Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 1-8)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ } : تأويل الحمد هاهنا وفي أمثاله - والله أعلم - أي : حق الحمد للذي منه وصلت إلى كل أحد نعمة أي : أنها وصلت على أيدي من وصلت إلى كل من وصلت فإن حق الحمد والثناء له في تلك النعمة وإن حمد من دونه ؛ إذ منه ذلك ، لا من الذي وصلت على يده ، وأن الذي وصلت على يديه كالمستعمل له ؛ فحق الحمد والثناء له لا من دونه . أو أن يكون قوله : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } أي : قولوا : له الحمد والثناء ؛ لأنه في جميع ما ذكر الحمد له ألحق به شيئاً : إمّا قدرته وسلطانه ، وإما نعمه التي أنعم على الخلق كقوله : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ … } الآية [ الأنعام : 1 ] . و { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } الآية [ فاطر : 1 ] و { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } [ الإسراء : 111 ] . وقوله : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ } ونحوه . ما ذكر الحمد لنفسه والثناء إلا ذكر على أثره ما قدرته وسلطانه . وأما نعمه ، فما كان المذكور على أثره النعمة فهو يستأدي به شكره وحمده . وإن كان الملحق به القدرة والسلطان فيخرج القول منه مخرج الأمر بالتعظيم له والهيبة والإجلال ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً } أي : لم يجعله عوجاً ، ويجوز زيادة اللام في مثله ؛ كقوله : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، وردفكم ؛ هذا جائز في اللغة ثم قوله : { أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً } أي : لم يجعله عوجاً ، وهو يخرج على وجهين : أحدهما : على التقديم والتأخير على ما قاله أهل التأويل ، أي : أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعله عوجاً . والثاني : على زيادة ( بل ) كأنه قال : ( أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً بل جعله قيماً ) ؛ على أحد هذين الوجهين يخرج والله أعلم . ثم قوله : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً } إذا لم يكن عوجاً كان قيماً ، وإذا كان قيماً كان غير عوج ، في كل واحد من الحرفين معنى الآخر ، إلا أن من عادة العرب تكرار الكلام وإعادته على التأكيد ، كقوله : { مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ } [ النساء : 25 ] وإذا كن مسافحات لم يكن محصنات ، حرفان مؤديان معنى واحداً ، إلا أنه كرّر ، لما ذكرنا [ أن ] من عادة العرب التكرار ، وكذلك ما ذكر : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً } البأس : هو الشديد ، والشديد هو البأس ، هما واحد ، فعلى ذلك الأول . ثم اختلف في قوله { قَيِّماً } قال بعضهم : القيم : هو الشاهد ، أي : القيم على الكتب المتقدمة ، والشاهد عليها في الزيادة والنقصان ، وفي التغيير والتحريف يبين ما زادوا فيها ، وما نقصوا وما حرفوه ، وما غيروه ، كقوله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ … } الآية [ البقرة : 79 ] . وقوله : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } [ النساء : 46 ] . وقوله : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً … } الآية [ آل عمران : 78 ] كانوا يحرفون نظمه ورصفه ، ومنهم من كان يحرف أحكامه وشرائعه ؛ فهذا القرآن شاهد ، وقيم في بيان ما فعلوا . وقال بعضهم قوله : { قَيِّماً } أي : ثابتاً قائماً أبداً لا يبدّل ، ولا يغير ، ولا ينسخ ولا يزداد ، ولا ينقص ، وهو على ما وصفه { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ … } الآية [ فصلت : 42 ] . وهو على ما وصف الحق بالثبات والقيام والباطل بالذهاب والتلاشي { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ … } الآية [ الرعد : 17 ] وما وصف الكلمة الطيبة بالثبات والقيام لها ، والخبيثة بالزوال والتغيير والذهاب فعلى ذلك هذا القرآن ، لأنه حق . وقال بعضهم : { قَيِّماً } ، أي : مستقيماً ، وتأويل المستقيم : المستوي الموافق ، أي : يصدق بعضه بعضاً ، ويوافق أوله آخره ، وآخره أوله ، أي : لم يخرج مختلفاً ، وهو على ما قال : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ، ولو كان من عند غير الله على ما قال أولئك الكفرة ، لكان خرج مختلفاً متناقضاً ، ينقض أوله آخره ، وآخره أوله ، فإذا لم يكن دل أنه من عند الله نزل ، ولو كان على ما يقولون أصحاب العموم والظاهر أيضاً لم يكن قيماً ولا مستقيماً ، بل يخرج مختلفاً متناقضاً ؛ لأنهم يعتقدون على العموم والظاهر ، ثم يخصّون بدليل ، فهو مختلف ، وأصله قيم بالحجج والبراهين على أي تأويل كان ، وبالله التوفيق . وقوله - عز وجل - : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً } : أي : أنزله على عبده ، لينذركم بأساً شديداً ، أي : لينذر ببأس شديد ، والبأس : العذاب . وقوله - عز وجل - : { مِّن لَّدُنْهُ } . هذا يحتمل وجهين : أحدهما : أنزل على عبده الكتاب من لدنه ، أي : من عنده . والثاني : لينذركم الكفار بأساً شديداً ينزل من عنده ، والله أعلم . وقوله : - عز وجل - { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ } . فيه دلالة : أنه قد يكون المؤمنون يستحقون اسم الإيمان ، وإن لم يعملوا الصالحات ، حيث ذكر المؤمنين ، ثم ذكر الأعمال الصالحات ، خص المؤمنين بعمل الصالحات ، لكن البشارة المطلقة إنما تكون للمؤمنين الذين عملوا الصالحات ؛ لأنه لم يذكر البشارة المطلقة في جميع القرآن إلا للمؤمنين الذين عملوا الصالحات ، ثم المؤمنون الذين عملوا غير الصالحات في مشيئة الله : إن شاء عفا عنهم ، وإن شاء عذبهم بقدر عملهم الذي كانوا عملوا ، وإن شاء قابل سيئاتهم بحسناتهم فإن فضلت حسناتهم على سيئاتهم ، بدل سيئاتهم حسنات على ما أخبر : { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ … } [ الفرقان : 70 ] هم في مشيئة الله على ما ذكر ، وليست لهم البشارة المطلقة التي للمؤمنين الذين عملوا الصالحات . وقوله - عز وجل - : { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } : لا سوء فيه ولا قبح . وقوله : { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } دون قوله : { … لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } [ الأحزاب : 44 ] ، { كَبِيراً } [ الإسراء : 9 ] في الذكر لكنه صار مثله بقوله : { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } لا يخرجون منه أبداً ، وهم مقيمون فيه . ثم يحتمل وجهين : أحدهما : { مَّاكِثِينَ فِيهِ } ، أي : لا تأخذهم سآمة ولا ملالة فيه ؛ فيريدون التحول منه إلى غير ؛ على ما يكون في الشاهد : أنه يسأم المرء ويمل من طعامٍ - وإن كان رفيعاً - ويرغب فيما دونه ، وهو ما قال : { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } . والثاني : { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } ؛ لأن خوف الخروج والزوال عن النعمة ينقص النعمة على صاحبها ، وهو ما قال { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [ النساء : 57 ] ؛ وقال : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] . وقوله - عز وجل - : { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً * مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } : هذا يحتمل وجهين : أحدهما : أي : يعلمون أنه لم يتخذ ولداً ، ولكن يقولون ذلك على العلم منهم كذباً وزوراً ؛ كقوله : { وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } [ غافر : 41 - 42 ] أي : أشرك ما أعلم منه : ليس هو لشريك له ، وكقوله : { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ٱللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } [ يونس : 18 ] ، أي : أتنبئون الله بما لا يعلم أنه ليس على ما تقولون . والثاني : يحتمل قوله : { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } ، أي : عن جهلهم يقولون ما يقولون من الولد والشريك لا عن علم ؛ تقليداً لآبائهم ؛ لأنهم ليسوا بأهل كتاب يعرفون به ، ولا كانوا يؤمنون بالرسل ، وأسباب العلم هذان : الكتاب والرسل ، فما قالوا إنما قالوا عن جهل لا عن علم ، وكذلك آباؤهم ، فإن كان على هذا ، ففيه دلالة أن من قال شيئاً عن جهل فإنه يؤاخذ به حيث قال : { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ … } الآية . وقوله - عز وجل - : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } . أي : كبرت وعظمت تلك الكلمة التي قالوها على من عرف الله حق المعرفة حتى كادت السماوات والأرض أن تنشق ؛ لعظم ما قالوا في الله كقوله : { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ … } الآية [ مريم : 90 ] . وقوله : { إِن يَقُولُونَ } : أي : ما يقولون إلا كذباً ، ثم تكلم أهل الأدب في نصب { كَلِمَةً } . قال بعضهم : انتصب على المصدر ، أي : كبرت كلمتهم التي قالوها كلمة ؛ كقوله : { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] . وقال قطرب : هو على الوصف ؛ كما يقال : بئس رجلاً ، ونعم رجلاً ؛ على الوصف به ، وذلك جائز في اللغة فعلى ذلك هذا . وقال الخليل : إنما انتصب ، لأنها نعت لاسم مضمر معرفة ، وهو بمنزلة قوله : { سَآءَ مَثَلاً } [ الأعراف : 177 ] وإنما كان نعتاً لاسم مضمر ؛ لأنه قال : { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } ، فهذا القول هو فرية ، فتأويله : كبرت الفرية كلمة . وقد قيل : كبرت المقالة كلمة ، وهو ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله : - عز وجل - { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } : أي : كبرت [ كلمة ] : تكلموا بها . أو يقول : كبرت كلمة تتكلمونها . وقوله - عز وجل - : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } . وقال في آية أخرى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] ، أخبر أنه فاعل ما ذكر ، ولم يقل له ، افعل أو لا تفعل في هذا ، فيشبه أن يكون النهي ما ذكر في آية أخرى ، وهو قوله : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ؛ ولهذا قال بعض الناس : إن في قوله : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } . نهيا عن الحزن عليهم . وعندنا : ليس يخرج على النهي ، ولكن على التسلي والسلوة . ثم اختلف في قوله : { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } : في الأسف . قال بعضهم : الأسف : هو النهاية في الغضب ؛ كقوله : { فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] قال أهل التأويل : { آسَفُونَا } أغضبونا . وقال بعضهم : الأسف : هو النهاية في الحزن ، كقوله : { يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ } [ يوسف : 84 ] ، أي : يا حزني . ويحتمل أن يكون منه الحزن ؛ إشفاقاً عليهم أن تتلف أنفسهم في النار بتركهم الإيمان ، أو كانت نفسه تغضب عليهم ؛ بتركهم الإجابة ، والقول في الله سبحانه على ما قالوا فيه ، وكلاهما يجوزان ، إذا كان ذلك لله كادت نفسه أن تتلف حزناً عليهم ؛ إشفاقاً منهم ، أو كادت تتلف غضباً عليهم ، وفيه دلالة أنه لم يكن يقاتل الكفرة ، للقتل والتلف ، ولكن كان يقاتلهم ؛ ليسلموا حيث كادت نفسه تتلف ؛ إشفاقاً عليهم منه ؛ فلا يحتمل أن يكون يقاتلهم للقتل وفي القتل ترك الشفقة ، ولكن كان يقاتلهم ، ليضطرهم القتال إلى الإسلام ، فيسلموا فلا يهلكوا ، وفيه تذكير للمسلمين وتنبيه لهم من وجهين : أحدهما : ما أخبر عن عظيم محل الذنوب في قلبه ، فلعل ذلك يؤذيه ، فيلحقهم اللعن ؛ كقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ … } الآية [ الأحزاب : 57 ] وفي ذلك زجر عن ارتكاب ما يسوءه ، ويؤذيه . والثاني : تعليم منه لأمته : أن كيف يعامل الكفرة وأهل المناكير منهم ، يقاتلون في الظاهر ، ويضمرون الشفقة لهم في القلب على ما فعل بهم رسول الله ، وعاملهم . وقوله : { بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } سمى القرآن : حديثاً ، وهو ما قال : { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ … } [ الزمر : 23 ] سماه بأسامٍ : قصصاً ، وحديثاً ، وذكراً ، وروحاً ، وأمثاله . والنهاية في الحزن والغضب للأنبياء ، أنفسهم تقوم لهذين ، وأما غيرهم من الخلائق ، فلا تحتمل أنفسهم إلا لأحدهما إذا كان الحزن ؛ ذهب الغضب وإذا جاء الغضب ذهب الحزن ؛ فالأنبياء هم المخصوصون بهذا . وقوله : - عز وجل - { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } : اختلف فيما أخبر أنه جعل للأرض زينة : قال بعضهم : كل ما على وجه الأرض من النبات والشجر والإنسان وغيره هو زينة لها { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } ، فإن كان التأويل على هذا فيكون قوله : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } القيامة ، يعني : جميع ما على وجه الأرض فتبقى قاعاً صفصفاً ، وذلك إخبار عن القيامة . وقال بعضهم : { زِينَةً لَّهَا } : هو النبات الذي عليها ، وما جعل لهم من الرزق ؛ ليبلوهم بما جعل لهم من الأرزاق بالأمر والنهي والعبادات وغيره ، لم يجعل ذلك النبات عليها وتلك الأرزاق مجاناً ، ولكن ليختبرهم ويبتليهم بأنواع الامتحان ، فإذا كان كذلك ففيه دلالة : أن ليس لأحد أن يتناول مما عليها إلا بإذن ، ولا يقدم على شيء منها إلا بأمر من أربابها . وقال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان : زينة لها : أهلها ، جعل ذلك ، ليبلوهم ، ذكر هاهنا : أنه جعل ما على الأرض ؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملاً . وقال في آية أخرى : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] ثم من الناس من يجمع بين الآيتين ، فيقول : جعل الحياة للابتلاء والموت للجزاء ؛ فيستدل على ذلك بقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } . أخبر : أنه يبلوهم بالزينة والحياة لا بالضيق والموات . ومنهم من يقول : امتحنهم بهما جميعاً بالحياة ؛ ليتزودا فيها لما بعد الموت ؛ كما يتزود في حال السعة والرخاء لحال الضيق والشدة فمن لم يتزود في حال السعة فلا زاد له في حال الضيق ؛ فعلى ذلك من لم يتزود في الحياة فلا زاد له بعد الموت . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } : أي : نبتليهم ونختبرهم أيضاً بذهاب النبات والأنزال وتأويله : أن يبتليهم بالرخاء والسعة وبالضيق والشدة ، كقوله : { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ، وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ … } الآية [ البقرة : 155 ] . وقوله : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [ الأعراف : 168 ] ونحوه ، فعلى ذلك قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } والله أعلم . أي : نبتليهم بالسعة والرخاء والضيق والشدة . وقال القتبي : { بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } ، أي : مهلك نفسك . وقال أبو عوسجة : { بَاخِعٌ } : بخع نفسه ، أي : أخرجها . وقالا جميعاً : الأسف : الحزن . وقال غيرهما : الأسف : الغضب أيضاً ، دليله قوله : { فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] أي : أغضبونا . وقال القتبي : الصعيد : المستوي ، ويقال : وجه الأرض ، ومنه قيل للتراب : صعيد ؛ لأنه وجه الأرض ، والجرز : الأرض التي لا تنبت شيئاً ، يقال : أرض جرز ، وأرضون أجراز ، وكذلك قال أبو عوسجة : والجرز : التي لا نبت فيها ، والصعيد : التراب .