Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 125-128)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ } . قيل : دين ربك . { بِٱلْحِكْمَةِ } . قال الحسن : الحكمة : القرآن ، أي : ادعهم إلى دين الله بالقرآن . وقال بعضهم : بالحكمة : بالحجة والبرهان ، أي : ادعهم إلى دين الله بالحجج والبراهين ؛ أي : ألزمهم دين الله بالحجج والبراهين ؛ حتى يقروا به . وقوله - عزّ وجلّ : { وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } . قال الحسن : أي عظهم بالمواعظ التي وعظهم الله - تعالى - في الكتاب . وقال أبو بكر : أي ذكرهم النعم التي أنعم عليهم ، { وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ، أي : جادلهم أحسن المجادلة بلين القول ، وخفض الجانب والجناح ؛ لعلهم يقبلون دينهم ، ويخضعون لربهم . وكذلك اختلفوا في قوله : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ المائدة : 110 ] ، وقوله : { لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [ آل عمران : 81 ] : قال الحسن : الكتاب والحكمة : واحد ؛ اسم شيء ، وهو القرآن . وقال بعضهم : الكتاب هو القرآن ، وهو سماع الوحي ، والحكمة : وحي الإلهام ، وهو السنة . وقال بعضهم : الكتاب : هو التنزيل ، والحكمة : هي المعنى المودع فيه ؛ فمن يقول : إن الكتاب والحكمة واحد ، وهي القرآن يقول في قوله : { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ } : القرآن ، ومن يقول عنه : إنهما غيرٌ - يقول - هاهنا - : إنّ الحكمة : الحجة والبرهان ، إمّا من جهة الإلهام أو من جهة الانتزاع من الكتاب . ويحتمل أن يكون قوله : { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ } : التي ذكر في هذه السورة ؛ من ذلك قوله : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } [ النحل : 69 ] : يعني : من بطون النحل ، وقوله : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } [ النحل : 66 ] ، وما ذكر أنه يخرج من الخشب اليابسة - الأعناب وأنواع الثمرات ونحوه ؛ فذلك كله بحكمته ، أي : ادعهم إلى دينه وذكرهم بهذا ، وهم يقرون به ؛ ليقبلوا دينه ويخضعوا لأمره . والموعظة الحسنة : ما ذكر في قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ … } الآية [ النحل : 90 ] ، وذلك كله مستحسن في العقل وتوجبه الحكمة ؛ لأن العدل والإحسان ، وما ذكر من إيتاء ذي القربى - الصدقة - مستحسن في عقل كل أحد . والانتهاء - أيضاً - عن الفحشاء والمنكر مستحسن ، مستقبح ارتكابه وإتيانه ؛ كأن الحكمة هي التي تشتمل على العلم والعمل جميعاً ؛ كأنه قال : ادعهم إلى دين الله بالعلم والعمل جميعاً ؛ حتى ينجع ذلك فيهم ؛ أو : ادعهم باللّين وخفض الجناح مرة ، [ و ] بالعنف والخشونة ثانياً ؛ فيكون وضع الشيء موضعه ، ثم قال : { يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } . يحتمل - والله أعلم - أي : جادلهم بالذي يقرون على ما ينكرون ، وهو ما ذكر : { أَفَمَن يَخْلُقُ … } الآية [ النحل : 17 ] ، وقوله : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً } [ النحل : 73 ] ، وقوله : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً … } الآية [ النحل : 75 ] ، وقوله : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ … } الآية [ النحل : 76 ] ، وقوله : { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ … } الآية [ النحل : 71 ] ، ونحو هذا . يجادلهم بأحسن المجادلة بالذي يقرون أنه كذلك على الذين ينكرون ؛ فيلزمهم القبول والخضوع له . ثم في الآية دلالة تعليم المناظرة في الدين وكيفية المعاملة - بعضهم لبعض - فيها ؛ حيث قال : { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ } : التي عنده بالقرآن أو غيره من الحجج والبينات ، { وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } : هكذا يجب أن يناظر بعضهم بعضاً بالوجه الذي وصف الله ، وعلى ذلك ما ذكر الله في كتابه : مناظرة الأنبياء والرسل مع الفراعنة والأكابر ، وهو ما قال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ … } [ البقرة : 258 ] إلى آخر ما ذكر ، وقوْله : { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَٰجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ … } الآية [ الأنعام : 80 ] ، [ و ] مناظرة فرعون مع موسى - صلوات الله عليه - حيث قال : { وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } الآية [ الشعراء : 23 - 24 ] ، ولما قال : { رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } [ الشعراء : 28 ] ، وقوله : { فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ * فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ } [ الشعراء : 31 - 32 ] ، وما قال : { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ * قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [ طه : 49 - 50 ] وأمثاله ممّا يكثر ، فهذه مناظرة الرسل والأنبياء مع الفراعنة والأعداء ؛ فكيف المناظرة بين الأولياء ؟ ! فهذا كله يردّ على من يأبى المناظرة في الدين ويمتنع عن التكلم فيه والاحتجاج . وقوله - عزّ وجلّ - : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } . في الآية نسبتهم إلى الضلال إشارة وكناية لا تصريحاً ؛ لأنه لم يقل لهم مصرحاً : إنكم قد ضللتم عن سبيله ؛ لحسن معاملته التي علم رسوله وأمره أن يعاملهم ؛ لأن ذلك أقرب إلى القبول وأَمْيل إلى القلوب وآخذ ؛ ألا ترى أنه قال لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [ طه : 44 ] . وقوله - عز وجل - : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } . اختلف في سبب نزول ذلك : قال بعضهم : [ نزلت ] في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن نفراً منهم قد مثلوا يوم أحد مثلة سيّئة : من قطع الآذان ، وتجديع الأنوف ، وبقر البطون ، ونحوه ؛ فقال أصحابهم : لئن أدالنا الله منهم لنفعلن ولنفعلن كذا وكذا . فأرادوا أن يجازوا بذلك ؛ فأنزل الله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ … } الآية [ النحل : 126 ] . وفيه البشارة لهم بالنصر والظفر على أعدائهم ؛ لأنه لو لم يكنْ لهم الظفر فكيف يقدرون على معاقبة مثل ما عاقبوا ؛ دل أنه على البشارة لهم بالنصر والظفر بهم . وفيه دلالة جواز أخذ من لم يتولّ القتل والأخذ والضرب ؛ لما لعلهم لا يظفرون بأولئك الذين تولّوا ذلك ، لكن لا يؤاخذ إخوانهم بهم ؛ لما بمعونة بعضهم بعضاً فيها ، ويكون فيه دليل أخذ قطاع الطريق بالقتل والقطع ، وإن كان الذي تولّى ذلك بعضٌ منهم ؛ لما أن من تولّى ذلك إنّما تولى بمعونة من لم يتول . وقال بعضهم : إنما نزلت الآية في ابتداء الأمر الذي كان القتل مع الكفرة قتل مجازاة ؛ مثل قوله : { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [ التوبة : 36 ] ، وكقوله : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } [ البقرة : 191 ] ، ومثله ؛ فإذا كان على المجازاة أمر ألا يتجاوزوا عقوبتهم ، ولكن بمثله ، وأمّا إذا كان القتال معهم لا قتال مجازاة فإنهم يقتلون جميعاً إذا أبوا الإسلام ؛ بقوله : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ … } الآية [ التوبة : 29 ] ، وقوله - عليه السلام - : " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله " ، وقوله - تعالى - { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [ الفتح : 16 ] . وقال بعضهم : لا ، ولكن قد نزلت في أهل الإسلام ، وحكمه في القصاص والقطع فيما دون النفس والجراحات : أمر ألا يتجاوزوا حقوقهم ؛ كقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، وقوله : { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ … } الآية [ البقرة : 194 ] ، وقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى … } الآية [ البقرة : 178 ] . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ } . على ذلك . { لَهُوَ خَيْرٌ } اي : الصبر خير { لِّلصَّابِرينَ } . ودل قوله : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } على أن الآية في القصاص لا في الحرب ؛ لأنه في الحرب لا يقال اصبر ولا تصبر ، بل يكون الصبر جهاداً ؛ دل أنه في غير المحاربة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } . أي : ما توفيقك على الصّبر إلا بالله ؛ كقول شعيب : { وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ … } الآية [ هود : 88 ] . والثاني : واصبر وما صبرك إلا بالله ، أي : تركك القصاص لأمر الله ؛ حيث أمرك به ، لا لضعف أو عجز فيك . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } . قال : إنه كان يحزن ويضيق صدره ؛ لمكان كفرهم بالله ، وتركهم الإيمان بالله ؛ كقوله : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] ، وقوله : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ؛ فقال : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } : لذلك على التسلي والتخفيف لا على النهي عن ذلك . ويحتمل : أن يكون قوله : { وَلاَ تَحْزَنْ } : على المؤمنين الذين قتلوا واستشهدوا ؛ لأنهم مستبشرون فرحون عند ربّهم بما آتاهم الله من فضله [ ؛ كقوله : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ آل عمران : 169 - 170 ] أي : لا تحزن عليهم ، وهم فيما ذكر . أو لا تحزن على المؤمنين ، ولا يضيقن صدرك مما يمكر بك أولئك الكفرة ؛ إذ كانوا يكفرون برسول الله وبأصحابه ويؤذونهم ، أخبر أن لا يضيقن صدرك لذلك . وقال بعضهم : نزلت في أمر حمزة سيّد الشهداء : أنه مثل به وجرح جراحات عظيمة ؛ فاشتد على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لَئِنْ ظَفِرْنَا بِأُولَئِكَ لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وَلَنَفْعَلَنَّ كَذَا " ؛ فنزلت الآية : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ … } " ، لكن إن ثبت هذا فإنه يكون في الوقت الذي كان يؤخذ غيره - القاتل والجارح - بالقتل ، وذلك قد كان في الابتداء ؛ ألا ترى أنّه قال : { ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ … } [ البقرة : 178 ] : كانوا همّوا أن يأخذوا الحرّ بالعبد والذكر بالأنثى ، حتى نزل هذا فصار منسوخاً به ، وبقوله : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } [ البقرة : 179 ] ، ولو كان يؤخذ غير القاتل بالقصاص - لم يكن فيه حياة ، أو إن قالوا في الحرب مع الكفرة فذلك لا يحتمل ؛ لأنه في الحرب لهم أن يقتلوا الكل ، وألا يتركوا واحداً منهم ؛ دلّ أنه يخرج على أحد وجهين : على النسخ الذي ذكرنا . أو على النهي عن أخذ أكثر من حقه ، وكقوله : { فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ … } الآية [ البقرة : 194 ] . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } . [ يحتمل : اتقوا ] مخالفة الله ورسوله بالنصر لهم والعون ؛ فإن الله ناصركم ومعينكم عليهم . وقوله - عز وجل - : { وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } . في العمل والتوحيد ، أو يقول : إن الله مع الذين اتقوا محارم الله وارتكاب مناهيه بالنصر لهم والمعونة . { وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } . إلى نعم الله - عزّ وجلّ - بالقيام بالشكر لها . وبالله التوفيق ، وصلى الله - تعالى - على سيدنا محمد وآله أجمعين .