Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 63-77)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } وصف - عز وجل - هؤلاء الصفوة والأخلاص من عباده أنهم يمشون على الأرض هونا - إلى آخر ما ذكر ، وإلا كانوا كلهم عباد الرحمن . وصف أهل الصفوة منهم والإخلاص والتقى . وقوله : { يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } : قال بعضهم : حلماء أنقياء بغير مرح ولا بطر . وقال بعضهم : { هَوْناً } أي : متواضعين ، لا خيلاء ، ولا كبرياء ، ولا مرحاً . وعن الحسن قال : هم المؤمنون قوم ذلل ، ذلت - والله الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى ، والله ما بالقوم من مرض ، وإنهم لأصحة القلوب ، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم . وفي بعض الأخبار مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المؤمنون هينون لينون كالجمل الدنف ؛ إن قيد انقاد ، وإن أنيخ على صخرة استناخ " . وأصله : أنهم يمشون هوناً من غير أن يتأذى بهم أحد ، أو يُلْحِقَ بأحد منهم ضرر ، والله أعلم . وقوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } : قال بعضهم : إذا خاطبهم الجاهلون ، وشافههم السفهاء ، لا يجاهلون أهل الجهل والسفه ، ولكن قالوا : السلام عليكم . وقال بعضهم : وإذا سمعوا الشتم والأذى قالوا : سلاماً ، أي سداداً وصواباً من القول ، وردّاً مصروفاً أعرضوا عن سفههم وجهلهم بهم ، ولم يكافئوهم ؛ كقوله : { وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ … } الآية [ القصص : 55 ] ، يخبر - عز وجل - عن صحبتهم أهل السفة والجهل وحسن معاشرتهم إياهم ، ورفقهم ، فكيف يعاملون أهل الخير والعقل منهم ويصاحبون ، فهذه معاملتهم الخلائق على الوصف الذي وصفه ، ثم أخبر عن صنيعهم لله وركونهم إليه ، فقال : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } . عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحم الله الذين يبيتون الليل وأيديهم على ركبهم " ثم قال : " من صلى ركعتين بعد العشاء ، فقد بات لله تعالى ساجداً قائماً " . وقال الحسن : كانوا يبيتون لله على أقدامهم ويفترشون وجوههم سجداً لربهم تجيء دموعهم على خدودهم ، فرقا من ربهم ، وقال : لأمر ما سهر ليلهم ، ولأمر ما خشع له نهارهم . وقوله : { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ } يحتمل أن يكون هذا إخباراً من الله تعالى عما في ضميرهم ، ليس على حقيقة القول والدعاء ؛ لأن من بلغ في العبادة والورع المبلغ الذي وصفهم لا يشغلون أنفسهم بالسؤال عن دفع المضار أو جر النفع . ويحتمل : على الدعاء والقول على ما أخبر ، والله أعلم . ثم أخبر عن عذابها فقال : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } . قال الحسن : الغرام : اللازم الذي لا يفارق صاحبه ، وكل غريم يفارق غريمه غير عذاب جهنم . وقال بعضهم : الغرام : الهلاك وقال : { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أي : جهنم بئس المستقر وبئس المقام لأهلها ، هو مقابل ما ذكر لأهل الطاعة الجنة حيث قال : { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } . وقال بعضهم : غراما : غرموا في الآخرة ما نعموا في الدنيا . وفي حرف ابن مسعود : كان غراما إنما أنبئنا { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } . وقال أبو عوسجة : { هَوْناً } من الرفق يقال : هان يهون هوناً ، فهو هائن . وقولهم : ( وإذا عز أخوك فهن ) أي : إذا اشتد ، فارفق به . والغرام : الهلاك . وكذلك قال القتبي : غراما ، أي : هلكة . وقال : مشياً هوناً : رويداً ، سلاماً ، أي : سداداً من القول لا رفث فيه ولا هجر . وقوله : { إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } . قال بعضهم : لم يسرفوا في غير حق ، كسبوا طيبا وأنفقوا قصداً وأعطوا فضلا وجادوا ، واستبشروا { وَلَمْ يَقْتُرُواْ } أي : ولم يتمسكوا عن الحق . وقوله : { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } أي : بين الإسراف والتقتير مقصداً ؛ وهو تأويل مقاتل . وقال بعضهم : الإسراف هو الإنفاق في معصية الله ، { وَلَمْ يَقْتُرُواْ } أي : لم يمنعوا عن طاعته ، { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } أي : عدلا ، لا يمسك عن حق ولا ينفق في باطل ، ولكن نفقة في طاعة الله . وقال بعضهم : الإسراف في النفقة : هو الإنفاق فيما لا ينتفع به ؛ من نحو : البحيرة والسائبة والوصيلة التي كانوا يتركونها سدى ولا ينتفعون بها . والإقتار : هو الإمساك عن الإنفاق فيما ينتفع به . وقال بعضهم : الإسراف : هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له في الإنفاق : في الإكثار ، والإقتار : هو المنع عن الحد الذي جعل له . { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } أي : وسطا ؛ كقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] ولكن بين ذلك . وأصل { لَمْ يُسْرِفُواْ } ، أي : لم ينفقوا ولم يضعوا إلا فيما أمروا أن يضعوا فيه . { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } أي : قائماً في ذلك ، أخبر أن ما يفعلونه لا يفعلونه إلا بأمر ، وأخبر أنهم لا يدعون مع الله إلها آخر . ثم يحتمل هذا وجهين : { لاَ يَدْعُونَ } أي : لا يعبدون دون الله غيره ، أو : لا يسمون غير الله . { وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ } : أخبر في الآية الأولى في قوله : { يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } عن معاملتهم الخلق ، وصنيعهم بينهم وبين العباد ؛ حيث أخبر أنهم يمشون هوناً ولا يؤذون أحداً ولا يضرونه ، وإذا أذاهم أهل الجهل والسفه لم يكافئوهم لأذاهم ، ولكن احتملوا ذلك عنهم وتجاوزوا ، وقالوا لهم قولا سديداً ، ؛ هذه معاملتهم فيما بينهم وبين الخلق بالنهار ، وأخبر عن معاملتهم ودعائهم ربهم بالليل حيث قال : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ } الآية . ثم أخبر عن صنيعهم في أموالهم التي في أيديهم أنهم لا يضعونها إلا فيما أمروا بالوضع فيها . وأخبر عن صفتهم وإخلاصهم لله في العبادة وكفهم عن محارم الله حيث قال : { إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } ، وقوله : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ } ، وقوله : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } موصول بهذا أيضاً ، ومقدم عن قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } ؛ كأنه قال : ولا يزنون ولا يشهدون الزور ، ومن يفعل ذلك - أي : ما ذكر من قتل النفس المحرمة ، والزنا ، وشهادة الزور ، والشرك - يلق أثاماً . قال بعضهم : أثاماً : أي : وادياً في جهنم . وقال بعضهم : أثاماً : عذاباً في النار . وقوله : { لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } : قال بعضهم : لا يشهدون مكان الزور ، وهو الغناء ، أي : لا يشهدون المكان الذي يتغنى فيه . وقال بعضهم : لا يشهدون بشهادة الزور ، وهو الكذب . وقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } : مرور الكرام ، أي : إن قدروا على تغيير ما عاينوا من اللغو والمنكر غيروه ، ومضوا على وجههم من غير أن دخل في ذلك فساد ، وإن لم يقدروا مضوا ، ولم يعبئوا به ، ولا اشتغلوا به ؛ كقوله : { وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] . وفي قوله : { وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ } دلالة نقض قول الخوارج ؛ بتكفيرهم أصحاب الكبائر ؛ لأنه أخبر أنها محرمة بعد ارتكابها الزنا والقتل كما هي قبل ارتكابها إلا بالحق ؛ حيث قال : { وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } دل أنها محرمة بعد غير كافرة . { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } : إما بحق القصاص ، وإما بحق الزنا ، وإما بحق الارتداد ؛ على ما ذكر في الخبر : " لا يحل قتل امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال : زنا بعد إحصان ، وكفر بعد إيمان ، وقتل نفس بغير حق " ولو كانت كافرة بارتكاب ما ذكر لكانت غير محرمة ؛ فدل أنه ما ذكرنا . وقال أبو عوسجة : الإسراف : الفساد ، والتقتير : التضييق ، { وَلَمْ يَقْتُرُواْ } أي : لم ينفقوا قليلا لا يكفي عيالهم . قال : والقوام : الوسط . ويقال : لا قوام لي في هذا الأمر ، أي : لا طاقة لي فيه ، ولا أقاوم هذا الأمر ، أي : لا أطيقه ، والقوام : القصد . قال أبو معاذ : في قوله : { وَلَمْ يَقْتُرُواْ } لغات أربع : { ولم يُقْتِروا } : برفع الياء وبخفض التاء غير مثقل ، و { يَقْتِروا } بنصب الياء ، وخفض التاء ، و { يَقْتُرُواْ } برفع التاء ، والمعنى كله واحد . وقوله : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } : قال بعضهم : يقول : إذا ذكروا بآيات ربهم لم يصموا عن الحق ولم يعموا ؛ قال : هم - والله أعلم - قوم عقلوا عن الله ، وانتفعوا بما سمعوا من كتاب الله . وقال الحسن : من يقرؤها بلسانه يخر عليها أصم وأعمى ؛ كأنه يخبر أن أولئك - أعني : أهل صفوة الله وإخلاصه - لم يخروا على تلك الآيات صمّاً ولا عميانا كالكفرة العندة ، ولكن خروا عليها متذكرين متفقهين متيقظين ، عالمين بما فيها ، عاملين ؛ كقوله : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ … } الآية [ الأنفال : 2 ] . وقوله : { يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } : فإن قيل : أخبر هاهنا أنه يضاعف له العذاب ، وقال في آية أخرى : { مَنْ عَمِـلَ سَـيِّئَةً فَلاَ يُجْزَىٰ إِلاَّ مِثْلَهَا } [ غافر : 40 ] ، فما معنى الضعف هاهنا ؟ قيل : يحتمل هذا وجهين : أحدهما : أنه يضاعف العذاب للذين تقدم ذكرهم إذا كفروا بالله بعدما بلغوا المبلغ الذي وصفهم والرتبة التي ذكر ، وهو قوله : { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } الآية : أن واحدا منهم إذا كفر يضاعف له العذاب ؛ يتضاعف عذابه على قدر منزلته ومرتبته عند الله ، وعلى قدر نعم الله عليه إذا كان منه عصيان وكفران لذلك ، وهو كما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ } [ الإسراء : 74 - 75 ] أي : ضعف عذاب الحياة ، وضعف عذاب الممات ، وما ذكر - أيضاً - لأزواجه حيث قال : { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] ، كل من كان أعظم قدراً وأكثر نعماً عليه ، فعقوبته إذا عصى ربه أكثر وأشد من الذي لم يبلغ ذلك ولا تلك الرتبة ، فيكون ضعف غيره وجزاء مثله . والثاني : أن يكون ذلك للأئمة - أعني : الكفرة والرؤساء - دون الأتباع ؛ لأنهم عملوا هم بأنفسهم ودعوا غيرهم إلى ذلك ؛ كقوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] . أو أن يكون ذلك لهم العناد الذي كان منهم والمكابرة . ثم استثنى من تاب منهم ، فقال : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً … } الآية ، في الذين قال : { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } ، فكان فيه دلالة قبول توبة المرتد إذا تاب ورجع إلى الإسلام ؛ حيث استثنى من تاب منهم . وقوله : { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } : هذا يحتمل وجهين : أحدهما : يوفقهم الله إذا تابوا وندموا على ما فعلوا من السيئات في الدنيا ؛ حتى يعملوا مكان كل سيئة عملوها حسنة ؛ فذلك معنى تبديل الله سيئاتهم حسنات ، أي : يوفقهم على ذلك . والثاني : يبدل الله سيئاتهم حسنات في الآخرة ؛ لما كان منهم الندامة والحسرة على كل سيئة كانت منهم في الدنيا ، وعلى ذلك روي عن أبي هريرة قال : " ليأتين أقوام يوم القيامة ودوا أنهم استكثروا من السيئات ، فقيل له : يا أبا هريرة ، ومن هم ؟ قال : هم الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات " ؛ وكأنه روي مثله عن عبد الله بن مسعود . وقوله : { وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتاباً } لا يرجع عنها أبداً ، وعلى ذلك يخرج قوله : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] على الأمر ، دليله قوله حيث قال : { خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ } الآية [ الأنفال : 66 ] . والثاني : أن يكون ذلك لقوم خاص ، علم الله أنهم إذا تابوا توبة لا يرجعون عنها أبداً ، وإلا ليس كل من تاب يكون على توبته أبداً . وقوله : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } : قد ذكرناه ، { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } : قد ذكرناه أيضاً . وقال بعضهم : إذا أوذوا صفحوا . وقال بعضهم : إنهم كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح أو غيره كنوا عنه . وقال أبو عوسجة والقتبي : { يَلْقَ أَثَاماً } أي : عقوبة ، الآثام : العقوبة . وقوله : { مَرُّوا كِراماً } أي : لم يخوضوا فيه ، وأكرموا أنفسهم عنهم . { صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي : لم يتغافلوا عنها . وقال بعضهم : إنهم إذا وعظوا بالقرآن لم يخروا عليها صما وعمياناً عند تلاوة القرآن ، فلا يسمعون ولا يبصرون ، ولكن يخرون عليها سمعاً وبصراً ؛ وهو واحد . وقوله : { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } : قد نعتهم - عز وجل - في معاملتهم أن كيف عاملوا ربهم بالليل والنهار [ و ] نعتهم أيضاً في معاملتهم عباده أن كيف عاملوا عباده ، ثم نعتهم في معاملتهم أهليهم ودعائهم لهم ، فقال : يقولون : { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } ، فهو - والله أعلم - لما أمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم النار بقوله : { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً … } الآية [ التحريم : 6 ] ؛ فعند ذلك دعوا ربهم ، وسألوه أن يهب لهم من أزواجهم وقرباتهم ما تقر به أعينهم في الدنيا والآخرة . وقال بعضهم : اجعلهم صالحين مطيعين ؛ فإن ذلك يقر أعيننا . قال الحسن : والله ما شيء أحبّ إلى العبد المسلم من أن يرى ولده أو حميمه يطيع الله ، وقال : نراهم يعملون بطاعة الله ، فتقر بذلك أعيننا ، والله أعلم . وقوله : { وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } : قال بعضهم : أي : اجعلنا أئمة هدى وتقوى يقتدى بنا . وقال بعضهم : واجعلنا بحال يقتدي بنا المتقون . وأصله - والله أعلم - أنهم سألوا ربهم أن يجعلهم بحال من اقتدى بهم صار متقياً ، لا من اقتدى صار ضالا فاسقاً ، هذا - والله أعلم - تأويله ، وإلا سؤالهم : أن اجعلنا إماماً للمتقين لا معنى له أن يطلبوا لأنفسهم الإمامة ، ولكن على الوجه الذي ذكرنا ، والله أعلم . ثم أخبر عن جزائهم في الآخرة لعملهم في الدنيا وصبرهم على ما أمروا ، فقال : { أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ } ، والغرفة : هي أعلى المنازل وأشرفها ؛ أخبر أنهم يجزون ذلك ويكونون فيها . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : { أولئك يجزون الجنة بما عملوا } ، فجائز أن يكون الغرفة المذكورة في الآية كناية عن الجنة ؛ يدل له حرف ابن مسعود . وجائز أن يراد به نفس الغرفة ؛ وهو لارتفاعها وعلوها على غيرها من المنازل ، وذلك مما يختار الكون فيها في بعض الأوقات في الدنيا ، والناس يرغبون فيها لإشرافها وارتفاعها على غيرها ؛ فرغبهم بذلك في الآخرة . وقوله : { وَيُلَقَّوْنَ } فيها بالتخفيف والتشديد ، { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً } أي : يلقاهم الملائكة بالتحية والسلام ؛ كقوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } [ الرعد : 24 ] ، وقوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ } [ الزمر : 73 ] . أو يلقى بعضهم بعضا بالتحية والسلام ، ويحيي بعضهم بعضا ، ويسلم بعضهم على بعض . وقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } : دائمين . { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } : تأويله - والله أعلم - أي : حسنت لهم الجنة مستقرا ومقاما ؛ حتى لا يملوا فيها ولا يسأموا ، ولا تأخذهم الوحشة والكآبة ؛ كنعيم الدنيا يمل ويسأم عند الكثرة وطول المقام . وقوله : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ } : قال بعضهم : { مَا يَعْبَأُ بِكُمْ } أي : ما يعتد بكم ربي لولا دعاؤه إياكم إلى التوحيد لتوحدوه وتطيعوه . وقال بعضهم : { مَا يَعْبَأُ } أي : ما يصنع بكم ربي . وتأويله - والله أعلم - أي : ما يصنع ربي بعذابكم إن شكرتم وآمنتم . وقوله : { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } : اختلف فيه ؛ قال بعضهم : هو عذاب يوم بدر - يعني : ألزم بعضهم بعضا - وكذلك قال ابن مسعود قال : " مضت آية الدخان والبطشة واللزام يوم بدر " ، وقال : لزاماً ، أي : عذاباً ملازماً غير مفارق ، وهو عذاب الآخرة . وقال أبو عوسجة : { مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } أي : ما يصنع ، يقال : عبأ يعبأ عبئا ؛ فهو عابئ إذا احتاج إليكم ، ويقال : " ما أعبأ بهذا الأمر " أي : ما أصنع به ، ويقال : عبأت بفلان ، أي : احتجت إليه ؛ وكذلك قول القتبي ، والله أعلم .