوهر ؛ ولكن بفضل من الله تعالى وبرحمته ، وقوله - عز وجل - : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } وأمثاله ، أضافوا ذلك إليه ؛ كأنهم لا صنع لهم في ذلك . وذكر الله - عز وجل - ما أكرم أولياءه ورسله ؛ من النصر والتمكين والإنزال في الديار ، كأنهم استوجبوا ذلك بفعلٍ كان منهم ؛ وهو قوله : { ذٰلِكَ } أي : ذلك النصر والتمكين ، وما ذكرنا من الوجوه { لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } ذكر أنهم استوجبوا ذلك ، لا أن كان ، { ذٰلِكَ } من الله بحق إفضاله وامتنانه ؛ ليعلموا معاملة الله رسله وأولياءه ، ومعاملة الرسل والأولياء لسيدهم ومولاهم . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱسْتَفْتَحُواْ } . يحتمل وجهين : أحدهما : الاستنصار ؛ استنصروا الله على أعدائهم ؛ كقوله : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ البقرة : 89 ] أي : يستنصرون . والثاني : { وَٱسْتَفْتَحُواْ } أي : تحاكموا إلى الله في النصر للأحق منهم ؛ والأقرب إلى الحق ؛ كقوله : { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا … } الآية [ الأعراف : 89 ] وهو التحاكم إليه . وقوله - عز وجل - : { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } . هو ما ذكرنا : تحاكموا إلى الله ؛ فنصر أولياءه ، وأهلك أعداءه ، على ما ذكر أن أبا جهل قال : اللهم دينك القويم وأياديك الحسنة ، أيّنا كان أحبّ إليك وأقرب إلى الحق - فانصره ؛ فنصر المؤمنين وأهلك الأعداء . وقوله : { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } أي : تجبر على رسله وأوليائه ، والعنيد : قيل : المعرض المجانب عن الحق والطاعة . وقال بعضهم : الجبار : القاتل على الغضب والضارب على الغضب ؛ وهو ما ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } أي : من وراء عذاب الدنيا لهم عذاب جهنم . [ و ] قوله : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } : الوراء : قد يستعمل في أمام وخلف ؛ أي : من أمام ما حلّ بهم جهنم ، ويحتمل : وراء ما أصابهم ؛ ما ذكر . وقوله - عز وجل - : { وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } . أى : يسقى في جهنم صديداً مكان ما يسقون في الدنيا ؛ وهو الذي يسيل من القروح [ والجروح ] ، جعل الله للكافرين في الآخرة مكاناً بما كان لهم في الدنيا ؛ لباساً وشراباً وطعاماً ؛ ما كانت تكرهه أنفسهم ، جعل مكان ما يسقون في الدنيا من الماء - في النار : الصديد والغسلين والحميم ، ومكان الطعام في الدنيا - في النار : الزقوم والضريع ، ومكان اللباس : القطران ونحوه ، ومكان القرين والصديق في الدنيا : يجعل قرينه الشيطان ، كقوله : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] إذ ذلك كله يمنعهم عن دين الله ؛ ويصدهم عن ذكره ، ليكون جزاؤهم من نوع ما كان يمنعهم في الدنيا عن طاعته . ثم قال بعضهم : إن الصديد الذي يسقون : هو أن النار تجرحهم وتقرحهم ؛ فيسيل - من ذلك - الصديدُ ؛ فيسقون من ذلك . وقال بعضهم : لا ؛ ولكن يجعل شرابهم فيها صديداً ؛ كشراب أهل الجنة وطعامهم من غير أصل . وقوله : { وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } ويحتمل : يسقى من ماء في ظنهم ماء ؛ وهو في الحقيقة صديد . ويحتمل أن يكون في الحقيقة والظاهر صديداً ؛ لكن يشربون ؛ رجاء أن يدفع عطشهم . وقوله - عز وجل - : { يَتَجَرَّعُهُ } . قال أبو عوسجة : التجرع : ما يشربه مكرهاً عليه . { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } . يقال : أسغته : أي : أدخلته في الحلْق ؛ يقال : أسغته [ فساغ ، أي : دخل سهلاً من غير أن يؤذيه ، وكذلك قيل في قوله : { سَآئِغٌ شَرَابُهُ } [ فاطر : 12 ] أي : سهل في الحلق ] وساغ في حلقه ؛ إذا دخل دخولا سهلا لا يؤذيه . وقوله - عز وجل - : { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ } . قال قائلون : يأتيهم الغمّ والهم من كل مكان ، وكذلك المتعارف في الخلق : إذا اشتد بهم الغم والهم والشدة ، يقال : كأنك ميت ؛ أو تموت غمّاً . وقال بعضهم : { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ } أي : أسباب الموت ؛ ما لو كان من قضائه الموت فيها - لماتوا ؛ لشدة ما يحل بهم ، ولكنْ قضاؤه ؛ ألا يموتون فيها . { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } موت حقيقة يستريح من العذاب . وقوله : { مِن كُلِّ مَكَانٍ } قال بعضهم : من كل ناحية من فوق ؛ ومن تحت ؛ [ ومن خلف ] ومن قدام ؛ كقوله : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] وقال : { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] أخبر أن النار تأتيهم وتأخذهم من كل جانب ومن كل جهة . ويحتمل { مِن كُلِّ مَكَانٍ } : أي : ومن كل سبب من تلك الأسباب التي تأتيهم ؛ ما لو كان قضاؤه الموت - لماتوا بكل سبب من تلك الأسباب . وقال بعضهم : أي : ليس من موضع من جسده ومن سائر جوارحه - إلا الموت يأتيه منها ؛ من شدة ما يحل بهم ؛ حتى يجدوا طعم الموت وكربه . وقوله - عز وجل - : { وَمِن وَرَآئِهِ } أي : ومن وراء ذلك العذاب - عذاب غليظ لا ينقطع ولا يفتر ، وصفه بالغلظ والشدة ؛ لدوامه والإياس عن انقطاعه . والله أعلم .