Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 99-106)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } أي : يجول بعضهم في بعض . ثم يحتمل قوله : { يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } ، عند السدّ الذي بناه ذو القرنين ، يموجون عنده في فتح ذلك السدّ ، أو يذكر هذا لكثرتهم وازدحامهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } ظاهره على الماضي ، والمراد منه : المستقبل ، أي : ينفخ في الصور فيجمعهم جمعاً ، ومثل هذا كثير في القرآن يذكر الماضي بحرف المستقبل ، والمستقبل بحرف الماضي . وقوله - عز وجل - : { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً } . يحتمل : أن يكون عرضها عليهم قبل أن يدخلوا فيها ، كقوله : { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } [ الشعراء : 91 ] . ويشبه أن يكون العرض كناية عن التعذيب بها بعد ما أدخلوا فيها كقوله : { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] ، وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي } قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع أن ظلمة الكفر تستر وتحجب نور القلب ، ونور كل حاسّة من حواسّه من السمع والبصر والفؤاد وغيره ؛ إذ لكل حاسّة من هذه الحواس نور وضياء في سريتها ألا تبصر ولا تسمع الحق والحجة إلا بنورين جميعاً : نور الظاهر ، ونور السرية والباطن . فالكفر يستر ويغطي ذلك النور ، فجعل لا يبصر الحق ولا ينظر العبر ، ولا يتفكر ولا يتجلى له الحق بنور الظاهر . وللإيمان نور وضياء ، يبصر به ، ويسمع ، ويرفع له غطاء كل شيء حتى يتجلى له الحق ، ويعرف به حسن [ كل حسن ] وقبح كل قبيح ، فهو كما يرى الإنسان الشيء بنور بصره وبنور الهدى ، فإذا ذهب أحدهما صار بحيث لا يبصر ولا يرى شيئاً ؛ فعلى ذلك إنما يعرف الشيء ، ويظهر له حقيقته بنورين : بنور القلب وبنور الحواس ، فإذا غطى ظلمة الكفر نور القلب ، صار لا يبصر شيئاً ، ولا يعتبر ، ولا يسمع ، ولا ينطق بالحق ، والإيمان ينور ذلك ويضيء ، فجعل يبصر كل شيء ، ويتجلى له الحق من الباطل ، وعرفوا الآيات من التمويهات ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } ، فيه وجهان من الدلالة : أحدهما : أنه نفى عنهم استطاعة السمع ، وقد كان لهم السمع ؛ فدل أن الاستطاعة التي هي استطاعة الفعل تقترن بالفعل ، لا تتقدم ولا تتأخر . والثاني : فيه دلالة أن هنالك استطاعة ، هم يستفيدون بها وعد الله ويستوجبونه ؛ فضيّعوها باشتغالهم بغيرها حيث عوتبوا واستوجبوا ذلك العتاب والتوبيخ بالتضييع الذي كان منهم . فلو لم يكن [ كذلك لم يكن ] للعتاب والتوبيخ الذي عوتبوا ووبخوا معنى . قال قوم : إنما نفى عنهم ذلك للاستثقال الذي كان منهم . وقد يقال مثله على المجاز ؛ للاستثقال دون الحقيقة ، يقول الرجل لآخر : ما استطيع أن أنظر إليك لكذا ، وهو ناظر إليه ، لكن قد ذكرنا : أنه على الوجه الذي قال : لا أستطيع أن أنظر إليك وهو ناظر إليه ، غير مستطيع النظر إليه وهو نظر رحمة وشفقة . وقال بعضهم : هو على الطبع ، وهو قول الحسن . وقال بعضهم : إنما نفى ذلك عنهم ؛ لما لم ينتفعوا به ، كما نفى عنهم السمع والبصر والنطق ؛ لما لم ينتفعوا به ، ليس على أنهم لم يكن لهم تلك الحواس ، فعلى ذلك ما نفى عنهم من الاستطاعة لما لم ينتفعوا بها ، ليس على أنها ليست قبل ، هكذا نفى عنهم ذلك لما عموا وصموا عن ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيۤ أَوْلِيَآءَ } [ قيل فيه بوجوه ] : [ الأول : ] قال بعضهم : تأويله : أفحسب الذين عبدوا في الدنيا الملائكة والرسل واتخذوهم من دوني أولياء أن يكونوا لهم أولياء في الآخرة ، ويتولون شفاعتهم يشفعون لهم وينصرون ، كلا لن يصيروا لهم أولياء ، كقولهم : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] و { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] . والثاني : { أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي } المخلصين { دُونِيۤ أَوْلِيَآءَ } ويتولونهم ، أي : لا يقدرون على أن يتخذوا أولياء من دوني ، وقد كانوا يدعون المؤمنين إلى دينهم ، والتولي لهم ، وهو ما قال : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } [ النحل : 99 - 100 ] . والثالث : { أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } أن ما عبدوا واتخذوا { مِن دُونِيۤ أَوْلِيَآءَ } أني أمرتهم بذلك أو أذنت لهم حيث قالوا : { وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] ونحوه ، كلا إنه [ ما ] أمرهم بذلك أو أذن لهم في ذلك . ومن قرأ : { أَفَحَسِبُ } على الجزم فهو على إسقاط ألف الاستفهام ، يعني : فحسب الذين كفروا ، فهو يخرج على وجوه ثلاثة : أحدها : فحسب الذين كفروا واتخذوا عبادي من دوني أولياء ما أعتدنا لهم من جهنم ، كقوله : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا … } الآية [ المجادلة : 8 ] . والثاني : أحسب الذين كفروا ما اتخذوا من دوني أولياء ، أي : أما كفاهم ذلك وما حان لأن يرجعوا إلى عبادتي وألوهيتي ، وقد أقمت لهم الآيات والحجج على ذلك . والثالث : حسب لهم من الذل ما اتخذوا من دوني أولياء . وقوله - عز وجل - : { إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً } . قال بعضهم : نزلاً هو النزول وهو من النزول . وقال بعضهم : هو المنزل والإنزال ، أي : يأكلون فيها النار ؛ يكون مأكلهم ومشربهم من النار . قال القتبي : النزل ما يقدم للضيف ولأهل العسكر . وقوله - عز وجل - : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } . يشبه أن يكون هذا خرج على مقابلة قول كان من رؤساء الكفرة وجواب لهم ، وهو أن الرؤساء منهم كانوا يوسعون الدنيا على بعض أتباعهم ويحسنون إليهم ، ثم صار أولئك الأتباع أتباعاً لرسول الله ودخلوا في دينه فضاقت عليهم الدنيا ، وذهبت المنافع التي كانت لهم منهم ، فعيرهم بذلك أولئك الكفرة ، ووبخوهم على ما اختاروا من الدين أنه لو كان حقّاً لاتسع عليهم ، [ في ] الدنيا كما اتسع علينا وعليهم ما داموا على ديننا ، أو كلاماً نحو هذا ، فأجابهم الله بذلك ، فقال : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . … } الآية . ويحتمل : أن يكون على الابتداء في أهل الصوامع منهم والرهبان الذين اعتزلوا النساء ، وحبسوا أنفسهم لعبادة الأصنام والأوثان ، وجهدوها فيها ، وحملوا على أنفسهم الشدائد والمشقة ، فأخبر - عز وجل - أن هؤلاء أخسرهم أعمالاً وأضلهم سعياً من الذين طلبوا الدنيا والرّياسة فيها ، ولم يفعلوا ما فعل هؤلاء وإن كانوا في الكفر سواء . والأخسر : هو الوصف بالخسران والنهاية والغاية ، وجائز أن يستعمل ( أفعل ) في موضع ( فعل ) ، هذا في اللغة غير ممتنع ، فيكون تأويله : قل هل ننبئكم بالخاسرين أعمالاً ، كقوله : الله أكبر ، أي : كبير . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } يحتمل وجهين : أحدهما : { ضَلَّ } : أي : ذلوا لعبادتهم التي عبدوا تلك الأوثان والأصنام ، وخذلوا أنفسهم بذلك ، وعلى ذلك يخرج قوله : { أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَة } [ التوبة : 69 ] : أذلوا أنفسهم في الدنيا بعبادتهم الأصنام . والثاني : { ضَلَّ سَعْيُهُمْ } الذي سعوا في الدنيا بعبادتهم الأصنام في الآخرة ؛ لأنهم قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] و { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، ونحوه ، فَضلَّ ما أمَّلوا في الآخرة بسعيهم في الدنيا والآخرة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } وهم يحسبون بعبادتهم الأصنام التي عبدوها أنهم يحسنون بما أنفقوا على أولئك ووسعوا أنهم يحسنون صنعاً ، أي : خيراً أو معروفاً ، أي : ليس لهم ذلك بصنع للخير ، وفيه دلالة أنهم يؤاخذون بفعلهم الذي فعلوا ، وإن جهلوا الحق ، وهكذا قولنا : إن من فعل فعلاً وهو جاهل ، فإنه يؤاخذ به بعد أن يكون له سبيل الوصول إلى الحق بالطلب أو بالتعلم ، حيث هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً . ثم أخبر من هم ؟ فقال : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } : حججه وبراهينه . وقال الحسن : دينه ، وقد ذكرنا ذلك في غير موضع . وقوله : { وَلِقَائِهِ } البعث أو المصير إليه ، وهو مذكور أيضاً . وقوله - عز وجل - : { فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً } . أي : لا نقيم لهم وزناً ، وهو ما قال - عز وجل - : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُم } [ البقرة : 16 ] فإذا لم تربح لهم [ كانت ] حسرات عليهم . وقوله : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ } [ النحل : 25 ] ، هذا يدل أن قوله : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً } ، قد يقام عليهم الوزن . ثم أخبر - عز وجل - عن جزائهم ؛ فقال : { ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوۤاْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً } .