Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 106-110)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } . قال بعض أهل الكلام : { مَا نَنسَخْ } من اللوح المحفوظ { أَوْ نُنسِهَا } : نَدعُها في اللوح . وقيل : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي نرفع بآيةٍ أُخرى أو نتركها في الآخرى . وقيل : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } فنرفع حكمها ، والعملَ بها ، { أَوْ نُنسِهَا } أَي : نترك قراءتها وتلاوتها . فيجوز رفع عينها ، ويجوز رفع حكمها وإبقاء عينها ؛ لأَوجه : أَحدها : ظهور المنسخ ؛ فبطل قول من أَنْكر النسخ ؛ إذ وجد . ومن أَنكر ذلك فإنما أَنكر لجهل بالمنسوخ ؛ لأَن النسخ بيان الحكم إلى وقت ، ليس على البداءِ ، على ما قالت اليهود . والثاني : أَن للتلاوة فيها فضلاً - كما للعمل - فيجوز رفع فضل العمل ، وبقاءُ فضل التلاوة . والثالث : على جعل الأَول في حالة الاضطرار ، والثاني في وقت السعة ، كقوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] . ثم يجوز أَن يرفع عينُها فيُنْسى ذكرُها ، كما رُوي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : " كنا نعدل سورة الأَحزاب بسورة البقرة ، حتى رفع منها آيات ، منها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة " . وأَما قوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } . فاختلف فيه : قيل : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } أي : أخفَّ وأَهونَ على الأَبدان ؛ كقوله : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } [ البقرة : 184 ] ، إن الأمر بالصوم كان لوقت دون وقت ؛ إذ رجع الحكم عند الطاقة إلى غَيره . وكذا ما كان من الحكم في تحريم الأَكل عند النوم والجماع ، وكذا تحريم الميتة : لو لم يرد فيهما الإباحة والحل عند الضرورة لكُنَّا نعرفه بالحرمة ، وذلك أَخف وأَهون ، والله أعلم . وقيل : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } في الثواب في العاقبة . وقيل : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } في المنفعة { أَوْ مِثْلِهَا } في المنفعة . وقيل : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } وهو أَن يظهر لكم به الخير في حق الاتباع . والمثلُ : في حق الأَمر ؛ فيشترك أَصحاب المنكرين للنسخ في حق الائتمار بالمثل ، ويفضلونهم بظهور الأَخير . وهو كالصلاة إلى بيت المقدس ؛ كان لهم مثلُ ما لليهود في حق الائتمار ما كان ظهر لهم الأَخير في وقت ظهور الأَمر ، وأَبهم الخير . وظهر عنده فيمن أَبى : أَن اتباعه لم يكن لأَجل حق المتابعة ، بل لما كان عنده الحجة . فأَما من جعله خيراً على البدل فاستدل بها الآخر رخصة وإباحة ، والإباحة ورودها للتخفيف . ومن استدل على أَن النسخ - أَبداً - يَرِدُ على ما هو أَغلظ ، عورض بقوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ } [ النساء : 15 ] ، فأبدل بعقوبة أَشد من الأَول - وهو الرجم - بقوله : " خذوا عني ، خذوا عني " . ويحتمل قوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } وجهاً آخر : وهو آيةٌ والآيات هي الحجج ؛ فيكون معناه : ما نرفع من حجة فننفيها عن الأَبصار ، إلا نأْت بخير منها يعني أقوى منها في إلزام الحجة ، أَو مثلها . ولا شك أن ما يعترض هو أقوى حالة الاعتراض في لزوم الحجة على ما غاب عن الأَبصار ؛ فيكون قوله : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } على هذا الوزن ، أي : نأْت بحجة هي أقوى وأكثر من الأُولى ، أَو مثلها في القوة . فإن قيل : ما الحكمة في النسخ ؟ وما وجهُه ؟ قيل : محنة يمتحن بها الخلق ، ولله أَن يمتحن خلقه بما يشاءُ ، في أَي وقت شاء : يأْمر بأَمرٍ في وقت ، ثم ينهى عن ذلك ، ويأْمر بآخر . وليس في ذلك خروج عن الحكمة ، ولا كان ذلك منه لبداءٍ يبدو له ، بل لم يزل عالما بما كان ويكون ، حكيماً يحكم بالحق والعدل ؛ فنعوذ بالله من السرف في القول . وقوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . يحتمل : أن يكون الخطاب له - عليه السلام - والمرادُ بالخطابِ الذين سبق ذكْرُهم في قوله : { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } [ البقرة : 105 ] . إنه قادر على إنزال الخير على من يشاء ، واختصاصِ بعضٍ على بعض ، وتفضِيلِ بعضهم على بعض . ويحتمل : أَن يكون المراد في الخطاب له - عليه الصلاة والسلام - على حقيقة العلم على التذكير والتنبيه ، أي : تعلم أنت أَن الله على كل شىء قدير ، وهو كقوله : { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ محمد : 19 ] . على حقيقة العلم له . ويحتمل : على الإعلام والإخبار لقومه ، وقد ذكرنا . وعلى ذلك يخرج قوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } . أي : من كان يملك ملك السماوات والأرض ، يملك تخصيص بعض على بعض ، وتفضيلهم فيها ، ويحكم فيها بما يشاء ، ويُحْدِث من الأَمر ما أَراد ، والله أعلم . ويحتمل : نزوله على أَثر نوازلَ لم تذكر فيه ، وذلك في القرآن كثير ، وإنما يقال هذا الحرف عند ضيق القلب ؛ تسكيناً له . ومعنى تخصيص السَّماوات والأرض بالملك له ؛ لمنتهى علم الخلق بهما ، وإن كان له ملك الدنيا والآخرة ، وبالله التوفيق . وقوله : { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } . يدل هذا على أَنه خرج على أَثر نوازل وإن لم تذكر . وقوله : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ } . سؤالَ تعنت : لن نؤمن لك - تعنتاً - حتى نرى الله جهرة . وقيل : إنهم سأَلوا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سأَل قوم موسى موسى . وقيل : سأَلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أَن يجعل الصفا - لهم - ذهباً إن كان ما يقوله حقّاً . وقيل : سؤالهم : { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] ، وكانوا يسأَلون سؤال تعنت ، لا سؤال استرشاد واهتداء . وقوله : { وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ } . قيل : اختار الكفر بالإيمان . وقيل : ومن يختر شدة الآخرة على رخائها وسعتها . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : " ومن يشتر الكفر بالإيمان " وذلك كله واحد . وقوله : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } . قيل : عدل عن الطريق . وقيل : عدل عن قصد الطريق . وقيل : أَخطأَ قصد طريق الهدى ، وكله واحد . وقوله : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً } . إنهم كانوا يجهدون كل جهدهم حتى يصرفوا ويردوا أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن دين الله - الإسلام - إلى ما هم عليه ؛ كقوله تعالى : { وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } [ آل عمران : 69 ] ، وكقوله : { إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } [ آل عمران : 100 ] ، وكقوله : { يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ … } الآية [ آل عمران : 149 ] . وذلك - والله أعلم - لخوفِ فوت رياستهم التي كانت لهم ، وذهاب منافعهم التي ينالون من الأَتباع والسفلة ، فودُّوا ردَّهم وصرفهم إلى دينهم . ثم احتجت المعتزلة علينا بظاهر قوله تعالى : { حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } ، قالوا : دلت الآية على أَن الحسد ليس من عند الله بما نفاه - عز وجل - عنه ، وأَضافه إلى أَنفسهم بقوله : { حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } . قيل : صدقتم في زعمكم بأَن الحسد ليس من عند الله ، وكذلك نقول ، ولا نجيز إضافة الحسد إليه بحال ولكن نقول : خلق فعل الحسد من الخلق ، وكذلك يقال في الأَنجاس ، والأَقذار ، والحيَّات والعقارب ونحوها : إِنه لا يجوز أن تضاف إلى الله تعالى فيقال : يا خالق الأَنجاس والحيات والعقارب ، وإن كان ذلك كله خلقه ، وهو خالق كل شيء . فعلى ذلك ، نقول بخلق فعل الحسد ، وفعل الكفر من العبد ، ولا نجوِّز أن يضاف إلى الله تعالى . ثم يقولون في الطاعات والخيرات كلها : إنها من عند الله ، غير مخلوقة ، فلئن كانت العلة في الذي لا يكون مخلوقاً ، أنه ليس هو من عنده لوجب القول بخلقه ما هو من عنده ، ثم لم يقولوا به ؛ فَبان أَن ما يقولون فاسد ، باطل ، ليس بشيء . ثم جهة الحسد ما ذكرنا أنهم أَحبوا أَن تكون الرسالةُ فيهم ، أَو أَن يكون من عنده سعَةٌ ؛ كقوله : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ } [ هود : 12 ] وكقوله : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ؛ فبهذين الوجهين يخرج حسدهم . قوله : { مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } . أى : من قِبَلِها ، لا أَن الله - تعالى - أَمرهم . وليس يضاف إلى الله - تعالى - بأَنه من عنده بما يخلق ، ولكن بما يأمر أو يلزم . أَلاَ ترى أَن الأَنجاس كلها ، والخبائث ، والشياطين ، كلهم مخلوقة وإن لم يجز نسبتها إلى الله - تعالى - بمعنى أنه مِن عنده ؟ كذلك ما ذكر من الحسد . على أَنه معلوم أَنهم لم يكونوا يدعون مِن دون الله خَلْقاً فبذلك الوجه ينكر عليهم ، بل كانوا يدعون الأَمر في كل ما نُسب إلى الله تعالى ؛ فعلى ذلك ورد العقاب ، والله أعلم . وقوله : { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ } . أي : بين لهم في التوراة أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي ، وأَن دينه الإسلام ؛ كقوله : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ، الأنعام : 20 ] . وقوله : { فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } . يحتمل : النهي عن مكافأَة ما يؤذونه في الدُّنيا ، ثم لم ينسخ . وقيل : فيه نهي عن قتالهم ، حتى يأْتي أَمر الله في ذلك ، ثم جاءَ بقوله : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ … } الآية [ التوبة : 29 ] . وقيل : حتى يأتي الله بأمره ، أي : بعذابه ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . من التعذيب والانتقام ، وبكل شيء . ولم ينسخ هذا . وقوله : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } . كرر الله - عز وجل - الأَمر بإقامة الصلاة ، وإيتاءِ الزكاة ، في القرآن تكراراً كثيراً ، حتى كانت لا تخلو سورة إلا وذكرهما فيها - في غير موضع - وذلك لعظم شأْنهما ، وأَمرهما ، وعلو منزلتهما عند الله ، وفضل قدرهما . وعلى ذلك جعلهما شريعة في الرسل السالفة ، صلوات الله عليهم . أَلا ترى إلى قول إبراهيم - عليه السلام - : { رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي } [ إبراهيم : 40 ] . وقوله لموسى وهارون : { أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } إلى قوله : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } [ يونس : 87 ] . وقول عيسى : { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } [ مريم : 31 ] ، وقوله : { وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ } [ المائدة : 12 ] . وذلك - والله أعلم - أَن الصلاة قُربة فيما بين العبد وبين ربه ، تجمع جميع أفعال الخير ، وفيها غاية منتهى الخضوع له ، والطاعة : من القيام بين يديه ، والمناجاة فيه ، والركوع له ، والسجود على الأَرض ، وتعفير الوجه فيها حتى لو أَن أَحداً ممن خلص دينه لله لو أُعطى ما في الدنيا على أَن يعفِّر وجهه في الأَرض لأَحد من الخلق ما فعل ، وبالله التوفيق . والزكاةُ فيما بين العبد وبين الخلق ؛ لتآلف القلوب واجتماعها ، وفيها إظهار الشفقة لهم والرحمة . لذلك عظَّم الله شَأْنهما ، وشرف أَمرهما ، وأَعلى منزلتهما ؛ وعلى ذلك قرنهما بالإيمان في المواضع كلها ، وأَثبت بين الخلق الأُخوّة بهما بقوله : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } [ التوبة : 11 ] . ثم هما تكرمان بالعقل ؛ لأَن الصلاة تجمع جميع أَنواع خيرات الأَفعال ، وفيها غايةُ الخضوع له ، والخشوع - على ما ذكرنا - وذلك مما يوجبه العقل ، وإن لم يرد فيه السمع . وكذلك الزكاة : فيها تزكية الأَنفس وتطهيرها ، وذلك مما في العقل واجب . فإن قيل : ما الحكمة في وجوبها ؟ قيل : إظهار ما أَنعم الله [ على العبد ] ، من الأَموال والسَّعة فيها ، وما أَعطاهم من سلامة الجوارح عن جميع الآفات ، يخرج مخرج الأَمر بأَداءِ شكر ما أَنعم عليهم عز وجل . فإن قيل : ما الحكمة في وجوبها فيما أُعْطي منهما ، يعني من النفس ، والمال دون غيره ؟ قيل : لأَن الوُجوب من غيره يخرج مخرج المعاوضة والمبادلة ، لا مخرج أَداءِ الشكر ، والله أعلم . ثم الحكمة في : إيجاب الصلاة والزكاة ، وغيرهما من العبادات أَن الله - تعالى - إذ عمهم بنعمه فيما فضلهم بالجوهر ، وسخر لهم جميعَ ما في الأرض ، وبسط عليهم النعم ، حتى صار كل منهم لا يُبصر غير نعمه ، من استحقاق منهم شيئاً من ذلك - لزمهم الشكر عليها . ثم كانت الصلاة تجمع استعمال جميع الجوارح فيما لله فيها القيام بها شكراً له ، مع ما فيها توقف أَحوال نفسه بالاختيار بما هي عليه بالاضطراب والخلقة والقلب بالنية ، والخوف والرجاء ، وإحضار الذهن والعقل بالتعظيم والتبجيل ؛ فيكون كل شيء منه في شكره ؛ لما له فيه من سبوغ النعمة ، والله أعلم . وكذلك بالأموال فضلوا - في هذه الدنيا - واستمتعوا بلذيذ العيش ؛ فأمروا بالإِخراج لله ، مع ما إذ سخرت هذه الأَرض - بما فيها - لجميع البشر ، ألزم من ذلك صلةَ من لم يملك ، ليستووا في الاستمتاع بالتسخير لهم ، من الوجه الذي عَلِم الله لهم فى ذلك صلاح الدارين ، ولا قوة إلا بالله . وقوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ } . الآية تخرج على خلاف قول المتعزلة ؛ لأَنهم يقولون : إن من ارتكب كبيرة ثم أَقام الصلاة وآتى الزكاة ، وجاهد في سبيل الله ، وحج بيت الله الحرام ، فقدم خيراتٍ كثيرةً - فإنه لا يجد مما قدم شيئاً ، ولكن يجد ما قدم من شر . وذلك ليس من فعل الكريم والجواد ، ولا كذلك وصف الله نفسه ، بل وصف نفسه على خلاف ما وَصفوا هم ، فقال : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } [ الأحقاف : 16 ] . وهم يقولون : لا يتقبل عنهم ما قدموا من الخيرات ، ولا يتجاوز عن سيئاتهم ، وذلك سرف في القول ؛ فنعوذ بالله من السرف في القول ، والحكم على الله ، وبالله العصمة والتوفيق . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . بما قدمتم من الخير والشر ؛ تنبيه منه عز وجل ليكونوا على حَذرٍ من الشر ، وترغيب منه لهم بالخيرات . والله أعلم .