Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 30-37)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ } قوله : { ذٰلِكَ } جائز أن يكون الذي تقدم ذكره من قوله : { يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ * لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ … } إلى آخر ما ذكر ذلك الذي ذكر : { وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ } . وجائز أن يكون لا على ذلك ، ولكن حرف يذكر عند ختم قصّة والفراغ منها مبتدأ ، لا على ربط شيء ، نحو قوله : { هَـٰذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ … } [ ص : 49 ] كذا { وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ … } [ ص : 55 ] كذا ، قوله : { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ } { وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } يصح دون ذكر هذا ، لكنه ذكر على ختم كلام الأوّل وابتداء آخر ، فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : { ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ } كذلك . وقوله : { ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } كأنّه قال : ومن يعظم حرمات الله ، وخرج للحج ، وأنفق المال ، وأتعب النفس فما له عند ربّه من الثواب ، فذلك خير له من حفظ ماله وحفظ نفسه ، وإلا لا شك أن من عظم حرمات الله خير له ممن لم يعظمها . وقوله - عز وجل - : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ } ، وفي حرف ابن مسعود : ( وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) من المحرمات من الميتة والدم ، وما ذكر في سورة المائدة ، وقد ذكرنا هذا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } جائز أن يكون قوله : { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ } وهم الأوثان . وجائز أن يكون قوله : { فَٱجْتَنِبُواْ } عبادة الأوثان فإنه رجس ، وليس فيه أن غير الأوثان ليس برجس ، كقوله : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [ الإسراء : 31 ] ليس فيه أن يحل قتل الأولاد في غير خشية الإملاق ، فعلى ذلك هذا . وقوله : { وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } يحتمل كل قول زور . ويحتمل الزور الذي قالوا في الله من الولد والشريك وما لا يليق به . { وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ * حُنَفَآءَ للَّهِ } تأويله - والله أعلم - : واجتنبوا قول الزور ، وكونوا حنفاء لله غير مشركين به . وقوله : { حُنَفَآءَ } قد ذكرناه . وجائز أن يكون قوله : { غَيْرَ مُشْرِكِينَ } تفسير قوله : { حُنَفَآءَ للَّهِ } أي : كونوا مخلصين لله في جميع أموركم ، غير مشركين به في ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } يحتمل ضرب مثل من أشرك بالله بالسّاقط من السماء واختطاف الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق - وجوهاً : أحدها : ما وصف وضرب مثله بشيء لا قرار له ولا ثبات ، نحو ما قال : { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } [ إبراهيم : 26 ] ، ونحو ما قال : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً … } الآية [ النور : 39 ] ، ضرب مثل الكفر بشيء لا قرار له ولا ثبات ، فعلى ذلك مثله بالساقط من السماء تخطفه الطير أو تهوي به الريح ، لا يدري أين هو ؟ ولا أين يطلب إن أرادوا طلبه ؟ ولا يظفر به ، فعلى ذلك الكافر . والثاني : ضرب مثله بالسّاقط من السماء ، وهي أبعد البقاع في الأوهام ، لا ينتفع بمن سقط منها ولا بشيء من نفسه ، ولا تبقى نفسه ؛ فعلى ذلك الكافر لا ينتفع بشيء من محاسنه ، ولا تبقى نفسه ينتفع بها لبعده عن دين الله . والثالث : [ الساقط ] من السماء أثر سقوطه منها في نفسه وفي جميع جوارحه ، وظهر ذلك كله فيه حتى لا يرجى برؤه وصحّته ، فعلى ذلك الكافر يظهر آثار الكفر في نفسه وجوارحه ؛ لبعده عن دين الله ، والله أعلم . وقال بعضهم : هذا مثل ضربه الله لمن أشرك به في هلاكه وبعده من الهدى ، والسحيق : البعيد ، وهو قريب مما ذكرنا . وقوله : { ذٰلِكَ } هو ما ذكرنا في قوله : { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } [ ص : 55 ] ، { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } [ ص : 49 ] . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } تأويله - والله أعلم - أي : ومن يعظم شعائر الله بالجوارح ، فذلك التعظيم من تقوى القلوب ، وهكذا الأمر الظاهر في الناس : أنه إذا كان في القلب شيء من تقوى أو خير ، ظهر ذلك في الجوارح ، وكذلك الشر أيضاً إذا كان في القلب ظهر في الجوارح . وقوله : { حُرُمَاتِ ٱللَّهِ } و { شَعَائِرَ ٱللَّهِ } قال بعضهم : هما واحد ، وهي المناسك . وقال بعضهم : الحرمات هي جميع محارم الله ومعاصيه يتقيها ؛ تعظيما لها ، وقد ذكرنا تأويل { شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } في سورة [ المائدة : 2 ] ، والسحيق : هو المكان البعيد ، يقال : سحق المكان يسحق سحقا فهو سحيق : إذا بعد ، والسحق أيضاً : الشيء الخلق ، يقال : أسحق الثوب ، وسحق يسحق سحقاً ، وأسحق يسحق ، والسحوق : النخلة الطويلة . وقوله : { أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ } أي : تذهب به ، يقال : هوى يهوي هواء ، أي : ذهب بنفسه . وقوله : { لَكُمْ فِيهَا } أي : فيما ذكر من الشعائر { مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } قال بعضهم : لكم فيها منافع من ظهورها وألبانها وأصوافها { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } ، أي : إلى أن تقلد وتهدى ، { ثُمَّ مَحِلُّهَآ } إذا قلدت وأهديت { إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } . وكذلك يقول أصحابنا : إن من أوجب بدنة أو أهدى بدنة ، لا يحل له الانتفاع بها ولا بشيء منها إلا في حال الاضطرار ، فإذا بلغت محلها ، وذبحت ، حل الانتفاع بلحمها . ومنهم من قال في قوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } : إلى وقت محلها من الرّكوب بظهرها ، وحلب اللبن ، وجزّ الصّوف ، وغير ذلك مما كانوا ينتفعون بها من قبل ، ويَرْوي في ذلك خبراً : " رُوي أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا ساق بدنة ، فقال : " اركبها " فقال : إنها بدنة فقال : " اركبها " فقال : إنها بدنة يا رسول الله ، قال : " اركبها ويلك " ، وبه يقول بعض الناس ، يبيحون الانتفاع بالهدايا والقلائد قبل أن تنحر وتذبح ، لكن عندنا ذلك في وقت الحاجة الشديدة المضطر إليها ، ففي مثل ذلك يجوز الانتفاع بملك غير ببدل ، فعلى ذلك بالهدايا ينتفع بها بما ذكرنا ويضمن ما نقصها ركوبه لها . وجائز أن يكون قوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى أن تهلك أو تهلكون أنتم ، كقوله : { وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } [ البقرة : 36 ] أي : إلى وقت هلاكها ، فعلى ذلك الأول . ثم يكون قوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } - والله أعلم - ابتداء سؤال سئل عن محل الهدايا والقلائد ، فقال عند ذلك : { مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } ، والله أعلم . والأول أشبه وأقرب لما ذكرنا . وقوله : { إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } ذكر البيت العتيق ، ومعلوم : أنه لم يرد به نفس البيت ، ولكن إنما أراد به البقعة التي فيها البيت ؛ لأن الدماء لا تراق في البيت إنما تراق في تلك البقعة التي هو فيها ، الحرم كله منحر ومذبح ، وأراد بقوله : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } [ الحج : 29 ] نفس البيت ؛ ألا ترى أنه قال هاهنا : { بِٱلْبَيْتِ } ، فإنما يطاف به ، وقال هنالك : { إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ } ، أضاف إليه ؛ دل أنه لم يرد به نفس البيت ، ولكن البقعة التي فيها البيت ، والله أعلم . وقوله : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } قال بعضهم : المنسك : الموضع الذي يعبدون وينسكون فيه ويصيرون إليه لعبادتهم ، ومن ثمة يقال للرجل العابد : ناسك ؛ ولذلك قال من قال : { مَنسَكاً } ، أي : يصيرون ويخرجون إليه للعبادة ، وقال : المنسك : الدّين ، وقال : الشريعة . وقال بعضهم : المنسك : المنحر والمذبح . وجائز أن يسمّى في اللغة الذبح : نسكاً ، كقوله : { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [ البقرة : 196 ] وهو الذبح ، وقوله : { إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } [ الأنعام : 162 ] ، ولو كان النسك عبادة كذكر الصلاة وهي عبادة لكان لا يذكر النسك ، فدل أنه أراد بالنسك الذبح . وقوله : { لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } ، دل قوله : { لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ } أن ذكر اسم الله من شرط الذبيحة ، حيث ذكر اسم الله ولم يذكر الذبح ، ففهموا من ذكر اسم الله الذبح ؛ دل أنه من شرط جوازه وحله ، سوى الشافعي فإن لم يفهم ما فهم الناس والأمم جميعاً ، حيث لم يجعل ذكر اسم الله من شرط الذبيحة . وقوله : { فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } كأنه ذكر قوله : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } لقوم أنكروا الذبائح ، فقال : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } ، أي : ذبحا ذبحوه ، وذكروا اسم معبودهم عليه ، ثم أخبر أن معبودهم واحد { فَلَهُ أَسْلِمُواْ } ، أي : أخلصوا ذلك كله ، { وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ } قال : المتواضعين . وقال بعضهم : المطمئنين . وقال بعضهم الخاشعين . وقال بعضهم : كل مجتهد في العبادة هو المخبت . ويقال : المخلصين . وتفسير المخبت : ما ذكر على إثره ، حيث قال : { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ … } الآية . ومن قال : المخبت : المطمئن ، قال : والخبتة : الطمأنينة . قوله : { مَنسَكاً } و ( منسِكا ) ، فيه لغتان : قال الكسائي : من قرأ : ( مَنِسكاً ) بكسر السين فهو من نَسَك يَنْسِك ، ومن قرأ : { مَنسَكاً } بالنصب فهو من نَسَكَ يَنْسَكُ ، ثم لا خلاف بين أهل العلم في أن البدن التي تساق والهدايا التي تقلد في الحج والعمرة لا يجوز أن تنحر في غير الحرم ، إنما اختلفوا في المحصر إذا أراد أن يحل أين ينحر ويذبح هديه الذي يحل به ؟ وقد ذكرنا أقاويلهم واختلافهم في سورة البقرة . ولم يختلف في أن معنى قول الله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } يدخل فيه الحرم كله على ما ذكرنا ، وعلى [ ذلك ] رويت الأخبار : روي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرفة كلها موقف ، ومنى كلها منحر ، وكل فجاج مكة طريقٌ ومنحر " ، وعن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل عرفة موقف ، وكل منى منحر " ، وفي بعض الأخبار : " في كل أيام التشريق ذبح " ، وعن علي - رضي الله عنه - " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الجمرة ، فرمى بها ، ثم أتى المنحر فقال : " هذا المنحر ، ومني كلها منحر " ، وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : " إنما المنحر بمكة ، ولكنها نزهت عن الدماء ، ومني مكة " . وقوله : { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : خافت وفرقت ؛ خوفاً منه { وَٱلصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ } من المصائب والرزايا { وَٱلْمُقِيمِي ٱلصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } هذه الآية قد ذكرنا تأويلها في سورة الأنفال . وقوله : { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } قال بعضهم : من فرائض الله . وقال الحسن : من دين الله . والأشبه أن يكون قوله : { مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } ، أي : من معالم دين الله وعبادته ونسكه ؛ لأن الشعائر هي المعالم في اللغة ، خصّت بها المناسك دون غيرها من العبادات فجعلها معالم لها ، والبدنة سميّت : بدنة ؛ لما تعظم في أنفسها وتبدن ، ويقال للرجل إذا عظم في نفسه : بدن فلان . وظاهر ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " البدنة تجزئ عن سبعة ، والبقرة تجزئ عن سبعة " أن البدنة هي الجزور والإبل ؛ حيث قال : " البدنة تجزئ عن سبعة ، والبقرة تجزئ عن سبعة " فرق بين البدنة والبقرة بالذكر ، والله أعلم . وقوله : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } قال بعضهم : المنافع الحاضرة من الركوب ، والحلب ، والحمل عليها بعد ما قلدت وأوجبت هدياً . وقال بعضهم : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } إلى أن تقلد ، فإذا قلدت فلهم الأجر في الآخرة ، وكأن هذا أشبه ، أي : يكون قوله : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } أي : الأجر في الآخرة ؛ لأن الانتفاع بها لا يحل إذا أوجبت بدنة إلا في حال الاضطرار ؛ لأنّه قال في آية أخرى : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } [ المائدة : 2 ] وفي الانتفاع بها إحلال شعائره ؛ لذلك قال أصحابنا : لا ينتفع بالبدن ، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم " أنه رأى رجلاً يسوق بدنة ، فقال له : " اركبها " فقال : إنها بدنة يا رسول الله ، فقال النبي : " اركبها " ، فقال : إنها بدنة . فقال : " اركبها ويحك " ، وفي بعض الأخبار : " ويلك " ؛ فهذا عندنا لما رأى بالرجل الحاجة الشديدة إلى ركوبها ، وهو ما ذكرنا : أن الانتفاع بها يجوز في حال الاضطرار ، ولا يجوز في حال الاختيار ؛ إذ الانتفاع بالمحرمات يجوز في حال الاضطرار ، فعلى ذلك بالبدن التي جعلت معالم للمناسك ، والله أعلم . وقوله : { فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ } دل هذا أن ذكر اسم الله من شرط الذبيحة ؛ لأنه لم يذكر الذبح بنفسه ، ولكن إنما ذكر : ذكر اسمه ، فلولا أنهم فهموا من ذكر اسم الله عليها ذبحها ونحرها ، وإلا لم يكتف بذكر اسمه دون ذكر الذبح ؛ فدل أنهم إنما عرفوا ذلك به ، وأنه من شرط جوازها ، والله أعلم . وقوله : { صَوَآفَّ } ، فيه لغات ثلاث : إحداها : ( صوافي ) : أي بالياء ، وهو من الإخلاص لله ، والصفو له . والثانية : ( صوافن ) بالنون ، وهو من عقل ثلاث قوائم منها ، وترك أخرى مطلقة . والثالثة : ( صوافٍ ) بالتنوين ، أي : قياما مصطفة . وكأن جميع ما ذكر يراد أن يجمع فيها من الإخلاص له وعقل القوائم ، والقيام ، وكذلك جاءت السنة والآثار . وفي حرف ابن مسعود : ( صوافن ) ، بالنون ، وتأويله ما ذكرنا . وظاهر الآية يدل على القيام ؛ لأنّه قال : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } ، وقوله : { وَجَبَتْ } ، أي : سقطت ، والسقوط إنما يكون من القيام ، فدل أنها تنحر قياماً لا مضطجعة ، والله أعلم . وقوله : { فَكُلُواْ مِنْهَا } قد ذكرنا هذا فيما تقدم في قوله : { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ } و { ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ } : من سألك ؛ هذا قول بعض . وقال بعضهم : { ٱلْبَآئِسَ } : المعروف بالبؤس ، و { ٱلْفَقِيرَ } : المتعفف الذي لا يسأل . وقال بعضهم : { ٱلْبَآئِسَ } : المسكين ، و { ٱلْفَقِيرَ } : فقير . قال بعضهم : { ٱلْبَآئِسَ } : الضرير . و { ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ } : قال بعضهم : { ٱلْقَانِعَ } : هو الراضي ، وهو من القناعة . وقال بعضهم : هو السائل ، وهو من القنوع ، { وَٱلْمُعْتَرَّ } : الذي يعتريك ولا يسأل ، و { ٱلْقَانِعَ } : هو الجالس في بيته ، ونحوه . وقال القتبي : { ٱلْقَانِعَ } : السائل ، يقال : قنع يقنع قنوعاً ، ومن الرضا : قنع يقنع قناعة ، { وَٱلْمُعْتَرَّ } : الذي يعتريك ولا يسأل ، يقال : اعتراني : وعدني ، واعتراني . وقال أبو عوسجة : { ٱلْقَانِعَ } : السائل ، والقنوع : السؤال ، والقناعة من الرضا ، يقال منه : قنع يقنع قناعة ، ويقول : قنعته ، أي : أرضيته ، وقنعته ، أي : غطيت رأسه بالقناع ونحوه ، ويقال من المعتر : اعتر اعترارا واعترى وعرا يعر ، وكلها واحد . وقال : { صَوَآفَّ } ، أي : قياما مصطفة ، وقال : ويكون ( صوافن ) ، أي : قائماً على ثلاث قوائم . يقال : صفن الفرس يصفن صفونا : إذا قام على ثلاث قوائم . وقوله : { وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } ، أي : سقطت إلى الأرض ، يقال : وجب يجب وجوبا ، فهو واجب : إذا سقط ، ووجبت الشمس : إذا غابت ، قال : وهذا كله من الصوت ، يقال : سمعت وجبة ، أي : صوتاً ، وقال : { مَنسَكاً } ، أي : موضعا ينسكون إليه للعبادة . وعن ابن عباس قال : { ٱلْقَانِعَ } : الذي يقنع بما أعطيته ، { وَٱلْمُعْتَرَّ } : الذي يريك نفسه ولا يسأل . وقوله : { كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ } أي : البدن التي ذكرناها . ثم يحتمل ما ذكر من تسخيره إياها لنا وجهين : أحدهما : { كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا } أي : كما سخرناها لكم لركوبها والحمل عليها وأنواع الانتفاع بها في حال الحياة ، كذلك سخرناها لكم ، أي : مثل الذي وصفته لكم ، كل ذلك من تسخيرها إياها لكم ، والله أعلم . وقوله : { لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ } هذا يحتمل وجهين : أحدهما : لن يقبل الله ذلك إلا ممن كان من أهل التقوى ، لا يقبلها من أهل الكفر ؛ لأنهم قد كانوا ينحرون البدن في الجاهلية ، على ما ذكرنا ، فأخبر أنه لا يقبل ذلك إلا ممن كان من أهل التقوى ، وهو كقوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } [ المائدة : 27 ] . والثاني : أن يكون قوله : { لَن يَنَالَ ٱللَّهَ } أي : لن يرفع إلى الله إلا الأعمال الصالحة الزاكية وما كان بالتقوى ، وأما ما كان غيرها فإنه لا يرفع ولا يصعد بها ، وهو ما قال : { وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ } . وقال بعض أهل التأويل : ذكر هذا ؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن نضحوا بدمائها حول البيت ، ويقولون : هذا قربة إلى الله ، فأراد المسلمون أن يفعلوا مثل صنيعهم ، فنزل : { لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْمِنكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ } قد ذكرنا ما ذكرنا . وقوله : { لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } أي : لتصفوا الله بالعظمة والكبرياء على ما هداكم من أسباب تسخير البدن التي بها يوصل إلى الانتفاع بها من أنواع الانتفاع ؛ إذ لولا ما هدانا الله وعلمنا من الأسباب التي بها تسخر وتذلل وإلا ما قدرنا على الانتفاع بها ؛ لقوتها ولشدّتها وصلابتها . والثاني : بأن يكون قوله : { عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } من أمر الدّين والهدي . وقوله : { وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ } يخرج قوله : { ٱلْمُحْسِنِينَ } على وجوه : أحدها : محسنين إلى أنفسهم ، أو المحسنين إلى إخوانهم ، أو الذين حسنت أفعالهم ، وصلح عملهم ، فأما المحسنين إلى الله فلا يحتمل ، والله أعلم .