Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 198-203)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } . قيل : التجارة ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون من التجارة في عشر من ذي الحجة ، فلما أن كان الإسلام امتنع أهل الإسلام عن التجارة ، وأحبوا أن يكون خروجهم للحج خاصة ، دون أن يختلط غيره من الأعمال ، فرخص الله عز وجل للحاج وطلب الفضل . وروي عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - : أن رجلاً سأله ، فقال : إنا قوم نكرى ، ويزعمون أنه ليس لنا حج ، [ فهل لنا حج ] ؟ فقال : ألستم تحرمون وتقفون ؟ فقال : بلى . قال : فأنتم حجاج . وقال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فسأله عما سألتني عنه مثله ، فلم يجبه حتى أنزل الله تعالى هذه الاية : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنتم حجاج " [ وروي عن ابن عباس رضي الله عنه مثله ] . وأصحابنا ، رحمهم الله تعالى ، يرون حج الأجير والتاجر تامّاً ، وظاهر القرآن يدل على ذلك . وكان عند القوم أن الاستئجار على الطاعة لا يجوز أمراً ظاهراً حتى سألوا في هذا . وأصله : أن الحج لا يمنع أفعال غيره ، فأشبه الصوم ، ويجوز فيه الإجازة ، كذا في هذا . وأما الصلاة فهي مانعة لما سواها من الأفعال ؛ فاختلفا . وقوله : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰت } . قيل : إن أهل الجاهلية كانوا يفيضون من عرفات قبل غروب الشمس ، ومن مزدلفة بعد طلوع الشمس ، فأمر أهل الإسلام بالخلاف في الحالين جميعاً : أن يجعلوا الإفاضة من عرفة بعد الغروب ، ومن المزدلفة قبل طلوع الشمس . والله أعلم . وفي الخبر : " خالفوهم في الرجعتين جميعاً " . والإفاضة : هي الإسراع في المشي في اللغة . وقيل : الإفاضة : الانحدار . وقوله : { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ } . يعني : المزدلفة . [ ويحتمل قوله { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } وجهين : يحتمل : صلاة المغرب والعشاء ] ويحتمل : الدعاء فيهما جميعاً . وقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - : { ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ } ، الجبل وما حوله ، وهو الجبل الذي يوقف عليه يقال له : " قزح " ، وسمي " جمعاً " ، أيضاً [ لأنه يجمع ين المغرب والعشاء في وقت العشاء ، وقيل : يمسى جمعاً ] لأنه اجتمع فيه أدم وحواء . وروي عن ابن عباس ، رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : سمي العرفات عرفات ؛ لأن جبريل ، صلوات الله تعالى عليه ، لما علَّم إبراهيم - عليه السلام - المناسك كان يقول له : عرفت عرفت . والله أعلم ذلك . وقوله : { وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ } . يحتمل وجوهاً : يحتمل : الأمر بالذكر أمر بالشكر له على ما أنعم عليهم من أنواع النعم . ويحتمل : { وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ } ، وأرشدكم لأمر المناسك . ويحتمل : الأمر بالتوحيد ؛ كأنه قال : وحدوه كما وفقكم لدينه ، وعلى ذلك يخرج قوله : { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ } ، عن الهدي وعن المناسك ، وعن معرفة النعم والشكر . والله أعلم . قال الشيخ - رضي الله تعالى عنه - : الهدي على وجهين : هدي : عرف ليوحدوه . وهدي : وفق ، لطاعتهم . وقوله : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . قيل : إن أهل الحرم كانوا لا يقفون بعرفات ، ويقولون : [ إنما ] نحن أهل حرم الله ، لا نفيض كغيرنا ، ممن قصدنا ، فأنزل الله فيهم : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } ، أمرهم بالوقوف بعرفات ، والإفاضة منها من حيث أفاض غيرهم من الناس . وذكر عائشة ، رضي الله تعالى عنها ، أنها قالت : كانت قريش ، ومن كان على دينها يقفون بالمزدلفة ولا يقفون بعرفة ، [ وكان من سواهم يقفون بعرفة ] . فأنزل الله تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } . وفيه دليل أن الوقوف بعرفة فرض ، وعلى ذلك جاءت الآثار ؛ روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة ، من أدرك عرفة بليل ، وصلى معنا بجمع ، فقد تم حجه " . ويحتمل في قوله : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } ، معنى آخر : وهو أنهم رأوا غيرهم من أهل الآفاق فإذا قصدوا على الإحرام من وراء الحرم ، وهم أمروا بالإحرام [ في الحرم ] ، فلما خصوهم بذلك ظنوا أن قضاء غيره من المناسك في الحرم . والله أعلم . قال الشيخ أبو منصور - رحمه الله تعالى عليه - : أمر بالإفاضة بحرف " ثم " ، بعد ذكر المزدلفة والإفاضة من عرفات بتقديم المزدلفة ، فَبَانَ أن حرف " ثم " مما قد يبتدأ به أيضاً . وقوله : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } . قيل فيه بوجهين : قيل : إنهم في الجاهلية كانوا إذا قضوا المناسك يجتمعون في مكان ويذكرون آباءهم ومناقبهم ويفتخرون بذلك ، فلما أسلموا أمرهم أن يذكروا ربهم في الإسلام كذكرهم آباءهم في الجاهلية أو أشد ذكر ، فإنه أولى بذلك من الآباء . وقيل : أن يكونوا يذكرون آباءهم - ما أنعم عليهم وأحسن إليهم - فقال : اذكروا لي فيما تذكرون آباءكم مكان آبائكم [ فإني أنا ] الذي أنعمت عليكم [ وعلى آبائكم ] ، فاجعلوا ذلك لي دون آبائكم . وقوله : { فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } . [ وقوله : { وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } . وقوله : { أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } ] . وقوله : { فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ … } الآية في قوم لا يؤمنون بالبعث والإحياء بعد الموت ، [ طلبوا ] خيرات الدنيا ، ولم يطلبوا الخيرات في الآخرة ، فأعطوا ما سألوا من حسنات الدنيا ، وهو كقوله : { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] ، فأعطوا ما سألوا من نصيب ؛ { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } [ الشورى : 20 ] ، أي يؤتي حرث الدنيا والآخرة ، فمن كان ركونهم إلى الدنيا وميلهم إليها لم يركنوا إلى دعاء غيرها ، وأما من آمن بالبعث والإحياء بعد الموت فإننم سألوا خيرات الدنيا والآخرة جميعاً بقوله : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } ، طلبوا حسنات الدنيا ؛ لأن الدنيا جعلها محل الزاد للآخرة ، لأنه جعلها لهم ، إنما خلقهم للآخرة ؛ كقوله : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } [ البقرة : 197 ] . ثم اختلف في { ٱلْحَسَنَةَ } في الدنيا ، و { ٱلْحَسَنَةَ } في الآخرة : قيل : حسنة الدنيا : العلم والعبادة ، وحسنة الآخرة : الجنة والمغفرة . وقيل : حسنة الدنيا : النصر والرزق ، وحسنة الآخرة : الرحمة والرضوان . وكله واحد . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " إن لله عباداً يحيون في عافية ، ويموتون في عافية ، ويدخلون الجنة في عافية . قيل : يا رسول الله ، بم ؟ قال : بكثرة قولهم : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } " . وقوله : { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } . قيل : فيه بوجوه : قيل : فيه تقديم وتأخير ، كأنه قال : حسابه سريع . وقيل : { سَرِيعُ } ، كما أن الإبطاء في الحساب يكون للتفكر فيه والاستذكار وحفظ عقد الأصابع أو لشغل شغله ، فالله - تعالى - يتعالى عن ذلك أن يوصف به أو يشغله شيء . وقيل : { سَرِيعُ } ، أي قريب ، كأن قد جاء ، كقوله : { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } [ القمر : 1 ] ، وكقوله : { وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ٱلْحَقُّ } [ الأنبياء : 97 ] ، وكقوله : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [ النحل : 1 ] ، أي قرب . وقيل : كناية عن عذاب شديد ، أي شديد العقاب والعذاب ، [ وهو كقوله : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [ النحل : 1 ] ] وهو كقوله صلى الله عليه وسلم : " من نوقش الحساب عذب " . وقوله : { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } . قيل : إنه يحتمل وجهين : قيل : إنه أراد بالأيام المعدودات أيام النحر والذبح ، أي : اذكروا الله بالنحر والذبح في أيامكم . فهو عند أبي حنيفة ، رحمه الله تعالى ، يوم النحر ويومان بعده . وقيل : أراد بالأيام المعدودات أيام رمي الجمار ، دليله قوله تعالى : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ، وهب أيام التشريق ، وهي ثلاثة أيام بعد النحر . وروي عن علي ، رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : " الأيام المعدودات : يوم النحر ويومان بعده ، اذبح في أيها شئت ، وأفضلها أولها " . وكذلك روي عن عمر ، رضي الله تعالى عنه . والله أعلم . وقوله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } . قيل : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } ، أي : بعد يوم النحر [ بيومين ] . يقول : من نفر من منى قبل غروب الشمس في اليوم الثاني فلا إثم عليه ، ومن لم ينفر حتى غربت الشمس وأقام إلى الغد - اليوم الثالث - فيرمي الجمار ، ثم ينفر فلا إثم عليه . وقيل : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } ، من أيام التشريق فلا إثم عليه ، ومن تأخر إلى اليوم الثالث من أيام التشريق فلا إثم عليه . ثم لا يحتمل قوله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } ، أن يكون جميعاً على الرخصة ، التعجيل والتأخير جميعاً ، فلا يلحقه الإثم بكليهما ؛ لأنه إذا كان التعجل هو الرخصة فالتأخر لا يكون رخصة ، وإذا كان التأخر هو الرخصة فالتعجل ليس برخصة ، لكن الوجه فيه - والله أعلم - ما روي عن ابن عباس ، رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } غفر له ، { وَمَن تَأَخَّرَ } غفر له ما كان له من الإثم والذنب في اليوم الذي أخر . والله أعلم . ويحتمل : أنه خيره ، أي : فعل ذا أو ذا فلا إثم عليه . وعن ابن مسعود ، رضي الله تعالى عنه ، أنه قال في قوله تعالى : { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } : رجع مغفوراً له . وقوله : { لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . قيل فيه بوجوه : قيل : { لِمَنِ ٱتَّقَىٰ } ، قتل الصيد في الإحرام ، وعلى ذلك قوله : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي فلا تستحلوا قتل الصيد في الإحرام . وقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - : من اتقى معاصي الله جملة . وقيل : { لِمَنِ ٱتَّقَىٰ } جميع ما يحرم عليه الإحرام من الرفث ، والفسوق ، والجدال وغيره ، وعلى ذلك قوله : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ، خوفهم عز وجل ليتقوا الله في كل وقت كل معصية . خرج الخطاب في الظاهر للمؤمنين ، ويحتمل أن يكون للكفار أيضاً ، يأمرهم أن يتقوا الشرك وإشراك غيره في أفعالهم ، لما أوعدهم بالحشر والجزاء لأعمالهم .