Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 85-99)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } . يحتمل { بِٱلْحَقِّ } : الحق الذي جعل لنفسه على أهلها ، والحق الذي لبعض على بعض ، والحق : هو اسم كل محمود مختار من القول والفعل ، والباطل : اسم كل مذموم من القول والفعل . قال بعضهم : تأويله : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا شهوداً لله بالحق على أهلها . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } : أي : لم يخلقهما لغير شيء ؛ ولكن خلقهما للمحنة ؛ يمتحنهم بالعبادة فيها ، وإلى هذا ذهب الحسن . وقيل : خلقهما وما بينهما لأمر كائن ؛ أي : لعاقبة : للثواب أو الجزاء ، لم يخلقهم للفناء خاصة ؛ ولكن للعاقبة ؛ لأن خلق الشيء للفناء خاصة عبث ؛ وهو ما قال : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] أخبر أن خلقهم لا للرجوع إليه ولا للعاقبة - عبث ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم . وجائز أن يكون قوله : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ } على الاحتجاج على أولئك لإنكارهم الساعة ، لوجهين : أحدهما : ما ذكرنا أنه لو لم تكن الساعة حصل خلقهما وما بينهما للفناء خاصة ؛ وخلقُ الشيء للفناء خاصةً عبث باطل ؛ كبناء البناء للنقض خاصة لا لعاقبة تقصد - عبث . والثاني : أنه يكون في ذلك التسوية بين الأعداء والأولياء ، وفي الحكمة التفريق بينهما ، وما قال : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } الآية [ ص : 27 ] لم يكن ظنهم أنه خلقهما باطلا ؛ ولكن لما أنكروا البعث صار في ظنهم خلقهما باطلا . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ } . قال بعضهم : { فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ } : [ أي : أعرض عنهم ] ، ولا تكافئهم بما آذوك بألسنتهم وفعلهم { وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ } فإني أكافئهم عنك على أذاهم إياك وصنيعهم يومئذ . والصفح الجميل : هو ما لا نقض فيه ولا منّة في العُرف ؛ أي : اصفح الصفح ما يوصف فيه بتمام الأخلاق ، ومالا نقض فيه ولا منّة يحتمل الصفح الجميل : هو أن يصفح ولا يمنّ عليهم ، كأنه أمره أن يصفح صفحاً لا منّة فيه . { وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ } فتجزى أنت على صفحك الجميل ؛ وهم على أذاك . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } . هذا يحتمل وجهين : أحدهما : أنه على علم بما يكون منهم من المعصية والخلاف خلقهم ، لا خلقهم عن غفلة وجهل بذلك ؛ ليعلم أنه لم يخلق الخلق لحاجة نفسه ولا لمنفعة نفسه ، ولكن خلقهم ليمتحنهم بما أمرهم به ونهاهم ، ولما يرجع إلى منافعهم وحوائجهم . والثاني : إن ربك هو الخلاق لخلقه ؛ العليم بمصالحهم بأن الصفح الجميل لهم ، ذلك أصلح في دينهم من المكافأة . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } . اختلف في قوله : { سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } : قال بعضهم : { سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } : المثاني : هو القرآن كله ؛ كقوله تعالى : { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] . وقيل : سمي مثانياً لترديد الأمثال فيه والعبر والأنباء ؛ فإن كان على هذا فيكون قوله : { سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } : أي : سبعاً من القرآن العظيم . ثم يحتمل السبع الطوال ؛ على ما ذكر بعض أهل التأويل ؛ كأنه قال : آتيناك سبعاً من القرآن العظيم . ويحتمل : { سَبْعاً } يعني فاتحة الكتاب من القرآن ؛ أي : آتيناك فاتحة الكتاب من القرآن . وقال قوم : يقولون : سبع المثاني : فاتحة الكتاب ، ويروون على ذلك حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ " الحمدُ لله أم القرآن وأم الكتاب ، والسبعُ المثاني " وعن أُبَيٍّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ] : " ما أنزل الله في التوراة والإنجيل مثل أم القرآن ؛ وهي السبع المثاني ، وهي مقسومة بيني وبين عبدي ؛ ولعبدي ما سأل " . ومنهم من يقول : المثاني : القرآن كله ؛ يذهب إلى ما ذكرنا من الآية ؛ وبما يروى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور والقرآن مثلُها - يعني أمّ القرآن - وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت " ذكروا أنها سبع من المثاني ، فإن كان سبع المثاني فاتحة الكتاب ، يصير كأنه قال : ولقد آتيناك سبعاً ؛ وهي المثاني ، وإن كان سبعاً من المثاني [ هي السبع ] الطوال يكون هكذا : أي : آتيناك سبعاً ؛ وهو المثاني . وروي أيضاً عن نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال : " آتاني السبع الطوال مكان التوراة والمثاني مكان الإنجيل ، وفضّلني ربي بالمفصل " ثم إن ثبت ما روي في الخبر أن سبع المثاني فاتحة الكتاب وإلا الكفّ والإمساك عن ذلك أوْلى ؛ لأنه لا حاجة بنا إلى معرفة ذلك ، وليس يكون تسميتنا إياها سوى الشهادة ، وما خرج مخرج الشهادة - من غير حصول النفع لنا - فالكف عنه والإمساك أولى . ومنهم من يقول : هنّ المفصّل . ومن قال : المثاني فاتحةُ الكتاب - قال : لأنها تثنى في كل ركعة أو ما جعل فيها مكررة معادة ؛ لأن كل حرف منها يؤدي معنى حرف آخر ؛ فسمي مثاني بذلك . ومن قال : المثاني : هو القرآن ؛ قال : لما ذكرنا ؛ لأن أمثاله ، وأنباءه ، وغيره معادة مردّدة . ومن قال : المثاني السبع الطوال - فقال : لأنه يثني فيها حدود القرآن ، وفرائضه ، وعامة أحكامه . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } . سماه عظيماً ، وسماه مجيداً ، وحكيماً ؛ وهو اسم الفاعلين ، ولا عمل له ولا فعل في الحقيقة ؛ لكنه يخرج - والله أعلم - على وجوه : يحتمل : سمّاه عظيماً مجيداً ؛ لما عظمه وشرفه ومجده ، فهو عظيم مجيد حكيم : أي : محكم ، الفعيل بمعنى المفعول ، وذلك جائز في اللغة . أو سماه بذلك لأن من تمسك به ؛ وعمل به ؛ يصير عظيماً مجيداً ، حكيماً ، أو سماه عظيماً مجيداً حكيماً : أي : جاء من عند عظيم هو مجيد حكيم ، وأصل الحكيم : هو المصيب ، الواضع كلَّ شيء موضعه . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } . يحتمل المراد بقوله : { عَيْنَيْكَ } نفس العين . ثم هو يحتمل وجهين : أحدهما : نهى رسوله أن ينظر إلى ما متع أولئك مثل نظرهم ؛ لأنهم ظنوا أنهم إنما متعوا هذه الأموال في الدنيا لخطرهم وقدرهم عند الله ، وعلى ذلك قالوا : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] وقال : { وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ … } الآية [ فصلت : 50 ] ونحوه ، ظنوا أنهم إنما متعوا في هذه الدنيا ؛ لخطرهم وقدرهم عند الله ؛ لذلك قالوا ما قالوا ؛ فنهاه أن ينظر إلى ذلك بعين الذين نظروا هم إليه ؛ ولكن بالاعتبار . والثاني : نهاه أن ينظر إلى ذلك نظر الاستكبار والتجبر على المؤمنين ، والاستهزاء بهم على ما نظروا هم ؛ لأنهم بما متعوا من أنواع المال استكبروا على الناس ، واستهزءوا بهم ؛ إذ البصر قد يقع [ على ما ذكر ] من غير تكلف ؛ فيصير كأنه نهاه عن الرغبة والاختيار فيما متعوا فيه ؛ لأن ما متعوا به هو ما ذكر ، { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلدُّنْيَا } [ التوبة : 58 ] وقال في آية أخرى { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [ طه : 131 ] . وقوله : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } فيما متعوا فإنهم إنما متعوا لما ذكر ، ويحتمل النهي عن مدّ العين لا العين نفسه ولكن نفسه ؛ كأنه قال : لا تمنيّن نفسك فيما متعوا هم ولا ترغبنها في ذلك ؛ فإنه ليس يوسع ذلك عليهم لخطرهم وقدرهم ؛ ولكن ليعلم أن ليس لذلك خطر عند الله وقدر ؛ حيث أعطى من افترى [ على الله ] وجحد نعمه وفضْله . وفي الآية تفضيل الفقر على الغنى ؛ لأنه نهى رسوله أن يمد عينيه إلى ما متعوا ، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مدّ إلى ذلك ليس يمد للدنيا ولا لشهواته ؛ ولكن يستعين به في أمر جهاد عدوه ، ويعين به أصحابه في سبيل الخيرات ، ثم نهاه مع ذلك عنه ؛ دلّ أن الأخير والأفضل ما اختاره من الفقر ، وقصور ذات يده . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } . أي : أصنافاً من الأموال ، وألواناً من النعم . وقال بعضهم : { أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } : أي : الأغنياء منهم وأشباهه ؛ فإن كان قوله : { أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } هو أصناف الأموال - فهو على التقديم والتأخير ، كأنه قال : لا تمدن عينيك إلى ما متعنا منهم أزواجاً . وإن كان أزواجاً منهم هو أصناف الناس فهو على النظم الذي جرى به التنزيل ؛ أي : لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به قوماً منهم . وفي قوله : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } إلى { مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الله لا يعطي أحداً شيئاً إلا ما هو أصلح له في الدين ، ولو كان ما متع هؤلاء أصلح لهم في الدين - لم ينه رسوله عن مدّ عينيه إليه ، دلّ أنه قد يعطي ما ليس بأصلح في الدين ، وكذلك قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] أخبر أنه إنما يملي لهم ليزدادوا إثماً ، وهم يقولون : يملي لهم ليزدادوا خيراً . وكذلك قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ … } الآية [ آل عمران : 180 ] هذه الآيات كلها تنقض عليهم قولهم ، وقد ذكرنا هذا في غير موضع فيما تقدم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } . يحتمل النهي نفسه نهاه أن يحزن عليهم ؛ إشفاقاً عليهم ؛ بل أمره أن يغلظ عليهم ؛ كقوله : { جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ] ، وعلى هذا يخرج قوله : { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] أي : ارفق بهم ، ولِنْ عليهم ، واشدد على أولئك ، واغلظ عليهم ؛ وهو ما وصفهم : { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ، { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] أخبر أنهم أهل شدة على الكفار وأهل غلظة ، رحماء بينهم ، وأهل ذلّة على المؤمنين ، وأهل شدة عليهم ؛ أي : على الكفار ، فعلى ذلك هذا . ويحتمل أن ليس على النهي ؛ ولكن على التخفيف والتسلي ، ودفع الحزن عن نفسه ؛ لأنه كان يحزن لكفرهم بالله وتركهم الإيمان ؛ حتى كادت نفسه تتلف لذلك ؛ كقوله : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } الآية [ الشعراء : 3 ] وقوله : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ } الآية [ فاطر : 8 ] وأمثاله . ويحتمل أيضاً وجهاً آخر : وهو أنه كان يحزن عليهم ، ويضيق صدره ؛ لما مكروا به وكادوه ؛ كقوله : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } [ النحل : 127 ] فإني أكافئهم . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ } . يحتمل : أنا النذير على معاصيه ، المبين على طاعاته ، أو النذير على العصاة من عذاب الله ، المبين لأموره ونواهيه . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ * ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } . قال الحسن : الكتب كلها قرآن ؛ يعني كتب الله اقتسموها وجعلوها عضين ؛ أي : فرقوها بالتحريف والتبديل ؛ فما وافقهم أخذوه ، ومالم يوافقهم غيّروه وبدلوه ؛ كقوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } [ المائدة : 41 ] ونحوه ، فذلك اقتسامهم وتعضيتهم على قوله ، وكقوله : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } [ الأنعام : 91 ] وقوله : { فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً } [ المؤمنون : 53 ] ونحوه . وقال بعضهم : اقتسامهم : وهو أن نفراً من قريش كانوا اقتسموا عقار مكة ؛ ليصدّوا الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فيقول طائفة منهم - إذا سئلوا عنه - : هو كاهن ، وطائفة أخرى : هو شاعر ، ساحر ، مجنون ، ونحوه . وعضين : قولهم : هو : سحر ، شعر ، كهانة ، أساطير الأولين ، افترى على الله كذباً ، وأمثال ما قالوا : فذلك اقتسامهم وعضتهم . وقال بعضهم : هو على التقديم : أي : آتيناك المثاني والقرآن العظيم ؛ أنزلناه عليك كما أنزلنا التوراة والإنجيل على اليهود والنصارى ؛ فهم المقتسمون كتاب الله ؛ فآمنوا ببعض وكفروا ببعض . وقال أبو عوسجة : يقال : عضيت الجزور : أي : قسمتها عضواً عضواً . وقال غيره : هو من العضة : وهو السحر ؛ بلسان قريش ؛ يقال للساحر عاض . وقال القتبي : المقتسمون : قوم تحالفوا على عضة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وأن يذيعوا ذلك بكل طريق ، ويخبروا به النزاع إليهم . وعضين : أي : فرقوه [ وعضوه ] . وقيل : فرقوا القول فيه ، وهو ما ذكرنا . والله أعلم . وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . قوله : { فَوَرَبِّكَ } : قيل : قسم أقسم به تعالى . { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } : قال بعضهم : الخلائق كلها ؛ كقوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] أخبر أنه يسألهم جميعاً : الرسل عن تبليغ الرسالة ، والذين أرسل إليهم عن الإجابة لهم . وقال بعضهم : قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } : هؤلاء الذين سبق ذكرهم ؛ المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ، والذين استهزءوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؛ يسألهم عن حجج ما فعلوا ، والمعنى الذي حملهم على سوء معاملة رسوله وكتابه ، لأي : شيء نسبتم رسولي وكتابي إلى السحر ، والكذب ، والكهانة ، والافتراء على الله ؟ لا يسألون ما فعلتم ؟ وأي شيء عملتم ؛ لأن ذلك يكون مكتوباً في كتبهم ؛ يقرءونه ؛ كقوله : { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] وهو وعيد شديد في نهاية الوعيد والشدة ؛ لأنه وعيد مقرون بالقسم ، وكل وعيد قرن بالقسم فهو في غاية الشدة ؛ إذ لو جاءنا ذلك الوعيد من ملك من ملوك البشر يجب أن يخاف ؛ فكيف من ربنا ؟ ! وقوله - عز وجل - : { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } . قال بعضهم : { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } : أي : استقم كما تؤمر ؛ كقوله : { فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } [ هود : 112 ] . فهو في كل ما أمر به . وقال بعضهم : اصدع : أي : امض بما تؤمر من تبليغ الرسالة . { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } . أي : أعرض عن مكافأتهم ؛ ومعناه - والله أعلم - امض على ما تؤمر ؛ من تبليغ الرسالة إليهم ولا تخفهم ، ولا تهبهم ، ولا يمنعنك شيء عن تبليغ الرسالة ؛ الخوف ، ولا القرابة ، ولا شيء من ذلك ، ولكن امض على ما تؤمر ؛ وهو كما قال : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ } [ المائدة : 8 ] وقال : { كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ } [ النساء : 135 ] أي : لا يمنعكم عن القول بالحق والعدل بغضكم إياهم ، ولا قرابتكم التي فيما بينكم ، فعلى ذلك قوله : { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } : أي : امض على ما أمرت من تبليغ الرسالة ، ولا يمنعنك عن ذلك : الخوف ، والوعيد ، والقرابة التي فيما بينك وبينهم . وقال القتبي : { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } : أي : أظهر ذلك ، وأصله : الفرق والفتح ؛ يريد : اصدع الباطل بحقك ؛ حتى يأتيك الموقن به ؛ وهو الموت . وقال أبو عوسجة : اصدع : أي : امض على ما تؤمر ، وصدعت : أي : مضيت ؛ وذلك من المضي ، وأصل هذا كله : الشق ، ويقال : تصدعوا : أي : تفرقوا . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } أي : أعرض عن مكافأتهم ؛ فأنا أكافئهم عنك على ما آذوك . وقال بعض أهل التأويل : قوله : { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } هو منسوخ بآية السيف ؛ لكن على الوجه الذي ذكرنا ليس بمنسوخ ، ويحتمل : { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } ؛ إن كان أراد به القتال والدعاء إلى التوحيد فهو في وقت دون وقت أو في قوم خاص علم الله أنهم لا يجيبونه ولا يؤمنون به أيئس رسوله عن إيمانهم فقال : أعرض عن هؤلاء ولا تشتغل بهم ولا تدعهم فإنهم لا يؤمنون ولكن ادع قوماً آخرين والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ } . قال بعضهم : قوله : { كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ } : الكفرة جميعاً ؛ فمنعناهم عن أن يصلوا إليك ؛ على ما [ قصدوا إليك ] من إهلاكك ، وغيره ؛ كقوله : " نصرت بالرعب مسيرة شهرين " . وقال بعضهم : قوله : { كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ } الذين كانوا على الطرق والمراصد ؛ ليصدوا الناس عن سبيل الله ؛ على ما ذكر في القصّة ؛ العدد الذي ذكر سبعة أو خمسة ؛ كفاه الله بأن أهلكهم بما ذكر أهل التأويل : أن الذين استهزءوا به هلكوا جميعاً بعقوبات مختلفة . وقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ } . قوله : { يَجْعَلُونَ } ليس على الجعل ؛ لأنهم لو جعلوا لكان ؛ لأن كل مجعول كائن موجود ؛ ولكن قوله : { يَجْعَلُونَ } : أي : يزعمون أن مع الله إلهاً آخر ؛ إما في التسمية أو في العبادة ، وكذلك قوله : { جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } هم لا يقدرون على أن يجعلوه عضين ، ولكن زعموا أنه كذا ؛ لأن الله وكل حفظه إلى نفسه ؛ بقوله : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] وقال : { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] أخبر أنه يحفظه حتى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ فلو قدروا على جعله عضين - لكان قد أتى الباطل من بين يديه ، دلّ أنه على القول الذي قالوا ؛ وهو على المجاز [ كقوله : { فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ } [ الصافات : 91 ] ، وقوله : { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً } [ ص : 5 ] ، فهو على المجاز ] على ما عندهم ، إما بحق التسمية لها أنها آلهة ، وإما بصرف العبادة إليها ، ظاهر هذا أن المستهزئين الذين ذكرهم أنه كفاه عنهم هم الكفرة جميعاً ؛ لكن يحتمل في الذين ذكرهم أهل التأويل كانوا على مراصد مكة ، أضاف ذلك إليهم ونسب ؛ لأنهم هم الذين أمروا غيرهم أن يجعلوا دونه إلهاً ؛ فكأنهم فعلوا ذلك ، وهم قالوا . وقوله : { كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ } الذين فعلوا به ما فعلوا ممن تقدم ذكرهم ؛ فيكون قوله : { ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ } على إضمار ( كان ) ؛ أي : الذين كانوا يجعلون مع الله إلهاً آخر . وإن كان في الذين يكونون من بعد - فهو على ظاهر ما ذكر ؛ يجعلون على المستقبل . وقوله - عز وجل - : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } . أي : سوف يعلمون ما عملوا من الاقتسام ، والعضة ، والاستهزاء برسول الله وأصحابه ، إذا نزل العذاب بهم . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } . وما قالوا ؛ من الاقتسام ، والعضة ، والاستهزاء به ، وأنواع الأذى الذي كان منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي : نعلم ذلك ، وهو محفوظ عندنا ، نجزيهم على ذلك فلا يضيقن صدرك ؛ لذلك فهو على التصبير على الأذى ، والتسلي عن ذلك ، وترك المكافأة لهم ، والله أعلم . وكان يضيق صدره ؛ مرة لتركهم الإجابة له ، ومرة للأذى باللسان . والثاني : على علم منا بما يكون منهم ، ومن ضيق صدرك بذلك ، لكن أنشأناهم ومكناهم على علم منا بذلك ؛ امتحاناً منا إياك بذلك وإياهم . وقوله - عز وجل - : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } . قال بعض أهل التأويل : أي : صل بأمر ربك وكن من الساجدين ؛ أي : من المصلين . وقوله : { فَسَبِّحْ } : هو أمر ؛ فإذا فعل ذلك كان بأمر ربه ؛ فلا معنى لذكر الأمر من بعد قوله : { بِحَمْدِ رَبِّكَ } إن كان الحمد هو الأمر ؛ على ما قال بعض أهل التأويل . ويحتمل وجهاً آخر : وهو أن قوله : { فَسَبِّحْ } أي : نزّه الله عن جميع ما قالت الملحدة فيه ؛ إذ التسبيح هو التنزيه في اللغة { بِحَمْدِ رَبِّكَ } ؛ أي : بثناء ربك ؛ أي : نزهه عن ذلك كله بثناء تثنيه عليه ، وكن من الساجدين ؛ أي : من الخاضعين ؛ إذ السجود هو الخضوع . أو أن يكون أمره إياه بالتسبيح على التسلي ، وتوسيع صدره بالذي يكون منهم ؛ أي : فسبح ربك مكان ذلك . وقوله - عز وجل - : { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ } . يحتمل التوحيد ؛ أي : وحّد ربك ، وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه : كل عبادة ذكرت في القرآن - فهو توحيد يأمره باعتقاد الإخلاص له في كل أمر ، ويحتمل العبادة نفسها ؛ يأمره بالعبادة له ؛ شكراً له ؛ على ما روي في الخبر عن نبي الله صلى الله عليه وسلم : " أنه صلى حتى تورمت ساقاه ؛ فقيل له : ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ ! فقال : " بلى ، أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ ! " . وقوله - عز وجل - : { حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } : أي : ما تيقنت به ؛ وهو الموقن به . وكذلك قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] أي : من يكفر بالمؤمن به فقد حبط عمله ؛ لأن الإيمان لا يكفر به ، فعلى ذلك اليقين لا يأتيه ؛ ولكن يأتيه الموقن به . وكذلك ما ذكر : الصلاة أمر الله ؛ أي : بأمر الله ، وهو المأمور به ؛ لأن الصلاة لا تكون أمر الله ، لكن بأمر الله ، وكذلك ما يجيء من هذا النحو . ويحتمل قوله : { حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } فيهم ؛ وهو ما وعد من العذاب فيهم ؛ أي : يتيقنون بذلك والله أعلم .