Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 105-109)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله عز وجل - : { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ } . قال الحسن : إن في القرآن حكماً وأنباء وحكمه عدل وأنباؤه صدق وحق ، وهو كقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] : [ { صِدْقاً } ] : ما فيه من الأنباء ، و { وَعَدْلاً } ما فيه من الحكم ، فبذلك الحق الذي فيه من الحكم العدل والأنباء الصدق أنزله . ويقال : الصدق في الأخبار والأنباء ، والعدل في الأحكام والحق . وقوله - عز وجل - : { وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ } . أي : بذلك الحق الذي به دام وقرَّ فيكم ، أو كلام نحو هذا . ويحتمل قوله : { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ } أي : بالحق [ الذي لله على عباده أنزله ، وبالحق ] الذي لبعضهم على بعض . { وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ } ، أي : بذلك الحق الذي لله على خلقه دام واستقر [ و ] بالحق الذي لبعضهم على بعض ثبت واستقر . وأصله أن قوله : ( وبالحق الذي أنزلناه وبالحق الذي نزل ) الحق : اسم كل محبوب ومحمود ، والباطل : اسم كل مكروه ومذموم ، فمن اتبعه صار محبوباً محموداً ، ومن خالفه ، وترك اتباعه صار مذموماً ، أو أن يكون قوله : { وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ } أي : لم يأته التغيير والتبديل . وقوله - عز وجل - : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } . أخبر أنه لم يرسله إلا للبشارة والنذارة ، لكن هذا في حق الرسالة لم يرسله إلا لهذين اللذين ذكروا ؛ لأنه قد كان امتحنه في نفسه بمحن كثيرة فلم يكن في جميع الأوقات مشغولاً بهذين خاصّة ، لكنه في حق الرسالة لم يرسله إلا لبشارة ونذارة ، أي : لم يرسلك حافظاً ، ولا وكيلاً ، ولا مسلطاً عليهم ، بل أرسلك لتبليغ الرسالة إليهم ، ثم البشارة والنذارة ؛ وهما أمران يكونان في عواقب الأمور البشارة تكون عاقبة كل محبوب ومحمود ، والنذارة عاقبة كل فعل مكروه ومذموم . ثم لقائل أن يقول في قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } البشارة : لمن أجابه فيما أمره به ودعاه إليه ، والنذارة : لمن ارتكب ما نهى عنه ، فكيف لا دلَّ هذا على أن النهي يوجب الحظر والتحريم ، حيث ألحقه النذارة بارتكاب ما نهى عنه ؟ قيل : إن النذارة : عاقبة كل مكروه ومذموم ، والبشارة : عاقبة كل محبوب ومحمود ، فيكون ذلك في الآداب وغيرها ، ولأن الرسل لم يبعثوا إلا لتغيير مناكير وفواحش ظهرت في الخلق وغيره من الفواحش والمناكير ، لم يبعثوا لصغائر ظهرت فيهم ، ثم دخل الصغائر والآداب فيما أرسل تبعاً ، وإلا كان سبب إرسالهم الكبائر والفواحش ، فإذا كان ما ذكرنا ، كان في النهي نهي أدب ، ونهي حتم وحكم . وبعد فإن الله - تعالى - قد أخبر أنه قد يعفو عن كثير من السيئات وما عفي عنه ، لم يلحق فيه النذارة والوعيد ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } . بالتخفيف والتثقيل { فَرَقْنَاهُ } . قال بعضهم : { فَرَقْنَاهُ } بالتخفيف ، أي : أحكمناه ، وثبتناه ؛ حتى لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه . وقال بعضهم : فرقناه ، وقطعناه في الإنزال سورة فسورة ، وآية فآية على ما أنزل . { لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ } . فهو . والله أعلم . لوجوه : أحدها : ما ذكر [ في ] قوله : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ … } [ الفرقان : 32 ] ، أخبر - عز وجل - أنه إنما أنزله بالتفاريق ؛ ليثبت به فؤادك ؛ لأن ذلك أثبت في القلب وأيسر في الحفظ . والثاني : أنزله بالتفاريق على قدر النوازل ؛ لتتجدد لهم البصيرة ، وتزداد لهم الحجة بعد الحجة ، ولو كان جملة لم يكن ليتجدد لهم ذلك ، ولا تزداد لهم البصيرة . أو أن يكون أنزله بالتفاريق للتنبيه ؛ لينبههم في كل وقت ، ويعظهم في كل حال ؛ إذ ذلك أنبه لهم ، وأوعظ من أن يكون منزلاً جملة واحدة ، ألا ترى أن الآية إذا دامت تكون في التنبيه أقل ، وإذا كانت متقطعة في الأوقات ، كانت أخوف وأنبه ، نحو كسوف الشمس بالليل ، صار بالدوام غير مخوف ، ولا منبه لهم للدوام ، وكسوفها بالنهار ، صار تنبيهاً ؛ للانقطاع ؛ على ذلك الأوّل ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ } ظاهر هذا خرج على التخيير ، لكن المراد منه يخرج على حتم المواعظ ، وتأكيد الوعيد ، وتغليظه ، وكذلك قوله : { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] ، ظاهره على التخيير [ لكن الحكماء ] لم يفهموا منه على ما خرج ظاهره ، لكن فهموا منه تأكيد الوعيد وحتم الوعظ ، وهكذا المعروف في الشاهد أن إنساناً لو أمر آخر بأمره ووعظه مراراً فلم ينجع فيه ، يقول له : إن شئت فافعل ، وإن شئت لم تفعل على ما لو فعلت ، أو لم تفعل فإنما ضرر ذلك عليك إن تركته ، ونفعه يرجع إليك لو فعلت ؛ فعلى ذلك قوله : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ } فلا ضرر علينا في ترككم الإيمان به ، ولا يرجع نفعه إلينا لو آمنتم به ، إنما نفعه لكم وضرره عليكم إن شئتم فعلتم وإن شئتم لم تفعلوا ، فهو كقوله : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] ، وكقوله : { مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ … } الآية [ فصلت : 46 ] ، ونحو ذلك مما يخبر ؛ إذ كل من عمل خيراً فلنفسه عمل ، ومن عمل شرّاً فعلى نفسه ضرر ذلك ؛ فهذا ينقض على أصحاب الظواهر ، حيث قالوا : يفهم من الخطاب ظاهره لا يتعدى عن ظاهره ، حيث لم يجب أن يفهم من قوله : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ } التخيير ، لكن فهموا الوعيد الوكيد الغليظ ، وحتم المواعظ . فإن قيل : ما الحكمة في لزوم الأمر وافتراضه ، إذا كان ما يأمرنا وينهانا لمنافع أنفسنا ولضرر على أنفسنا ، ومن لم يعمل في الشاهد لنفسه ، ولا سعى لنفع نفسه ، فلا لائمة عليه ، ولا مؤاخذة . قيل : في الحكمة أن يفرض علينا السعي في فكاك أنفسنا ، ودفع الهلاك عن أنفسنا ، وفي أمره إيانا أمر بالسعي في فكاك أنفسنا ، ودفع الهلاك عنها ، وحاصل أمره ونهيه يكون المنفعة لنا لا له ، وكذلك الضرر ، وعلى ذلك يخرج قوله : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ … } الآية [ هود : 101 ] ، وعلى ذلك يخرج دعاء آدم وغيره : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا … } الآية [ الأعراف : 23 ] . وقوله عز وجل - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } . وهذا أيضاً ينقض على أصحاب الظواهر ؛ لأنه لا كل من أوتي العلم منهم يخرّ للأذقان على ما خرج ظاهره ، فدلّ أن الاعتقاد ليس بالظاهر على ما قرع السمع ، ولكن على ما توجبه الحكمة . ثم قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } أي : إن الذين أوتوا منفعة العلم يخرّون للأذقان سجداً . ثم يحتمل قوله : { يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } على التمثيل ، ليس على حقيقة السجود ، ولكن على الانقياد لما سمعوا ، والخضوع له ، والذلة ؛ على ما ذكرنا من التمثيل في قوله : { ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ } [ آل عمران : 144 ] ليس على حقيقة الانقلاب على الأعقاب ، ولكن على التمثيل للرجوع وترك العمل ، فعلى ذلك الأول ، وكقوله : { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [ آل عمران : 187 ] على ترك العمل به . ويحتمل : أن يكون السجود كناية عن الصلاة ، أي : يصلون لله . ويحتمل أن يكون على حقيقة السجود ، خروا لله سجداً إذا تتلى عليهم آيات الله وحججه ، وهو كسجود سحرة فرعون حين عاينوا آيات الله ، وحججه ، وهو كقوله : { وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } [ الأعراف : 120 ] ، فعلى ذلك يحتمل سجود هؤلاء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ } عما قالت الملاحدة فيه . { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } أي : قد كان موعود ربنا لمفعولاً وكذلك قوله : { أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ] ، { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } [ الأحزاب : 38 ] أي : كان ما يأمر الله كائناً ومفعولاً أي : قد كان ما يأمر ووعده مفعولاً وهو ما ذكرنا " كان وعد الله مفعولاً " . وقوله - عز وجل - : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ } . فإن كان التأويل من السجود : الصلاة ، ففيه دليل لقول أبي حنيفة - رحمه الله - : إن المصلي إذا بكى في صلاته ؛ خوفاً على نفسه ، وإشفاقاً أو سروراً على ما أنعم الله عليه وأكرمه به ، لم تفسد صلاته ، وإذا كان البكاء للتسلي مما حل به من الشدائد والبلايا تفسد صلاته ، وأصله : أن البكاء إذا كان لله فهو لا يفسد الصلاة ، وإذا كان للدنيا أو لحاجة نفسه فهو يفسد . وقوله - عز وجل - : { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } . أي : يزيد ما يتلى عليهم من القرآن خشوعاً وخضوعاً لهم أو للآيات . وقال الحسن : الخشوع : هو الخوف الدائم [ في القلب ] .