Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 16-26)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ } . قال الحسن : هو صلة قوله : { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] أي : اذكر رحمة ربك مريم . وقال بعضهم : واذكر نبأ مريم وقصتها في الكتاب . وقوله - عز وجل - : { إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } ، أي : نحو المشرق . ثم يحتمل قوله : { إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا } إذا بلغت مبلغ النساء فارقت أهلها ، وانتبذت منهم ؛ لئلا يقع بصر غير ذي الرحم المحرم عليها ، وألا يراها أحد ، ولا يصلح النظر إليها . وقال بعضهم : { مَكَاناً شَرْقِياً } أي : جلست في المشرقة ؛ لأنه كان في الشتاء . وقوله - عزّ وجل - : { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً } : قال بعضهم : احتجبت من دونهم بالغيبة عنهم . وقال بعضهم : أخذت من دونهم حجاباً ، أي : ستراً . وقال مقاتل : اتخذت من دونهم الجبل حجاباً وستراً ، أي : جعلت الجبل بينها وبين أهلها ، فلم يرها أحد منهم . وقوله - عز وجل - : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } : قال أبيّ بن كعب : هو روح عيسى ، أرسله الله إلى مريم في صورة بشر ، { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } . وقال غيره من أهل التأويل : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } : جبريل ، وقد سمى الله جبريل : روحاً في غير آي من القرآن : { رُوحُ ٱلْقُدُسِ } [ النحل : 102 ] وغيره . { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } أي : لم يكن به أثر غير البشر . وقال بعضهم : { بَشَراً سَوِيّاً } لا عيب فيه ولا نقصان ، بل كان سويّاً صحيحاً كاملاً ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } . فإن قيل : كيف تعوذت بالرحمن إن كان تقيّاً ، وإنما يتعوذ بالرحمن من الفاجر والفاسق ؟ قال الحسن : قوله : { إِن كُنتَ تَقِيّاً } مفصول من قوله : { إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ } ، فيكون على الابتداء ، كأنها قالت : { إِن كُنتَ تَقِيّاً } لا ينالني منك سوء ولا يمسّني شر . ويحتمل قوله : { إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي : ما كنت تقيّاً ، أي : حيث دخلت عليّ من غير استئذان منك ولا استئمار ما كنت تقيّاً ، ويحتمل قوله : { إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي : وقد كنت تقيّاً ، فعلى هذا التأويل كأنه دخل عليها على صورة بشر عرفته بالتقى والصلاح ، فكأنها قالت : قد كنت عرفتك بالتقى والصلاح فكيف دخلت عليَّ بلا إذن ولا أمر ؟ ! وقد يجوز أن يستعمل ( إن ) مكان ( ما ) ومكان ( قد ) ، و [ هو ] في القرآن كثير ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } هو على الإضمار ، كأنه قال : { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } بالقول بأن أهب لك غلاماً زكيّاً ، أي : أرسلني إليك بهذا القول وهو قوله : { لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } . وفي حرف ابن مسعود : ( إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاماً زكيّاً ) . وقوله - عز وجل - : { زَكِيّاً } أي : صالحاً ، طاهراً عن جميع الشرور . وقوله - عز وجل - : { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } ، أي : قالت : لم يمسسني بشر ، يعلم أنه لم يمسها بشر لا تقي ولا غيره ، لكن كأنها قالت : لم يمسسني بشر نكاحا ولم أك بغيّاً ، فمن أين يكون لي ولد ؟ كأنها لم تعرف الولد إلا بسبب ؛ لذلك قالت : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } . وقوله - عز وجل - : { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ } ، أي : أخلق بسبب وبلا سبب . وقوله - عز وجل - : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي : خلق الشيء بسبب وبغير سبب هيّن عليّ . وقال بعضهم : قوله : { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ } للأنبياء الذين كانوا من قبل : إنه يخلق ولداً بلا أب ولا أمّ . وقوله - عز وجل - : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } ، أي : نجعل ولادته بلا أب على ما أخبر الأنبياء من قبل - آية للناس لرسالتهم ؛ لأنهم أخبروا أنه يولد ولد بلا أب ولا أم ، فكان ما أخبروا ، فدلّ ذلك أنهم إنما عرفوا ذلك بالله ؛ فيكون ذلك آية لصدقهم ، ويكون قوله : { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } أي : ذلك الخبر الذي أخبر الأنبياء من قبل ، والوعد الذي وعد لهم أمراً مقضيّاً كائناً . وقال أهل التأويل في قوله : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } ، أي : نجعل عيسى آية للناس حيث ولد بلا أب ، وكلم الناس في المهد ، وغير ذلك من الآيات التي كانت فيه . وجائز أن يكون آية للناس للبعث ؛ لأنه أنشأه بلا أب ولا سبب ، وهم إنما أنكروا البعث لما لم يعاينوا الولد بغير أب أيضاً ثم كان ، فعلى ذلك البعث ؛ إذ لا فرق بينهما ؛ لأن من قدر على إنشاء الولد بلا أب ولا أم قدر على الإحياء بعد الموت ، بل هو أولى . وقوله - عز وجل - : { وَرَحْمَةً مِّنَّا } أي : رحمة منا للخلق ؛ لأن من اهتدى واتبعه كان له به نجاة ، وهو ما قال الله تعالى لرسوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] وعلى ذلك جميع الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله إلى خلقه كان ذلك رحمة منه إلى خلقه . وقوله - عز وجل - : { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } أي : كان أمره كائناً ، وعلى التأويل الذي ذكره أبو بكر الأصم في قوله : { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } يكون قوله : { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } أي : كان وعداً وخبراً معلوماً على ما أخبر الأنبياء عن نبأ عيسى وأمّه . وقوله - عز وجل - : { فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً } . دلّ هذا على أن الولاد لم يكن على إثر الحمل ، ولكن كان بين الولاد وبين الحمل وقت ، لكن لا يعلم كم ذلك الوقت إلا بخبر عن الله . وقوله - عز وجل - : { فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً } . قال بعضهم : تباعدت به ؛ حياء من أهلها . وقال بعضهم : انفردت به مكاناً قصيّاً متباعداً . وقوله - عز وجل - : { فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ } : قال القتبي : { فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ } أي : جاء بها ، من المجيء ، وألجأها إليها ، يقول : جاءت بي الحاجة إليك ، وأجاءتني الحاجة . والمخاض : هو الحمل . ودل قوله : { فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً } أن النخلة التي ألجأها المخاض إليها كانت يابسة ، على ما قاله أهل التأويل ؛ لأنه إنما انتبذت مكاناً قصيّاً وتباعدت حياء من أهلها ، فلو كانت تلك النخلة رطبة ذات ثمار ، لكان الناس يأوون إليها ويقيمون عندها ، فلا يحتمل أن تأوي إليها مريم وعندها يأوي الناس ، ثم التجاؤها إلى النخلة لتتساند إليها وتستعين بها على ما تقع الحاجة للنساء وقت الولادة إلى شيء يستعن به عما ينزل بهن من الشدة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قَالَتْ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } . يحتمل أن يكون { يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } ، أي : وكنت غير معروفة . ويحتمل أن يكون - على ما ذكر - { يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } : لا أذكر بعد الموت بذلك ، لأنه ذكر أنها كانت من أهل شرف وكرم ، ومن أهل بيت النبوة ، فتمنت أن تكون غير معروفة ؛ لئلا تذكر بسوء بعدها ولا بقذف . وقال أهل التأويل : { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } أي : حيضة ملقاة ، وكذلك قال أبو عوسجة : النسي : الحيض . قال أبو بكر الأصم : لا يحتمل هذا ؛ لأنها قد عرفت قدرها عند الله ، فلا يحتمل أن تتمنى ما ذكر ، لكن الإنسان ربما يتمنى الأمر العظيم إذا اشتد به الأمر ، نحو ما يتمنى الموت في بعض الوقت لعظم ما يحل به ، فعلى ذلك غير منكر هذا من مريم أن تتمنى ما ذكر أهل التأويل ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } . ومن تحتها اختلف فيه : قال بعضهم : ناداها ملك . وقال بعضهم : ناداها ابنها عيسى . قال أبو بكر الأصم : لا يحتمل أن يكون [ الذي ] ناداها ملكاً ؛ لأنه قال : { مِن تَحْتِهَآ } ، ولو كان ملكاً لناداها من فوقها ، لكن هذا ليس بشيء ؛ لأن الملك إنما ينادي من حيث يؤمر ، من تحت ومن فوق . وقال بعض أهل التأويل : ناداها جبريل من تحت الوادي : { أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } . والأشبه أن يكون ابنها عيسى ؛ لأنها كانت تحزن أن تشتم وتقذف به ، فعيسى إذا تكلم وصار بذلك المحل تسر هي بذلك ، لما تعلم أنه ينفي عنها بعض ما طعنت به وقذفت . ويحتمل حزنها من وجه آخر : وهو أنها كانت حزنت خوفاً على نفسها وعلى ولدها ؛ لأنها أقامت في مكان لا ماء فيه ولا طعام ، فخافت على نفسها وولدها الهلاك ، فحزنت لذلك فبشرت حيث قال لها : { أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } : أمنها عن الخوف الذي كان . ثم السري : قال بعضهم من أهل التأويل : هو الجدول ، وهو النهر الصغير . وقوله - عز وجل - : { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } : فيه دلالة لزوم الكسب ؛ لأنه أمر مريم أن تهز النخلة ليتساقط عليها الرطب ، ولو شاء لسقط من غير فعل يكون منها ؛ لتجتني هي ، وذلك عليها أهون وأيسر ؛ على ما كان رزقها عندما كانت مؤنتها على زكريا . وفيه دلالة ألا يسع للمرء المسألة ما دام به أدنى قوة يقدر على قُوتِه . وفيه دليل أن زكريا كان أفضل منها وأكبر منزلة عند الله حيث رزقها عندما كانت في عيال زكريا من غير تكلف كان من زكريا ولا مؤنة ، فما فارت زكريا أمرها بالكسب . وفيه دلالة : أن الآيات التي تكون للأنبياء يجوز أن يجريها على غير أيدي الأنبياء ، حيث جعل لمريم نخلة يابسة رطبة تثمر رطباً ، وحيث جعل من تحتها سريّاً ، أي : نهراً جارياً ، وحيث رزقها عندما كانت في عيال زكريا من غير تكلف أحد ، فذلك يشبه آيات الأنبياء والرسل ويقاربها . وهذه المحن التي امتحن بها مريم في الظاهر عظيمة عند الناس ، وفي الباطن من أعظم كراماته إليها : أنه أخبر أنه - تعالى - اصطفاها على نساء العالمين بقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَـٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [ آل عمران : 42 ] ، وسماها : صدّيقة بقوله : { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } [ المائدة : 75 ] ، وذلك لا يسمّى إلا من بلغ من البشر في الصدق والصبر له غاية ، والله أعلم . وقال بعضهم في قوله : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } أي : من تحت النخلة . وقوله - عز وجل - : { فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً } . أي : كلي الرطب الذي يتساقط عليك ، واشربي من السرى الذي جعل تحتك . و { وَقَرِّي عَيْناً } أي : وارضي مكان ما حزنت عليه وخفت على نفسك وعلى ولدك ، أو طيبي نفساً . وقوله - عز وجل - : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } أي : صمتاً وسكوناً ، وكذلك روي في بعض الحروف ، وهو في حرف أُبي ، وقال : ثم قوله : { فَقُولِيۤ } ليس على القول نفسه ، ولكنه إشارة ، أشارت إليهم : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } فإن كان على هذا ، ففيه دلالة أن الإشارة إذا كانت بحالة مُفْهِمَةٍ المراد تعمل عمل القول نفسه والكلام ؛ ولذلك وقع الطلاق بالإشارة والنكاح ، وكل عقد من الأخرس وغيره إذا كانت الإشارة مفهومة معقولة . وقال بعضهم : قوله : { فَقُولِيۤ } هو على حقيقة القول ، أي : أمرت أن تقول : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } ، فكأن نذرها الصوم للرحمن بعد هذا القول ، وإلى هذا يذهب الحسن .