Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 31-39)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } . قال أبو بكر الأصم : إنّ من عادة العرب أنهم كانوا يقتلون البنات ويقتلون البنين ؛ إذا صاروا بحيث لا ينتفعون بهم ، ويقتلون الآباء والأمهات ؛ إذا بلغوا أرذل العمر ؛ فنهى الله أهل الإسلام عن الاستنان بسنتهم ، وأمر أن يبرّوا الآباء والأمّهات إذا بلغوا ذلك المبلغ ، وهو ما قال : { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا … } إلى آخر ما ذكر . وفي قتل ما كانوا يقتلون من البنات قطع التناسل والتوالد الذي كان المقصود من إنشاء هذا العالم ؛ ذلك إذ المقصود من إنشاء العالم هذا الذي ذكرنا ، وفي قتل البنات قطع ذلك وذهاب المقصود من إنشائه ، ثم قال : { نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } . أي : هم لا يأكلون من أرزاقكم ؛ بل لكل منكم رزق على حدة ، ليس في بقائهم نقصان في رزقكم ولا في فنائهم زيادة ؛ بل كلٌّ يأكل رزقه ، أو لا ترون أنّه قد أنشأ لهم رزقاً لا شركة لكم فيه ، وهو ما أنشأ لهم من اللّبن في الضرع ، ولا تنتفعون أنتم به ؟ ! فظهر أن كلاًّ يأكل رزقه ، لا يُدْخِل بعضٌ في رزق بعضٍ نقصاناً . ثم قال : { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [ أي : إن قتلهم في العقول كان خطأ كبيراً ] ، لما ذكرنا أن في قتلهم قطع ما به قصد في إنشاء هذا العالم وفنائه ، أو يقول : { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } : في الأمم الخالية . ويشبه أن يكون خطاب ما خاطب هؤلاء الآيات : من قتل الأولاد ، والزنى ، وقتل النفس بغير حق ، وغير ذلك ما تقدم وما تأخر ؛ لوجهين : أحدهما : ما كان للعرب أفعال وعادات السوء ممّا يخرج على السفه والقبح في العقل ، خارجة عن الحكمة تنهاهم عن ذلك . والثاني : ذكر هذا ونهى ؛ لما علم أنه قد يكون في خلقه من يفعل ذلك خشية ما ذكر ، ويحملهم ذلك على ما ذكر ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } . أي : في العقل كان وقت ما كان فاحشة ؛ لأن في إباحة الزنى ذهاب المعارف التي بها يوصل إلى الحكمة والعلم ، أو كان فاحشة في الحكمة ؛ ألا ترى أنه قال : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } [ الأعراف : 28 ] : دل قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } [ الأعراف : 28 ] - على أن هنالك فحشاء قبل الأمر في الحكمة أو في العقل ، حتى قال : { لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } [ الأعراف : 28 ] ؛ إذ لو لم يكن - لكان قال : لا يأمر ، حسب ، وفي إباحة قتل الأنفس ذهاب ما به قصد من إنشاء العالم . أخبر - عز وجل - : [ في قتل الأولاد أنه ] { كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } ، وهو ما يعظم في العقل ، وذكر في الزنى فاحشة ، وهو ما يفحش في العقل والحكمة ، وذكر في قتل النفس الإسراف ، وقال : { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ } ، والإسراف هو المجاوزة عن الحدّ الذي جعل له . ويحتمل قوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ } ، أي : لا تزنوا ؛ فإنه كان فاحشة ، ويحتمل : لا تقربوا الأسباب التي بها يوصل إلى الزنى . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ } . والحق ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ فِي ثَلاثٍ : كُفْرٍ بَعْدَ إِسْلاَمٍ ، أَوْ زِنىً بَعْدَ إِحْصَانٍ ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بغَيْرِ حَقٍّ " . حرم الله قتل النفس بغير حق ؛ إذ في إباحته ذهاب ما قصد من إنشاء [ هذا ] العالم ، وفي التحريم حياة الأنفس ، وفي إباحة الزنى ذهاب المعارف وجهالتها ، وفي تحريمه : حياة المعارف وإبقاؤها . والوصول إلى الحكمة والعلوم التي يطلب بعضهم من بعض ؛ إذ لا يعرف أهل الحكمة من غيرهم ؛ ففي ذلك ذهاب العلوم والحكمة . وفي القتل على الدّين - إذا استبدله - حياة الدّين ؛ لأن من تفكر قتل نفسه إذا ترك الدّين - أعني دين الإسلام - ورجع عنه ، لم يترك دينه الإسلام ، ومن تفكر رجمه بالزنى - امتنع عن الزنى وتركه ، ومن تفكر أنه يُقْتَل إذا قَتَلَ غيرَهُ - امتنع عن قتله ؛ ولذلك قال : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } [ البقرة : 179 ] . فإن قيل - في المرأة إذا ارتدت عن الإسلام - : إنها لا تقتل . قيل : لأنه ليس في قتلها حياة الدّين ؛ لأن النساء أتباع للرجال في الدين ؛ لأنهنّ يسلمن بإسلام أزواجهن ويصرن ذمة بذمة الأزواج ؛ فإذا كان كذلك - فليس في قتلهن حياة ؛ ألا ترى أنه روى أنه فلاناً أسلم وأسلم معه كذا وكذا نسوة ؟ ! والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ } : والحق ما ذكرنا ، وقوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ } يحتمل بالإسلام ، أو بالذمّة بإعطاء الجزية ، وإلا بالحق : ما ذكرنا . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } . قيل : سلطاناً ، أي : تسلطاً وقهراً . وقال بعضهم : سلطاناً ، أي : حجة على القتل فيما يستوجب به القصاص . ثم ذكر أنه جعل لولي القتيل سلطاناً ، ولم يذكر أي وليّ ؛ فيشبه أن يكون المراد من الولي الذي يخلف الميت في التركة ، وهم الورثة ؛ إذ هو حقٌّ كغيره من الحقوق ؛ فذلك إلى الورثة ، فعلى ذلك حق الدم ، فكأنه قال : ومن قتل مظلوماً قد جعلنا لورثته سلطاناً ، أي : حجة فيما يستوجب . وفي ظاهر هذه الآية دلالة أن للواحد من الورثة القيام باستيفاء الدم ؛ إذ لو كان للكل الاستيفاء لدخل في ذلك الإسراف الذي ذكر : { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ } ؛ إذ لو ضرّ به كل الورثة لصار في ذلك مثله ، وقد منعوا عن ذلك ، فإذا كان ما ذكرنا كان في ذلك دلالة لقول أبي حنيفة - رحمه الله ، حيث قال - : إن الورثة إذا كان بعضهم صغاراً وبعضهم كباراً كان للكبار أن يقوموا بالاستيفاء دون أن ينتظروا بلوغ الصغار ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ } . قال بعضهم : لا يقتل غير قاتل ؛ وذلك إذ كان من عادة العرب قتل غير القاتل . وقال بعضهم : [ قوله ] : { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ } [ أي : لا يجاوز الحد الذي جعل له في القصاص من المثلة والقطع والجراحات . وقال بعضهم : { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ } ، أي : في القتل ] الأول ؛ حيث قتل نفساً بغير حق ، فذلك إسراف ؛ كما قال : { مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] . وقوله : { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ } هذا يحتمل أن يكون خاطب به ولي القتيل فقال : { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ } ، أي : لا يُجاوز الحدّ الذي جعل له ؛ على ما روي : " إذَا قَتَلْتَ فَاَحْسِنِ القَتْلَ " ، والثاني خاطب به القاتل : يقول له لا تقتل ؛ فإنه إسراف ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } . قال بعضهم : إن المقتول كان منصوراً بالولي ينصره الولي ؛ بقوله : { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } . ويحتمل منصوراً بالمسلمين ، أي : على المسلمين وغيرهم دفع ذلك القتل عنه ؛ هذا على تأويل من يتأول في قوله : { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ } - قَتْلَ غير قاتل وليه ، أو يزيد في جراحاته ، ويمثل مثلاً بقول : احذروا ذلك ؛ فإن على المسلمين دفع ذلك عنه ، أو كان منصوراً في الآخرة . وفي ظاهر هذه الآية دلالة أن القصاص واجب بين الأحرار والعبيد ، وبين أهل الإسلام وأهل الذمة ؛ لأن الله - تعالى - قال : { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ } ؛ فكانت أنفس أهل الذمة والعبيد داخلة في هذه الآية ؛ لأنها محرمة وفيه ما ذكرنا أن للكبير من الورثة قتله ، وإن كان فيهم صغار . وروي أن الحسن بن علي - رضي الله عنه - قتل قاتل أبيه فلاناً ، وفي الورثة صغار لم يدركوا يومئذ . ويحتمل أن يكون { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } في ظاهر هذا : أن القاتل هو كان منصوراً ، [ ثم إنه قال : { كَانَ مَنْصُوراً } ] ولم يقل : هو منصور ، فجائز أن يقول : { كَانَ مَنْصُوراً } ، قبل : قتل هذا إذا كان على المسلمين مضرة ، فلما قتل كان غير منصور ، إلا أن يقال : إن الولي صار منصوراً ، وذلك جائز . وفي قوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ } : يحتمل النهي عن نفس الزنى ، ويحتمل أسباب الزنى : من نحو القُبْلة ، والمسّ ، وغيره ؛ على ما ذكر : " العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ ، واليدانِ تَزْنِيانِ ، والْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلكَ كُلَّه أو يُكَذِّبُ " . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } . قوله : { أَحْسَنُ } : هو أفعل ، فإن كان في الأشكال فهو على غاية الحسن ، وإن كان في الجوهرين فهو على طلب الحسن ؛ كقوله : { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } [ الزمر : 55 ] أي : اتبعوا ما هو طاعة ؛ كأنه قال : ولا تقربوا مال اليتيم إلا ما هو خير له وحسن ، وهو ما قال : { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } [ النساء : 6 ] ، يقول : لا تأكلوا إسرافاً وبداراً ، ولكن اقربوا ما هو خير له . وإن كان على طلب الغاية من الحسن ، فهو ما قال أبو حنيفة - رحمه الله - : إذا قرب مال اليتيم لمنفعة نفسه فلا يقربه إلا لمنفعة حاضرة لليتيم ، لا يقرب ماله لمنفعة مرجوة ، وإذا قرب مال اليتيم لليتيم فإنه يجوز أن يقربه لمنفعة مرجوة له ، وإن لم يكن فيه منفعة حاضرة ، وقدر ذكرنا تأويله وما فيه من الدلالة بقول أبي حنيفة - رحمه الله - فيما تقدم في سورة الأنعام . ثم من الناس من احتج بهذه الآية لقول أبي حنيفة حيث قال : إن للوصي أنْ يبيع مال اليتيم من نفسه إذا كان خيراً له ؛ لأن له أن يبيع من غيره بمثل قيمته ؛ فدلّ أن ذكر الخير له إذا كان يبيع من نفسه . وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } : كأنه على الإضمار ، أي : لا تقربوا مال اليتيم إلا بالوجوه التي هي أحسن له وأنفع ، وهو الحفظ له وطلب الربح والنماء ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } . أي : حتى يستحكم عقله ، ويستتم تدبيره في ماله وأمره ؛ فعند ذلك يكون الأمر إليه ، وليس فيه أنه لا يكون بعد ذلك الأمر إلى الوصي إن كان ؛ ولكن بإذنه يبيع ويشتري . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } . يحتمل أن يكون قوله : { بِالْعَهْدِ } - العهود والمواثيق التي بين الناس أمروا بوفاء ذلك ، ويحتمل الأمر بوفاء العهد ما ذكر في هذه الآيات من الأمر والنهي : من نحو ما قال : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] إلى هذا الموضع ، أي : وأوفوا بذلك كله ؛ فإن ذلك كله كان مسئولاً يُسْأل عنه : وفاءً كان ذلك أو نقضاً . وقال بعضهم : { إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } ، أي : ناقض العهد كان مسئولاً ، ثم إن العهد على وجوه : أحدها : عهد خِلْقة ، أو العهد الذي أخذ عليهم على ألسن الرسل أو العهد الذي يجري بين الناس ؛ والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ } . أمر بتوفير الكيل إذا كالوا والوزن إذا وزنوا لهم ، وإيفاء حقوقهم ، وهو ما قال : { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } [ هود : 85 ] إن من عادتهم إذا كالوا أو وزنوا يبخسون الناس أشياءهم ، ولم يوفروا حقوقهم ؛ فنهاهم عن ذلك ، وأوعدهم بالوعيد الشديد ، وهو قوله : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 1 - 3 ] : ذِكْرُ تخصيص للكيلي والوزني من بين سائر الأشياء يحتمل وجهين : أحدهما : لما بهما يجري عامّة معاملة الناس ؛ فأمرهم بإيفاء ذلك . والثاني : لخوف الربا ؛ لأن الكيلي والوزني هما اللذان يكونان دَيْناً في الذمة ؛ فإذا أخذ شيء منهما أخذ عما كان ديناً في الذمّة ، فإن نقص أو زاد فيكون ربا ؛ لذلك خصّ ، وإن كان غيره من الأشياء يؤمر بالإيفاء والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ } . قال بعضهم : القسطاس : حرف أخذ من الكتب السالفة ليس بمعرفة ، وقال بعضهم : هو العدل ، أي : زنوا بالعدل ، وقال بعضهم : هو الميزان ؛ كقوله : { وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } [ الأنعام : 152 ] ، وقال بعضهم : { بِٱلقِسْطَاسِ } : القبان ؛ فكيفما كان ففيه ما ذكرنا : من الأمر بتوفير الكيل والوزن ، والإيفاء لحقوقهم ، والنهي عن البخس والنقصان . وقوله - عزّ وجلّ - : { ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } . يحتمل قوله : { ذٰلِكَ خَيْرٌ } - ما ذكر من توفير الكيل والوزن وإيفاء الحقوق - خير في الدنيا ؛ لما فيه أمن لهم من الناس . { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ، أي : أحسن عاقبة في الآخرة ، ويحتمل قوله ذلك - ما ذكر في هذه الآيات من أولها إلى آخرها : إذا عملوا بها خيرٌ لهم في الدنيا وأحسن تأويلاً ، أي : عاقبة . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } . قيل : لا تقف ، أي : لا تقل ، وقيل : لا تَرْمِ ، وقيل : لا تتبع ؛ فكيفما كان - ففيه النهي عن القول والرمي فيما لاعلم له به ، ولا ترم ما ليس لك به علم ، ولا تقل ما ليس لك به علم . { إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } . قال بعضهم : { كُلُّ أُولـٰئِكَ } يعني : السّمع والبصر والفؤاد - يُسْأل عما عمل صاحبه ؛ كقوله : { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ … } الآية [ يس : 65 ] ، وقوْله : { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم } [ فصلت : 20 ] تُسْأَل هؤلاء عما عمل صاحبها ؛ فيشهدون عليه . وقال بعضهم : هو عن كل أولئك كان مسئولاً ، أي : يسأل المرء عما استعمل هذه الجوارح ؟ وأنه : فيم استعملها ؟ وقال بعضهم ، قوله : { أُولـٰئِكَ } : يعني الخلائق جميعاً ، { عَنْهُ } : يعني عما ذكر من السمع والبصر والفؤاد ، { مَسْؤُولاً } . وقال بعضهم في قوله : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } ، يقول : لا تقل : رأيتُ ، ولم تر ، وسمعتُ ، ولم تسمع ، وعلمتُ ، ولم تعلم . ومنهم من قال : في شهادة الزور ؛ فإن احتج محتج بهذا في إبطال القياس والاجتهاد ؛ فيقول : إذا قاس الرجل فقد قال ما ليس له به علم ، لكن ليس كذا ؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكلموا في الحوادث بآرائهم ، وشاوروا في أمورهم ، وولى أبو بكر عمر - رضوان الله عليهما - الخلافة بغير نصّ من الرسول عليها ، وجعلها عمر شورى بينهم ، ولم يُرْوَ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا نقول : إنهم فعلوا ذلك بغير علم ، ولا : قالوا ما لم يعلموا ؛ فدلّ ما ذكرنا أن معنى قول الله - تعالى - : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } - ليس يدخل فيه الاجتهاد في الأحكام ، وتشبيهه الفرع الحادث بالأصل المنصوص عليه ، والله أعلم . وقال القتبي : { حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } ، أي : يتناهى في الثبات إلى حال الرجال ، ويقال : ثماني عشرة سنة ، وقال : أَشُدُّ اليتيمِ غير أشدّ الرجل في قوله : { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [ الأحقاف : 15 ] ، والأشد ما ذكرنا من استحكام عقله وتدبيره إلى ألا يؤخذ بالنقصان ، وهو إذا جاوز أربعين يأخذ في النقصان ، وإلى أربعين يكون على الزيادة والنماء . ويحتمل قوله : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ } ، أي : لا تقف ما ليس لك به علم بأسباب العلم ، وهو ما ذكر من السمع والبصر ، وجائز أن يكون : { إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } : يسأل عن شكر هذه الأشياء ، أو يسأل عما امتحن بهذه الأشياء . وفي قوله : { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ } - دلالة جواز الاجتهاد ؛ لأنه أمر بإيفاء الكيل والوزن ، ولا يقدر على ذلك إلا باجتهاد الكائل والوازن ؛ لأن كيل الرجل يزيد على كيل غيره وينقص ، وربما كال الرجل الشيء ثم يعيد كيله هو بنفسه فيزيد أو ينقص ، ولا يكاد يستوي الكيلان وإن كانا من رجل واحد ، وإنما يكلف الاجتهاد في كيله وترك التعمد للزيادة أو النقصان [ فيه ] ؛ فإذا فعل ذلك فقد وفر الكيل وأدى الواجب ، وهذا عندنا أصل الاجتهاد والاستحسان ؛ لأن الكائل إنما يجتهد في توفيته الحق ، ولا يعلم يقيناً أنه وفى ما كان عليه من الكيل الذي سمياه في العقد ؛ فعلى ذلك الاستحسان إنما هو اجتهاد العالم في اختيار أحسن ما يقدر عليه إذا لم يكن للحادثة أصل يردها عليه ويشبهها به ، والله أعلم . قوله - عزّ وجلّ - : { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً } . ليس النهي عن المشي نفسه ؛ إنما النهي للمشي المرح ، ثم النهي عن الشيء يوجب ضدّه ، وكذلك الأمر ، ثمّ إن النهي عن الشيء يوجب الأمر بضده ؛ [ والأمر بالشيء يوجب النهي بضده ] وهاهنا نهي عن المرح ؛ فيكون أمراً بما ذكر ؛ كقوله : { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] ، وقال بعضهم : مرحاً : بطراً وأَشَراً ، وقيل : متعظماً متكبراً بالخُيَلاء . وقوله - عزّ وجلّ - : { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً } . قال بعضهم : ذكر خرق الأرض وبلوغ الجبال طولاً ؛ لأن من الخلائق من يخرق الأرض ويدخلها ، ويبلغ طول الجبال ، وهم الملائكة ، ثم لم يتكبّروا على الله ولا تعظموا عليه ولا على رسوله ؛ بل خضعوا له ؛ فمن لم يبلغ في القوة والشدّة ذلك - أحرى أن يخضع له ويتواضع ولا يتكبر . ويحتمل أن يكون ذكر هذا ؛ لما أنهم كانوا يسعون في إطفاء هذا الدين ، وقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول : كما لم يتهيأ لكم خرق الأرض وبلوغ الجبال طولاً - لم يتهيأ لكم إطفاء دين الله ، وقهر رسوله ، وهو ما ذكر : { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَالِغِيهِ } [ غافر : 56 ] ، أو يذكر هذا يقول : إنك لن تبلغ بكبرك وعظمتك مرتبة الرؤساء والقادة ومنزلتهم ، على هذا التمثيل يحتمل أن يخرج ، والله أعلم . أو يقول : إنك لن تخرق الأرض ، أي : لا تقدر أن تخرق [ الأرض ] ؛ فتستخرج ما فيها من الكنوز والمنافع ؛ فتنتفع بها ، ولا تقدر أن تبلغ الجبال طولاً ؛ فتنتفع بما في رءوس الجبال من المنافع ، وكيف تتكبر وتمرح على غيرك ، وهو مثلك في القوّة والشدّة . وأصل الكبر أن من عرف نفسه على ما هي عليه من الأحداث والآفات وأنواع الحوائج - لم يتكبّر على مثله ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { كُلُّ ذٰلِكَ } . أي : كل ما أمر الله به ونهى عنه في هؤلاء الآيات . { كَانَ سَيِّئُهُ } . بالعقل . { عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } : مسخوطاً ، وفيه دلالة أن الأمر الّذي أمر في هذه الآيات ونهاهم عنه - لم يكن أمر أدب ولا نهي أدب ، ولكن أمر حتم وحكم ؛ حيث ذكر أن ذلك عند ربك : { مَكْرُوهاً } ؛ إذ لو كان أدباً لم يكره أي شيء ما ذكر في مكروه عند ربّك ، وهو كقوله : { فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 18 ] ، أي : يسمعون [ الكل ؛ فيتبعون أحسنه ] ، ويتركون غيره ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم . وقوله - عزّ وجلّ - : { ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ } . أي : ذلك الذي أمر الله به ونهى عنه في هؤلاء الآيات من الحكمة - ليس من السفه ، أي : ما أمر فيها هو حكمة وما نهى عنه [ إنما نهى عنه ؛ لأنه سفه ] . وقال بعضهم : الحكمة - هاهنا - القرآن ، قوله : { ذَلِكَ } ، أي ذلك الذي أوحى إليك هو حكمة ، وقال بعضهم : الحكمة : الإصابة ، أي : ذلك الذي أوحى إليك صواب . وقوْله : { ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ } ، أي : ما ذكر في هذه الآيات وأمر به ونهى عنه - هو من الحكمة ، والحكمة : هي وضع الشيء موضعه ، [ يقول : حكمه : وضَع الشيء موضعه ، لا ] وضَع الشيء غير موضعه . وقوله - عزّ وجلّ - : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } . معلوم أن رسول الله لا يجعل معه إلهاً آخر ؛ إذ عصمه واختاره لرسالته ، لكنّه ذكر هذا ليعلم أنه لو كان منه ذلك فيفعل به ما ذكر ؛ فمن هو دونه أحق أن يفعل به ما ذكر ، وهو ما قال في الملائكة : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ … } الآية [ الأنبياء : 29 ] . أنه عصمهم حتى أخبر أنهم : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] ؛ فمن لم يكن معصوماً - لم يوصف أنه لا يسبق بالقول ؛ فعلى ذلك قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً } : عند الله ، أو عند نفسك ، أو عند الخلق . { مَّدْحُوراً } : مبعداً مطروداً من رحمته في النار ، أو : خاطب به رسوله ، وأراد به غيره ؛ على ما ذكرنا في غير موضع ، والله أعلم .