Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 40-44)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عزّ وجلّ - : { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً } . يخبر من سفه مشركي العرب أنهم نسبوا إلى الله البنات ، والبنين إلى أنفسهم - بقوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] ، والذي حملهم على ذلك قول أهل الكتاب ؛ حيث وصفوا الله بالولد ؛ فرأوا أن ما يكون له الولد يكون له البنات ؛ فقال : { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } . لم يزد على هذا العظيم ما قالوا في الله ؛ فلم يضرب لقولهم ذلك مثلاً ؛ لما ليس وراء ذلك مثل يضرب ؛ لأنه ضرب مثل ما قالوا بالولد له بانفطار السماء ، وانشقاق الأرض ، وخرور الجبال ؛ حيث قال : { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً … } الآية [ مريم : 90 ] : أخبر أنّ السّماوات وما ذكر كادت أن تنقلب عن وجهها ؛ لعظيم ما قالوا في الله من الولد . وقال في الشريك : { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ … } الآية [ الحج : 31 ] ، فهذا غاية ما ذكر من الأمثال لمن قال له بالولد والشريك ؛ فليس وراء هذا يذكر لمن قال له البنات ، ولكن قال : { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } لم يزد على ذلك ؛ لأن الذي قالوا له ونسبوا إليه نهاية في السفه والسرف في القول ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً . أو يقول : { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } : في عقولكم ، لو تفكرتم وتدبرتم لعلمتم أن ما قلتم في الله - سبحانه وتعالى - عظيم . قال أبو عوسجة : { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم } ، أي : أعطاكم ربكم ؛ يقال : أصفيته : [ أي : ] أعطيته ، وأصفاكم ، أي : اختاركم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ } . قال الحسن : قوله : { صَرَّفْنَا } - يقول : بيّنا في هذا القرآن ما نزل بمكذبي الرسل من الأمم الخالية ؛ بتكذيبهم الرسل أمّة قائمة ؛ { لِيَذَّكَّرُواْ } : ما نزل بهم ؛ فينتهوا عن تكذيبهم الرسل ، { وَمَا يَزِيدُهُمْ } : ما بين لهم . { إِلاَّ نُفُوراً } أي : تكذيباً للرسل . وقال بعضهم : ولقد صرّفنا [ في ] هذا القرآن ، أي : بيّنا في هذا القرآن والآيات التي تقدم ذكرها - جميع ما يؤتى ويتقى ، وما لهم وما عليهم ؛ ليعتبروا [ به ] فيؤمنوا ، وما يزيدهم القرآن إلا تباعداً من الإيمان به ، وهو ما ذكر : { ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ … } الآية [ الإسراء : 39 ] . وقال بعضهم : صرّفنا في هذا القرآن من المواعيد الشديدة أنه ما ينزل بهم في الآخرة من العذاب والعقوبة ؛ بصنيعهم وتكذيبهم الرسل ، لكن إذ لم يؤمنوا بالآخرة ، لم يزدهم ذلك الوعيد إلاّ نفوراً وبعداً ؛ فإن الله قد ذكر في القرآن المواعظ الكثيرة : ما لو نظروا فيه وتأملوا لكانت تمنعهم وتزجرهم عن مثل صنيعهم ، لكن لم ينظروا إليه بالتعظيم ؛ ولكن نظروا إليه بالاستهزاء والاستخفاف به ؛ لذلك أضيف زيادة النفور إليه ، أو أضاف ذلك إليه : لما أحدثوا بنزوله الكفر والتكذيب له ؛ فأضاف ذلك إليه لما أزداد لهم التكذيب ، وحدث لهم الكفر به إذا نزل ، كما كان لأهل الإسلام يزداد لهم الإيمان واليقين إذا نزل . وجائز أن يكون قوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ } ، أي : يَشْرُفوا ؛ كقوله : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] ، أي : شرفكم ، أو ليذكروا ما نسوا وتركوا وغفلوا عنه . ثم قوله : { صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ } ، معناه - والله أعلم - : أنزله ؛ ليلزمهم الذكر ، أو ليكون عليهم ، أو ليأمرهم بالذكر ، وهو ما ذكرنا في قوله : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } الآية [ الذاريات : 56 ] ، وقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [ النساء : 64 ] ، أي : ليلزمهم العبادة والطاعة ، أو ليأمرهم بالعبادة والطاعة ، أو أرسل وخلق لمن علم منه العبادة والطاعة . وقوله - عز جل - : { لِيَذَّكَّرُواْ } ، أي ليكون لهم الذكرى بذلك ؛ لأنه لا يحتمل أن يبيّن لهم ويجعل لهم بياناً ؛ ليذكرّوا ، ثم لا يكون ؛ ولكن ما ذكرنا ليكون لهم الذكرى ، وقد كانت لكن لم تنفعهم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } . ليس القرآن بالذي يزيدهم نفوراً ، ولكن لما نظروا إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء زاد لهم بذلك نفوراً عندهم وتكذيباً ، وإلاّ : القرآن لا يزيد إلا هدى ورشداً ؛ على ما وصفه . وقوله - عز وجل - : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } . قال عامّة أهل التأويل : في الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها ، أي : لو كانت هي آلهة معه كما تقولون إذاً لابتغوا التقرب والزُّلْفَى إلى ذي العرش سبيلاً . وقال بعضهم : لو كانت لهم عقول لابتغت ، وأمكن لها من الطاعة والعبادة إذاً لابتغت إلى ذي العرش سبيلاً بالطاعة له والعبادة ، وهو ما قال في الملائكة : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ } الآية [ الإسراء : 57 ] ، لكن الأشبه أن يكون الله - تعالى - ألا يقول في الأصنام مثل هذا : لو كان معه آلهة ، إنما هي خشب ، لكن قال فيها ما قال : لا تسمع ولا تعقل ولا تبصر ، وما ذكر في آية أخرى : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] ، وما قال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً … } الآية [ الحج : 73 ] : مثل هذا أن يقال في الأصنام ، وأمّا ما ذكر : { لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ … } الآية ، معلوم أنها ليست من أهل الابتغاء ، إلا أن يقال ما ذكر بعضهم ، أي : لو كانت الأصنام التي تعبدونها آلهة ؛ على ما تزعمون ، إذاً لا بتغوا إلى الله سبيلاً ، [ بالطاعة لو لم يكن لهم ذلك ، وكانوا من أهلها ، لكن الأشبه - إن كان - فهو في الذين يعبدون الملائكة ] ويتخذونهم معبوداً أو في الذين يقولون بالعدد الذين لهم تدبير ، أو الذين يقولون بقدم العالم وأصوله ؛ فهو يخرج على وجوه ، فنقول - والله أعلم - : { لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ } ، أي : إذاً لأظهروا دلالة ربوبيتهم وألوهيتهم بإنشاء الخلائق ، كما أظهر الله - سبحانه - ألوهيته وربوبيته بما أنشأ الخلائق ، ولم يظهر ممن يدعون لهم ألوهيته إنشاء شيء من ذلك فدلّ أنه ليس هنالك إله غيره . وقال بعضهم : { لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ } ، أي : صاروا كهؤلاء : يعني الله ، أي : في الإنشاء والإفناء والتدبير ، ومنعوه عن إنفاذ الأمر له : في خلقه ، والمشيئة له فيهم ، واتساق التدبير ؛ فإذا لم يكن ذلك منهم دل أنه لا إله معه سواه ؛ ويكون كقوله : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ … } الآية [ المؤمنون : 91 ] . وقال بعضهم : لو كان معه آلهة كما يزعمون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً ، في القهر والغلبة ؛ على ما عرف من عادة الملوك بالأرض : أنه يسعى كل منهم في غلبة غيره وقهر آخر ويناصبه ؛ كقوله : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [ المؤمنون : 91 ] ، أي : غلب وقهر وناصب . ويحتمل غير هذا ، وهو أن يمنع كل منهم أن يكون لله الواحد بالخلق دلالة ألوهية وربوبية ، وجهة الاستدلال [ له ] بذلك ؛ فإذا لم يمنعوا ذلك دلّ أنه لا ألوهية لسواه ، وهو الاوّل بعينه . وقال بعض أهل التأويل : لعرفوا فضله ومرتبته عليهم ، ولابتغوا ما يقربهم إليه ، وقيل : ولابتغت الحوائج إليه ، وهذا هو الذي ذكرناه بدءاً من طلب الطاعة له . وقوله : { سُبْحَانَهُ } . نزه نفسه وبرأها عما يقول الملحدة فيه ووصفوه بالشركاء والأشباه والولد وما لا يليق به ؛ فقال : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } . ثم قال : { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } . ثم يحتمل تسبيح ما ذكر وجهين : أحدهما : جعل الله - تعالى - في خلقه السماوات والأرض وما ذكر دلالة على وحدانية الله وألوهيته ، وشاهدة له أنه واحد لا شريك له ولا شبيه ؛ فإن كان على هذا فيدخل فيه كل شيء : ذو الروح وغيره ؛ فيكون قوله : { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } : الكفرة خاصّة ، وأمّا أهل الإسلام يفقهون ذلك . والثاني : أنه جعل الله في سرّية هذه الأشياء ما ذكر من التسبيح والتنزيه ، لكن لا نفقه نحن ذلك ولا نفهمه ؛ على ما أخبر : { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } . وهي لا تعرف - أيضاً - أن ذلك تسبيح على ما جعل في الجوارح والأعضاء تسبيحاً وعبادة له ، وإن كانت هي لا تعرف ذلك أنه تسبيح . والثالث : أنه جعل صوت هذه الأشياء تسبيحاً له حقيقة على معرفة هذه الأشياء أنه تسبيح ، وإن كان لا يعرف ذلك إلاّ خواص من الناس ، وهم الأنبياء ، والله أعلم . وقوْله - عزّ وجلّ - : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } . الحليم : هو ضد السفيه ، والثاني : يقال حليم : ليس بعجول ، أي : لا يعجل بالعقوبة . { غَفُوراً } إذا تابوا ، أو { غَفُوراً } حيث ستر عليهم فضائحهم ، الحلم ما ذكرنا : ضدّ السفه والعجلة . ذكر هاهنا على أثر ما ذكر منهم من القول الوخش فيه والعظيم أنه حليم ؛ ليعلموا أنه عن علم لم يأخذهم بالعقوبة عاجلاً ، و { غَفُوراً } ؛ ليعلموا أنهم ، وإن أعظموا القول فيه ؛ يغفر لهم ويتجاوز عنهم إن رجعوا وتابوا . فإن قال لنا ملحد : إنكم تصفون ربكم بالحلم والرحمة ، ثم تقولون : إنه يعذب أبد الآبدين في النار بكفر كان منه ؛ فأنى يكون فيه رحمة أو حلم ؟ ! قيل : إنكم لا تعرفون ما الحلم وما الرحمة ، ولو عرفتم - ما قلتم ذلك ، ولو لم يعذب على الكفر أبد الآبدين لم يكن حليماً ولكن سفيهاً ، وكذلك الرحمة ، وليس خروج الشيء على غير موافقة الطبع بالذي يخرج صاحبه عن حد الحكمة والرحمة ، فأنتم إنما تصورتم الحكمة والرحمة على موافقة طباعكم ، وليس كذا . وكذلك يقال للمعتزلة ؛ حيث قالوا : إنه لا يعقل إلا ما هو أصلح لنا في الدين ؛ لأنه جواد ؛ فلو منع الأصلح والأخْيَر لم يكن جواداً موصوفاً بالجود ، وإنما قدرتم وقلتم على ما وافق طباعكم وأنفسكم ، ولو عرفتم حقيقة الجود ما قلتم ذا ولا خطر على بالكم شيء من ذلك ، وإنما على الله أن يختار لكل ما علم منه أنه يختار ويؤثر ؛ لأنه لا يجوز أن يختار الولاية لمن علم منه أنه يختار عداوته ، وكذلك لا يجوز أن يختار العداوة لمن علم منه أنه يختار ولايته ، وليس على الله - تعالى - حفظ الأصلح لأحد في الدّين ؛ بل عليه حفظ ما يوجبه الحكمة والرّبوبيّة . وفي ذكر تسبيح ما ذكر من جميع الموات على أثر ما ذكر من قول أولئك الكفرة من وصف الله - تعالى - بالولد والشركاء ، ونحوه يخرج على وجوه : أحدهما : يذكر سفههم ؛ أنهم مع ادعائهم العقل والعلم والتمييز والسؤدد - وصفوا الله بالذي لا يليق به ، وما يسقط الألوهية والرّبوبيّة عنه ، على زعمهم ، فالذين ليس لهم شيء من ذلك التمييز والفهم والعقل نزهوه عن ذلك كله وبرءوه عن جميع ذلك . والثاني : ذكر تسبيحهم على أثر ذلك ؛ ليعلم أنه لا حاجة إلى تسبيحهم ، ولا منفعة له في ذلك أن سبح له جميع الخلائق سواهم ؛ بل منفعة تسبيحهم ترجع إليهم . والثالث : ذكره لإثبات الرسالة للرسل ؛ لأنهم ذكروا تسبيح الموات ، ولا يفهم ذلك ولا يعقل إلا بوحي من السماء ؛ فذلك يدلّ على الرسالة . فعلى هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرنا يجوز ذكر تسبيح ما ذكر على أثر ما ذكر ، وكذلك ذكر سجود الموات يخرج على هذه الوجوه الي ذكرناها ، والله أعلم .