Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 107-110)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم ذكر للمؤمنين من الثواب والجزاء بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ، واختاروا فيها مقابل ما ذكر للكفرة ؛ فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً } . كأن الجنان التي وعد للمؤمنين أربعة : جنات النعيم ، وجنات المأوى ، وجنات عدن ، وجنات الفردوس ، ثم كان في [ كل ] واحدة منها - أعني الجنان - فيها معنى الأخرى ؛ لأنه قال : { جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ } [ السجدة : 19 ] وهو ما يؤوي إليه ، و { جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ } [ المائدة : 65 ] ظاهر ، و { جَنَّاتِ عَدْنٍ } [ التوبة : 72 ] من المقام أو غيره ، و { ٱلْفِرْدَوْسِ } سميت فردوساً ؛ لأنها تكون ملتفة محفوفة بالأشجار ، ففي كل واحدة منها ذلك كله . وقوله - عز وجل - { نُزُلاً } قيل : منزلاً من النزول . وقيل : من النزل وهو من الأنزال . وقوله - عز وجل - : { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } أي : تحولاً ، أخبر أنهم لا يملون ولا يسأمون عن نعيمها ، كما يمل أهل الدنيا عن نعيمها ويسأمون ؛ لأن المسرور بها يمل عن نعمة ، ويرغب في أخرى ، فأخبر أن أهل الجنة لا يملون فيها ، ولا يسأمون ، ولهم فيها ما يشتهون ، ولهم فيها ما يتخيرون . وروي أن ابن عباس سأل كعباً عن الفردوس ؛ فقال : هي جنات الأعناب بالسّريانية . وقال بعضهم : ما ذكرنا أنها سميت : [ فردوساً ] لكثرة أشجارها والتفافها . وروي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، الفردوس أعلاها درجة من فوقها يكون الفردوس ، منها يتفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس " . وقال القتبي : { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } أي : تحولاً ، وكذلك قال أبو عوسجة : هو من التحول ، وقال : { نُزُلاً } ، قال : هذا من الطعام والشراب ، وجميع النزل : أنزال ، وجمع الفردوس : فراديس . وقال القتبي : النزل : ما يقدم للضيف ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } . يشبه أن يكون هذا خرج مقابل قوله : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] ، وقوله : { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } [ يوسف : 111 ] وجواباً لما ذكر فيه تبياناً لكل شيء ، وتفصيل كل شي ، فقالوا : كيف يحتمل هذا المقدار أن يكون فيه تبيان كل شيء وتفصيل كل شيء ؟ فقال - عز وجل - عند ذلك جواباً لقولهم : إنه لو بسط ما أودع فيه من نحو المعاني والحكمة ، وشرح ذلك فكتب بما ذكر لبلغ القدر الذي ذكر وازداد . وقال الحسن : قوله : { لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } أي : لخلق ربي ، أي : لو قال ما خلق وأملى : أني خلقت كذا ، وخلقت كذا ، فيكتب جميع ما خلق ، لبلغ القدر الذي ذكر . ويرجع تأويله إلى ما خلق من أصناف الخلق وأجناس الأشخاص . وقال أبو بكر الأصم : قوله : { لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } لبيان ما خلق ربي ، فهو يرجع إلى الأول ، وقال : فائدة ما ذكر هو أن يعرفوا أن خلائقه وما أنشأ ، لمما يخرج عن الوقوع في الأوهام ، فالذي أنشأ ذلك وخلقه أحرى أن يكون خارجاً عن الوقوع في الأوهام والتصور فيها . والثاني : يعرفوا قدرته وسلطانه ، وإحاطة علمه بالخلائق ، وما أنشأ فيعلموا : أن من قدر على هذا فهو على البعث الذي أنكروا أقدر ، ومن أحاط علمه بما ذكر فهو على الإحاطة بأفعالهم وأقوالهم أعلم وأعرف ؛ ليكونوا على الحذر أبداً في كل وقت . ثم يحتمل قوله : { لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } حججه وآياته التي أقامها على وحدانيته وربوبيته ، أي : لو كتب ذلك لبلغ ذلك الذي ذكر . وإن كان المراد من الكلمات : القرآن ، فالتأويل ما ذكرنا بدءاً : أنه كان خرج على الجواب والمقابلة لقول كان منهم ، [ وهو ] ما قاله الحسن وأبو بكر إن كان كلماته خلقه أو البيان عن خلقه . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } : هذا ليس على التحديد ، ولكن على التعظيم والإبلاغ ، وهو ما قال : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ } [ لقمان : 27 ] دل هذا على أن قوله : { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } ، أن ليس لذلك المدد حدّ ولا نهاية ؛ ولكن ذكر على التعظيم له والإبلاغ . وفيه دلالة أن ليس لما خلق الله من العلوم نهاية ولا غاية يدركها الخلائق ، ولكن يؤخذ من كل جنس شيء ، فيعمل به . وفيه أن ليس الأمر بتعلم العلم ، والمقصود منه العلم نفسه ، ولكن المقصود منه العمل بما يعلم ؛ إذ ليس للعلوم نهاية ولا يبلغ ذلك البشر ، فدلّ أنّه كما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } . أمره أن يخبرهم أنه بشر مثلهم ، ثم يكون لذلك الأمر وإخباره إياهم أنه بشر مثلهم ، وجوه من المعنى : أحدها : أنهم كانوا يسألونه آيات خارجة عن وسع البشر وطوقهم ، فأمره أن يخبرهم أنه بشر مثلهم ، لا يقدر على ما يسألونه من الآيات التي تخرج عن وسع البشر وطوقهم ، وليس لأحد التحكم على الله ، والتخير عليه في شيء ، إنما ذلك إلى الله إن شاء أنزل وإن شاء لم ينزل ، وأنا لا أملك شيئاً من ذلك . والثاني : ذكر هذا ليعرفوا أنه إذا جاء من الآيات التي لا يحتمل وسع البشر أن يأتوا بمثلها ، أنه إنما أتى بذلك من عند الله لا من ذات نفسه ؛ إذ علموا أن وسع البشر لا يحتمل ذلك ، فلما أتاهم بذلك إنما أتى بها من عند الله وأنه رسول على ما يقول . والثالث : أمره أن يقول لهم هذا : إنه بشر مثلهم ؛ لئلا يحملهم فرط حبّهم على أن يتخذوه إلهاً ربّاً على ما اتخذ قوم عيسى عيسى إلهاً ربّاً ؛ لفرط حبّهم إيّاه . وقوله - عز وجل - : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } فإن كانت الآية في مشركي العرب - فهم ينكرون البعث ولا يرجونه لكنّه يكون ذكر لقاء ربه لهم ؛ لأنهم عرفوا في أنفسهم قديم إحسان الله إليهم [ و ] نعمه عليهم ، فأمروا أن يعملوا العمل الصالح ليستديموا بذلك الإحسان الذي كان من الله إليهم ، فيحملهم العمل على التوحيد بالله والإقرار بالبعث . وإن كانت الآية في المؤمنين ، فيكون تأويله ؛ { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } ، أي : ثواب ربه { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً } ليثاب عليه ؛ إذ الثواب إنما يكون للعمل الصالح دون غيره ، وفيه ما ذكرنا أن المقصود من العلم العمل الصالح ، والعلم مما ليس له نهاية فالأمر بطلب ما لا نهاية له ليس لنفسه ولكن للعمل به ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } ، يحتمل : حقيقة الإشراك في العبادة والألوهية ، على ما أشرك أولئك : أشركوا الأصنام والأوثان التي عبدوها في عبادته وألوهيته ، ويحتمل : المراءاة في العمل الصالح ، على ما يرائي بعض أهل التوحيد في بعض ما يعملون من الطاعة والخيرات ، والله أعلم بالصواب . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .