Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 7-15)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - { يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } . قال بعضهم : { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } ، أي : لم نجعل له مثل يحيى من قبل في الفضل والمنزلة ؛ لأنه روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لم يكن من ولد آدم إلا وقد عمل بخطيئة أو همّ بها غير يحيى بن زكريا ؛ فإنه لم يهم بخطيئة ولا عمل بها " . وقال بعضهم : { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } ، أي : لم يسم أحد قبله يحيى . وجائز أن يكون قوله : { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } ، أي : يتولّى الله تسميته يحيى ، لم يول تسميته غيره ، وسائر الخلق تولى أهلوهم تسميتهم . وقوله : { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً } . قال الحسن : إن زكريا استوهب ربه الولد ، فأجابه وبَشَّره ، فقال : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } ، وطلب منه الآية لذلك ، فقال : { ٱجْعَل لِيۤ آيَةً } ، فما عابه على ذلك ، ولا وبّخه ، ولكن رحمه ، أو كلام نحو هذا . وقال غيره : إنما أمسك لسانه واعتقله عقوبة لما سأل من الآية ، هؤلاء كلهم يجعلون ذلك منه زلة منه ، إلا أن الحسن قال : لم يعبه على ذلك ، ولا عاقبه عليه ، ولكن ذكر ذلك رحمة منه إليه ، وغيره يجعل ذلك عقوبة لما كان منه . وجائز أن يخرج ذلك على غير ما قالوا ، وهو أن قوله : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } أي : على أيّ حال يكون مني الولد ، على الحال التي أنا عليها ، أو أراد إلى شبابي ، ففي تلك الحال يكون مني الولد ، فذلك منه استخبار واستعلام عن الحال الذي يكون منه الولد ، ليس على أنه لم يعرف أنه قادر على إنشاء الولد في حال الكبر ، وبسبب وبلا سبب ، وعلى ذلك يخرج قوله حيث قال كذلك : { قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } ، أي : قبل أن نخلقك لم تك شيئاً . وطلب الآية والعلامة بعدما بشر يخرج على وجهين : أحدهما : أنّه لما بشر بالولد لعله أشكل عليه بأن تلك بشارة ملك أو غيره ، فطلب منه العلامة ليعرف أن تلك بشارة ملك ، وأنها من الله أو غيره لأنه ذكر في الآية : { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ } [ آل عمران : 39 ] فطلب الآية يخرج منه على استعلام بشارة الملك ، وأن ذلك من الله لا أنه لم يعرف قدرة الله أنه قادر على خلقه في كل حال ، هذا لا يظن بأضعف مؤمن في الدنيا فكيف يظن بنبيّ من الأنبياء ؟ ! أو أن يكون طلب الآية منه ليعرف وقت حملها الولد ، ووقت وقوعه في الرحم ؛ ليسبق له السرور بحمله عن وقت الولادة ، وعن وقت وقوع بصره عليه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { عَلَيَّ هَيِّنٌ } ، لأني أخلق بسبب ، وبغير سبب . وقوله - عز وجل - : { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } . قال بعضهم : آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال ، وأنت سَوِيٌّ صحيح . وقال بعضهم : { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } ، أي : ثلاثاً تامات بأيامها على ما قاله في آية أخرى : { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } [ آل عمران : 41 ] ذكر هاهنا ثلاث ليال وفي تلك الآية ثلاثة أيام والقصة واحدة . وقوله - عز وجل - : { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } . قوله : { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ } ، قيل : أومأ إليهم . وقيل : كتب لهم على الأرض . وجائز أن يكون أوحى إليهم بالشفتين على ما ذكر في آية أخرى : { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } [ آل عمران : 41 ] ، والرمز : هو تحريك الشفة والإيماء بها . قال أبو عوسجة : عاقر وعقيم : المرأة التي لا تلد ، وقوله : { عِتِيّاً } قال : هو أشد الكبر شيباً ، أي : كبر الشيب . والمحراب ، قال : إن شئت قصراً وداراً ، وقال القتبي : { عِتِيّاً } ، أي : يبساً ، ويقال : عِتيّاً وعَتيا ، بمعنى واحد ، ويقال : ملك عاتٍ ، إذا كان قاسي القلب غير لين ، وسويّاً أي : سليماً . وقوله : { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ } ، قد ذكرنا أنه أومأ إليهم . وقال بعضهم : كتب لهم على الأرض . وقوله : { أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } . يحتمل قوله : { أَن سَبِّحُواْ } ، أي : صلوا لله بكرة وعشيّاً ، فإن كان التسبيح هو الصلاة ، ففيه أن الصلاة كانت في الأمم الماضية في ختام الليل . ويحتمل التسبيح نفسه والثناء على الله ، والدعاء له بالغدوات والعشيات . وقوله - عز وجل - : { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } . قال بعضهم : خذ الكتاب بما قواك الله وأعانك . وقال بعضهم : خذ الكتاب واصبر على العمل بما فيه . وقال بعضهم : خذ الكتاب بقوة ، أي : بجدّ . قال أبو بكر الأصم : الجدّ : هو الانكماش في العمل ، والقوة هي احتمال ما حمل عليه . وفيه دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون بأن القوة تتقدم الفعل ، ثم لا تبقى وقتين ، فيكون على قولهم آخذاً بغير قوة ، وقد أمره أن يأخذه بقوة ، فقولهم على خلاف ما نطق به ظاهر الكتاب . وقوله - عز وجل - : { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } . قال بعضهم : { ٱلْحُكْمَ } ، أي : النبوة حال صباه . وقال بعضهم : آتاه الله الفهم واللبّ . وقال بعضهم : الحكمة والعلم . فكيفما كان ففيه فساد مذهب المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الله تعالى لا يخص أحداً بنبوّة ، ولا شيء من الخيرات إلا بعد أن يسبق من المختص له ما يستوجب ذلك الاختصاص ، ويستحقه ، فما الذي كان من يحيى في حال صباه وطفوليته ما يستوجب به النبوة ، وما ذكر من الحكم أنه آتاه ، فدلّ ذلك [ أن ] الاختصاص منه - يكون لمن كان - إفضالاً منه وإنعاماً ورحمة ، لا باستحقاق من المختص له واستيجابه . وفي قوله : { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } دلالة أنه كان نبيّاً حيث كان أخبر أنه آتاه الكتاب . وقوله - عز وجل - : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } هو على قوله : { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } وآتيناه حناناً وزكاةً أيضاً . ثم اختلف في قوله : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } : قال ابن عباس : تعطفاً من لدنا . وقال بعضهم : أي : رحمة من لدنا ، وهو قول الحسن . وقال بعضهم : الحنان : المحبة . وقال أبو عوسجة : حنانك وحنانيك كلاهما يعني : رحمتك ، وقال : أصله من التحنن ، وهو الترحم . وقال القتبي : أصله من حنين الناقة على ولدها . وقوله : { وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً } . قال بعضهم : زكاة ، أي : صدقة تصدق بها على زكريا وزوجته في الوقت الذي لا يرجو فيه مثلهما الولد . وقال بعضهم : زكاة ، أي : صلاحاً وما ينمو به من الخيرات . وجائز أن يكون الزكاة اسم كل خير وبركة ، وهو كالبر من التقوى ، كأنه قال : أعطيناه كل بر وخير . وقوله - عز وجل - : { وَكَانَ تَقِيّاً } عن جميع الشرور ، كقوله : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ } [ المائدة : 2 ] أي : تعاونوا على البرّ وتعاونوا أيضاً على دفع الشرور . وقوله - عز وجل - : { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ } هو على قوله : { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ } [ أي ] : وآتيناه البرّ بوالديه . وقوله - عز وجل - : { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } . بل كان خاضعاً لله ذليلاً مطيعاً . وقال الحسن : { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } ، أي : لم يكن فيمن يجبر الناس على معصية الله . وقال أهل التأويل : { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً } أي : قتالاً ، أي : لم يكن ممّن يقتل على الغضب ويضرب على الغضب . وأصله ما ذكرنا : أنه كان - على ضدّ ما ذكر - خاضعاً لله ، مطيعاً له ، على ما ذكر أنه لم يرتكب ذنباً ولا هم به . وقوله - عز وجل - : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } . يحتمل : ( السلام عليه ) الوجوه الثلاثة : أحدها : هو اسم كل برّ وخير ، أي : عليه كل برّ وخير في هذه الأحوال التي ذكر . والثاني : ( السلام ) هو الثناء ، أثنى الله عليه في أوّل أمره إلى آخره ، وبعد الموت في الآخرة ، أو أن يكون قوله : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ } أي : السلامة عليه في هذه الأحوال التي يكون للشيطان في تلك الأحوال الاعتراض والنزغ فيها ؛ لأنه وقت الولادة يعترض ويفسد الولد إن وجد السبيل إليه ، وكذلك عند الموت يعترض ويسعى في إفساد أمره فأخبر أن يحيى كان سليماً سالماً عن نزغات الشيطان ، محفوظاً عنه حتى لم يرتكب خطيئة ، ولا همّ بها ، والله أعلم . وفي قوله : { وَيَوْمَ يَمُوتُ } دلالة أن الموت والقتل سواء ، وإن كان في الحقيقة مختلفاً ؛ لأنه ذكر في القصة أن يحيى قتل ، ثم ذكر الموت ، فدل أنهما واحد ، فهذا يرد على المعتزلة ، حيث قالوا : إن المقتول ميت قبل أجله ، وفيه أن قوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ } [ البقرة : 154 ] إنما نهانا أن نسميهم أمواتاً في جهة ليس في الجهات كلها ، حيث سمى يحيى : ميتاً ، وهو كان شهيداً على ما ذكر أنه قتل . وفي قوله : { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } استدلال لأبي حنيفة - رحمه الله - حيث وقف في أولاد المسلمين والمشركين ، فقال : لا علم لي بهم ، ولم يقطع فيهم القول ؛ لما يجوز أن يجعل الله لهم من المنزلة والتمييز والفهم في حال صغرهم حتى يعرفوا خالقهم ومنشئهم ، على ما أعطى يحيى وعيسى في حال صباهما وصغرهما الحكم والفهم والمعرفة .