Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 213-215)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } ، قال أبو موسى الأشعري ، رضي الله تعالى عنه ، وآخر معه من الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، قالا : { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً } ، كلهم كفار إلى أن بعث الله عز وجل فيهم النبيين . وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنه - : { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً } ، مؤمنين كلهم زمن نوح ، عليه السلام ، الذين كانوا في السفينة إلى أن اختلفوا من بعد ، فعبث الله فيهم النبيين . وقال بعضهم : { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً } ، مؤمنين كلهم زمن آدم ، عليه الصلاة والسلام ، إلى أن أنزل الله الكتاب عليهم وبعث فيهم الرسل . ولو قيل بغير هذا كان أقرب . قوله : { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً } ، يعني صنفاً واحداً . ومعنى الأمة معنى الصنف ، كقوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأنعام : 38 ] ، يعني : أصنافا . ثم خص الله تعالى صنفاً ببعث الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم من بين غيرها من الأصناف تفضيلاً لهم وإكراماً ، وبعث كل رسول إلى قومه فيهم كفار وفيهم مؤمنون ؛ لأن الأرض لا تخلو من ولي أو نبي ، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ } [ الإسراء : 70 ] ، ليعلموا أن سائر أصناف الخلق خلقوا لهم ولحاجتهم . وهو قول الحسن . وكذلك قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : أن الأرض لا تخلو عن نبي أو ولي . والله أعلم . وقوله : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ } ، لمن أطاعه ، { وَمُنذِرِينَ } ، لمن عصاه . وجائز أن تكون البشارة والنذارة جملة عن الوقوع بما به يقعان مختلف ؛ كقوله تعالى : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } [ يس : 11 ] ، وقوله : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] . وقوله : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } . يحتمل قوله : { لِيَحْكُمَ } ، وجهين . يحتمل : { لِيَحْكُمَ } ، الكتاب المنزل عليهم بالحق فيما بينهم ، وهو كقوله تعالى : { وَهَـٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ } [ الأحقاف : 12 ] . وقرأ بعضهم : { لِيَحْكُمَ } ، بالياء ، وقرأ آخرون : " لتحكم " ، بالتاء . فمن قرأ بالياء جعل الكتاب هو المنذر . ومن قرأ بالتاء صير الرسول هو المنذر ؛ فكذلك في هذا : ليحكم الكتاب بينهم بالحق ، وليحكم الرسول بالكتاب فيما بينهم بالحق . وقوله : { فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } . يحتمل قوله : { فِيهِ } وجوهاً : يحتمل : { فِيهِ } ، في محمد صلى الله عليه وسلم . ويحتمل : { فِيهِ } ، في دينه . ويحتمل : { فِيهِ } ، في كتابه . وقوله : { وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } . أي : ما اختلفوا فيه إلا من بعد ما جاءتهم البينات والعلم ، إما من جهة العقل ، وإما من جهة السمع والكتب والخبر ، وإما من جهة المعاينة والمشاهدة لكنهم تعاندوا وكابروا وكفروا به بغياً . وقوله : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } . قيل : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } ، أي : حسداً بينهم . وقيل : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } ، ظلماً منهم ، ظلموا محمداً صلى الله عليه وسلم . وقوله : { فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِ } . تأويله - والله أعلم - أي هدى الله الذين آمنوا ، ولم يختلفوا من بين الذين اختلفوا . ويحتمل : هدى الله من أنصف ولم يعاند ، ولم يهد الذين عاندوا ولم ينصفوا . وقوله : { بِإِذْنِهِ } ، قيل : بأمره ، وقيل : بفضله . لكن قوله : { بِإِذْنِهِ } ، بأمره ، لا يحتمل ، ولكن { بِإِذْنِهِ } ، أي : بمشيئته وإرادته . وقوله : { وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } . فيه دلالة أنه من شاء أن يهتدي فاهتدى ، ومن لم يشأ أن يهتدي لم يهتد ؛ لأنه لو كان شاء أن يهتدوا جميعاً [ أنه من شاء أن يهتدوا جميعاً ] ، على ما يقوله المعتزلة ، لكان يقول : والله يهدي إلى صراط مستقيم ، ولم يقل : { مَن يَشَآءُ } ، [ فدل قوله : { مَن يَشَآءُ } ] على أنه شاء إيمان من آمن ، ولم يشأ إيمان من لم يؤمن ، فالآية تنقض على المعتزلة قولهم : إنه شاء أن يؤمنوا ، لكن آمن بعضهم ولم يؤمن البعض . وفي قوله : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ } ، دلالة على ألا يفهم من البعث والإتيان والمجيء الانتقال من مكان إلى مكان ، ولا الزوال من موضع إلى موضع ؛ لأنه ذكر البعث ، وهم كانوا بين ظهرانيهم ، فدل أنه يراد الوجود ، لا غير . وقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } . قيل : معنى قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ } ، على إسقاط " الميم " . وقيل : { أَمْ حَسِبْتُمْ } ، بمعنى : " بل حسبتم " . وقوله : { وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } . قيل : شبه الذين خلوا من قبلكم . وقيل : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ } ، خبر الذين خلوا من قبلكم ، وقيل : سنن الذين خلوا من قبلكم من البلاء والمحن التي أصابت الماضين من المؤمنين . وقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ … } الآية ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة قبل أن تبتلوا كما ابتلي من قبلكم ، أي : لا تظنوا ذلك عمله ، وإن كان فيهم من قد يدخل - والله أعلم - كقوله تعالى : { الۤـمۤ * أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ العنكبوت : 1 - 4 ] . وقيل : إن القصة فيه أن المنافقين قالوا للمؤمنين : لم تقتلون أنفسكم وتهلكون أموالكم ؛ فإنه لو كان محمد نبيّاً لم يسلط عليه ؟ فقال المؤمنون لهم : إن من قتل منا دخل الجنة ، فقالوا : لم تمنَّوْن الباطل والبلايا ؟ فأنزل الله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } ، من غير أن تبتلوا وتصيبكم الشدائد ، { وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ } . وقوله : { وَزُلْزِلُواْ } . قيل : حركوا . وقيل : جهدوا . وقوله : { حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } . قيل فيه بوجهين : قيل : يقول الرسول والمؤمنون جميعاً : { مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } ، ثم يقول الله لهم : { أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } . وقيل : يقول المؤمنون { مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } ثم يقول الرسول : ألا إن نصر الله قريب ويحتمل هذا في كل رسول بعثه الله تعالى إلى أمته يقول هذا ، وأمته يقولون أيضاً . ويحتمل : إن كان هذا في رسول دون رسول ، على ما قاله بعض أهل التأويل : أنه فلان . وليس لنا إلى معرفة ذلك سبيل إلا من جهة السمع ، ولا حاجة إلى معرفته . [ وفي قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم … } الآية ] . وفي قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } [ التوبة : 16 ] . وفي قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] ، وجه آخر ، وهو أنهم - والله أعلم - ظنوا لما أتوا بالإيمان أن يدخلوا الجنة ، ولا يبتلون بشيء من المحن الفتن ، وأنواع الشدائد ، فأخبر الله عز وجل أن في الإيمان المحن والشدائد لا بد منها ، كقوله عليه السلام : " حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات " والله أعلم . وكقوله : { الۤـمۤ * أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 1 - 2 ] ، ولأن الإيمان من حيث نفسه ليس بشديد ؛ لأنه معرفة حق وقول صدق ، ولا فرق بين قول الصدق وقول الكذب ، ومعرفة الحق ومعرفة الباطل في احتمال المؤن ، والإيمان : مخالفة الهوى والطبع ، وذلك في أنواع المحن . والله أعلم . وقوله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } . فظاهر هذا السؤال لم يخرج له الجواب ؛ لأن السؤال " عما ينفق " ، فخرج الجواب " على من ينفق " ، غير أنه يحتمل أن يكون ( ماذا ) بمعنى ( من ) ، وذلك مستعمل في اللغة ، غير ممتنع . ويحتمل : أن يكونوا سألوا سؤالين : أحدهما : عما ينفق ؟ والثاني : على من ينفق ؟ فخرج لأحدهما الجواب على ما كان من السؤال : " على من ينفق " ، ولم يخرج جواب ما كان من السؤال : " عما ينفق " . وهذا أيضاً جائز ، كثير في القرآن : أن يكثر الأسئلة ، ويخرج الجواب لبعض ولم يخرج لبعض ، ويكون جواب سؤال : " مم ينفق " في قوله تعالى : { قُلِ ٱلْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] ، فيكون على ما ذكر . والله أعلم . ويدل لما قلنا ، أنه كان ثم سؤلان ، أن أحدهما : " عما ينفق " والآخر : " على من ينفق " ، ما روي عن عمرو بن الجموح الأنصاري ، رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : يا رسول الله ، كم ننفق ؟ وعلى من ننفق ؟ فأنزل الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ … } الآية . ثم اختلف فى هذه النفقة . قال بعضهم : هذه النفقة كانت تطوعاً ، فنسخت بالزكاة . وقيل : هذه النفقة صدقة يتصدقون بها على الوالدين والأقرين الذين يرثون ، فنسختها آية المواريث . وقيل : فيه الأمر بالإنفاق على الوالدين والأقربين عند الحاجة ، وكان هذا أقرب ، والله أعلم . وفيه دلالة لزوم نفقة الوالدين والمحارم .