Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 76-84)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ } : كأنه قال - والله أعلم - يخوّف أهل مكة ، ويوعدهم ببغيهم على الله وعلى رسوله بعذاب ينزل بهم ؛ كما نزل بقارون ببغيه على موسى وقومه ، أي : لم تنفعه قرابته من موسى ولا صلته به ؛ لما ذكر أنه كان ابن عمه وكان ختنه : زوج أخته مريم ؛ فعلى ذلك يقول - والله أعلم - : لا تنفعكم القرابة التي بينكم وبين رسول الله ولا اتصالكم - به من عذاب الله ومقته في الدنيا ، إذا بغيتم عليه وتركتم اتباعه ؛ كما لم تنفع القرابة التي بين قارون وموسى من عذاب الله ومقته في الدنيا إذا بغى عليه ، وكما لم تنفع أبوة أبي إبراهيم لأبي إبراهيم إذا بغى عليه وترك اتباعه ، حيث تبرأ إبراهيم منه وحيث قال : { يٰأَبَتِ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } الآية [ مريم : 45 ] ، وحيث لم تنفع لامرأة نوح ولوط الزوجية التي كانت بينهما وبين نوح ولوط من نزول العذاب ومقته بهما إذا تركتا اتباعهما وبغتا عليهما ؛ فعلى ذلك يأهل مكة لا ينفعكم من عذاب الله ومقته قرابتكم برسول الله - صلوات الله عليه - ووصلتكم به ، والله أعلم . وقوله : { فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ } : اختلف أهل التأويل في بغيه عليهم : قال بعضهم : هو أن موسى طلب منه زكاة ما آتاه الله من المال ، فمنعه وأبى أن يعطيه . وقال بعضهم : بغيه عليهم هو أن أعطى امرأة جعلا لتقذفه بنفسها ، فأراد أن يفضحه على رءوس الأخيار والملأ وأن يرجموه ، فدفع الله عنه وبرأه منه . وقال بعضهم : إنما بغى عليه بكثرة ماله وولده ، هذا يشبه أن يكون كأنه افتخر بكثرة ماله في دفع عذاب الله ونقمته ؛ كقول أهل مكة : { نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً … } الآية [ سبأ : 35 ] . وقال بعضهم : بغى عليه لأن النبوة جعلت في موسى والحبورة في هارون ، ولم يجعل لقارون شيء ، فاعتزل عن موسى واتبعه ناس كثير ، فاعتدى عليه ونحو هذا كثير مما قالوه . والأشبه أن يكون بغيه الذي ذكر عليه كبغي فرعون وهامان عليه ؛ حيث قال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَـذَّابٌ } [ غافر : 23 - 24 ] ؛ وكقوله : { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ … } الآية [ العنكبوت : 39 ] ، فكان منه ما كان من فرعون وهامان من التكذيب والرد لرسالته ، وتسميته : ساحراً كذاباً ، فذلك هو البغي عليه . أو لا يفسر البغي عليه ؛ لأنه ذكر البغي ولم يبين ما ذلك البغي ، والله أعلم بذلك . وقال قائلون : بغيه عليه : هو أن زاد في ثيابهم شبرا ، فذلك أيضاً لا نعلمه فهو مثل الأول . وقوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ } : قال بعضهم : مفاتحه : خزائنه . وقال بعضهم : جمع مفتاح وهو في الأصل مفاتيح . وذكر أن كنوزه كانت كذا كذا ألفاً ، وأن مفاتيحه كان يحملها كذا كذا بغلا ، وأنها من جلود كذا أو من كذا قدر كذا ، فذلك أيضاً لا نعلمه ولا نفسره ولا نذكره إلا قدر ما ذكر في الكتاب ؛ إذ ذكر في الكتاب الكنوز والمفاتح ، وذكر أن العصبة تنوء بها وذلك للكثرة ما ذكر ، ولكن لا نعلم قدره وعدده ما هو ؟ ولا كم هو ؟ وكذلك العصبة أيضاً لا نعلمه كم عدده ؟ إلا أن أهل التأويل يقول بعضهم : من عشرة إلى أربعين ، ويقول بعضهم : من عشرة إلى خمس وسبعين ، وبعضهم : من عشرة إلى خمس عشرة ونحوه ، لا نفسره ولا نذكر عدده سوى أنه اسم جماعة يتعصب بعضهم بعضاً يرجعون جميعاً إلى أمر واحد ، وكذلك الشيعة هي جماعة يتشيع بعضهم بعضاً ويتبع بعضهم بعضاً ؛ ولذلك قال إخوة يوسف لأبيهم : { لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [ يوسف : 14 ] أي : يتعصب بعضنا بعضاً لا ندعه يأكله ، ولئن لم نفعل ولم نحفظه { إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } [ يوسف : 14 ] . وقوله : { لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ } : اختلف فيه : قال بعضهم : لتثقل بالعصبة تلك المفاتيح . وقال القتبي : { لَتَنُوءُ } أي : تميل بها العصبة إذا حملتها من ثقلها . وقال أبو عوسجة : { لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ } ، أي : لتعجز العصبة عن حملها . وقال بعضهم : تنوء : تثقل ، والعصبة : جماعة . وقوله : { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ } : قال بعضهم : لا تبطر ولا تأشر ؛ إن الله لا يحب البطرين الأشرين . وجائز أن يكون قوله : { لاَ تَفْرَحْ } أي : لا تفتخر على الناس بما آتاك الله من المال ولا تتكبر عليهم ، و { لاَ تَفْرَحْ } لا تسكن إليها ، ولا تركن إلى ذلك ، إن الله لا يحب من ذكر . وقوله : { وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } : كان كثرة ما آتاه الله من المال أنسته الآخرة ، وشغلته عنها وعن العمل لها ، حتى حمله ذلك الجحود والإنكار ، فقالوا : وابتغ الدار الآخرة بما آتاك الله . { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا } أي : لا تنس من مالك نصيبك في الدنيا ولكن قدم لآخرتك . قال الحسن في قوله : { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا … } إلى آخره قال : أمر أن يأخذ من ماله قدر عيشه ، ويقدم ما سوى ذلك لآخرته ، وكذلك قال في قوله : { وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } أي : قدم الفضل وأمسك ما يبلغك . { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } : قال : يكفيك ما أحل الله لك من الدنيا ؛ فإن فيه غناء وكفاية . وأصله : ما روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لك من الدنيا ما أكلت ولبست وأفنيت وما قدمت " جعل المقدم من الدنيا له ، وأمّا ما خلفه فهو لغيره . وهكذا أمر الدنيا لم تخلق الدنيا لتبقى لأهلها أو يبقى أهلها فيها ، ولكن إنما خلقت لتفنى هي أو يفنى أهلها ، وخلقت الآخرة للبقاء ، فنصيبه من الدنيا ما قدم وأنفق في طاعة الله وفي سبيله ليس ما خلفه في هذه الدنيا . وقوله : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } يحتمل قوله : { وَأَحْسِن } إلى نفسك في العمل للآخرة كما أحسن الله إليك ، وأحسن إلى الخلق كما أحسن الله إليك . وقوله : { وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ } : هذا يدل أنه كان ينفق ماله إلا أنه كان ينفق في الصدّ عن سبيل الله ؛ حيث قال : { وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ } ، ولو كان في ترك الإنفاق لم يكن في ذلك بغي الفساد في الأرض . ثم الواجب على من حضر الملوك وشهد مجالسهم من أهل العلم أن يخوفوا الملوك ، ويواعدوهم بما أوعد قوم موسى قارون وخوفوه ، ويأمروهم بالصلاح في أنفسهم وفي رعيتهم ، كما أمر أولئك قارون ، وينهوهم كما نهاه أولئك ، فإن أجابوهم وإلا امتنعوا عنهم وكفوا أنفسهم عن الاختلاف إليهم ، فإن لم يفعلوا فهم شركاؤهم في جميع ما يفعلون ، والله أعلم . وقوله : { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } : اختلف فيه : قال بعضهم : إن قارون كان أخبر الناس بالتوراة وأعلمهم بها وسمي : قارون لذلك ، وذكر أنه سمي : المنور ؛ لحسن صوته بالتوراة . وقال بعضهم : سميّ : منوراً لذكائه ، والله أعلم . وقال بعضهم : قوله : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } : وهو الكمياء ، ذكر أنه يعالج صنعة الذهب ويحسنها . وقال بعضهم : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } أي : على خبر عندي ، قال ذلك على أثر قول أولئك : { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا } إلى قوله تعالى : { وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ } كأنهم أوعدوه بذهاب ذلك عنه وهلاكه ، فقال - والله أعلم - : إنما أوتيت ذلك على علم عندي ، لم أوت جزافاً بلا سبب ، وكأنه - والله أعلم - نسي الآخرة بما أوتي من المال والكنوز ، وترك الإنفاق في الخير ، وكان ينفق في صد الناس عن سبيل الله ؛ ولذلك قال : { وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ } ، إلا أنه كان عارفاً بالله حيث قالوا له : { وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } وقالوا له : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } دل هذا منهم أنه كان عارفاً بالله تعالى . وقوله : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } : ذكر هذا - والله أعلم - لما أنه كان يفتخر ويستكبر على الناس بما أوتي من الأموال والكنوز والأتباع ، ويحسب أنه يدفع العذاب الموعود في هذه الدنيا بذلك عن نفسه . أو يظن أنه لما أوتي ذلك لا يعذب كظن أولئك الكفرة حيث قالوا : { نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] ؛ فجائز أن كان من قارون من الإعجاب بالكثرة والجمع ما ذكر بأولئك ، فقال عند ذلك : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } ، ثم لم يتهيأ لهم دفع ما نزل بهم من العذاب ؛ فعلى ذلك أنت يا قارون ، والله أعلم . وقوله : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } : اختلف فيه : قال بعضهم : لا يسألون عن ذنوبهم ؛ كقوله : { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ } [ الرحمن : 41 ] . وقال بعضهم : لا يسأل هذه الأمة عن صنيع مجرمي الأمم الخالية . وجائز ألا يسأل عن ذنوبهم ؛ لأنهم لا يرون ما يعملون من الأعمال ذنوباً ، ولكن إنما يسألون عن الدليل الذي به لا يرون تلك الأعمال ذنباً ، والله أعلم . وقوله : { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } : قال عامة أهل التأويل : إنه خرج على بغال شهب ، ومعه كذا كذا من الجواري على كذا كذا بغال شهب عليهن من الثياب كذا . وقال بعضهم : إنه خرج على براذين كذا بيض ومع كذا كذا غلمان وجواري ، ونحو ما ذكروا . لكنّا لا ندري على أيّ زينة خرج ؟ ولكنا نعلم أنه خرج على الزينة التي يخرج أمثاله من الملوك ، ولا نفسّر أنه كذا على كذا ، وكذلك لا نفسّر العلم ؛ ذكر أنه أوتي له من المال والكنز أنه كان عنده كذا من العلم ، والله أعلم بذلك ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة . وقوله : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } أي : أوتوا منافع العلم : لأنه قد يؤتى العلم ربمّا ، ولا يؤتى من الانتفاع له به ما أوتي هؤلاء ؛ حيث قالوا لأولئك : { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } لم يكن من أولئك إلا التمني أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون ، ثم نهاهم الذين أوتوا منافع العلم والانتفاع به عن ذلك التمني ، فدل ذلك أن التمني لا يسع الاشتغال به والطلب ؛ حيث قالوا لهم : { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ٱلصَّابِرُونَ } . اختلف في قوله : { وَلاَ يُلَقَّاهَآ } كيف ذكره بالتأنيث ، وإنما تقدم له ذكر الثواب ، فألا قال : ( وما يلقاه ) ؟ لكن اختلف فيه : قال بعضهم : { وَلاَ يُلَقَّاهَآ } كناية عن تلك المقالة التي كانت من أولئك الذين أوتوا العلم لأولئك الذين يريدون الحياة الدنيا ، أي : لا يلقى تلك المقالة التي قالوها لأولئك إلا الصابرون . وقال بعضهم : لا ، ولكن ذلك كناية عن الأعمال ، أي : ولا يلقى تلك الأعمال ولا يوفق إليها إلا الصابرون . قال أبو عوسجة والقتبي : { وَلاَ يُلَقَّاهَآ } أي : لا يوفق ، ويقال : لا يرزق . { ٱلصَّابِرُونَ } يحتمل : المؤمنين أنفسهم ؛ كقوله - تعالى - : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ إبراهيم : 5 ] وقوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ هود : 11 ] أي : آمنوا . ويحتمل : الصابرون : الذين صبروا أنفسهم وحبسوها على أداء ما افترض الله عليهم ، ولم يؤتوا أنفسهم شهواتهم وهواها ، والله أعلم . ثم كان في قوم موسى خصال ثلاث لم تكن تلك ومثلها في غيرهم من الأمم . أحدها : ما ذكر من صلابة [ الذين ] أوتوا العلم ، ويقينهم ، وطمأنينتهم فيما وعدوا في الآخرة من الثواب ، وصبرهم على أداء ما افترض الله عليهم ، وحبسوا أنفسهم عن مُنَاهم وشهواتهم ، ولصلابتهم وقوتهم في الدّين ما وعظوا قارون ، حيث قالوا له : { وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ … } إلى قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } وهو كان يومئذ ملكاً ، ولما قالوا لأولئك الذين يريدون الحياة الدنيا : { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } . والثاني : ما ذكر سحرة فرعون حين أوعدهم بالقطع والصلب والقتل بإيمانهم الذي آمنوا فقالوا : { لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 50 ] وقالوا : { فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } [ طه : 72 ] وأمثال ذلك مما لم يبالوا حلول ما أوعدهم وخوفهم من أنواع العذاب . والثالث : ما ذكر من الذي كان يكتم إيمانه ؛ حيث قال : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } [ غافر : 28 ] وإنما أظهر ذلك حين قال فرعون : { ذَرُونِيۤ أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } [ غافر : 26 ] كأنه همّ أن يقتله ؛ ألا ترى أن ذلك الرجل المؤمن الذي كان يكتم إيمانه قال لهم : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } [ غافر : 28 ] لم يبال هلاك نفسه بإظهاره الإيمان بعد أن أعان به الله موسى ، ونفع له بما قال ، واستقبل فرعون وقومه بما استقبل . فهذه خصال لم تذكر عن قوم قط من سوى قوم موسى مثلها . ولذلك وصفهم ونعتهم بفضل الهداية والعدالة ، وهو ما قال - عز وجل - : { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] . وهكذا الواجب على كل مؤمن إذا أريد منه أخذ الإيمان ، أو خاف على دينه أن يذهب به ، أو أن يدخل فيه النقصان ألاَّ يبدّل ذلك ، وإن خاف على نفسه تلفها وهلاكها وتعذيبها بأشدّ ما يكون من العذاب ؛ ألا ترى أن الله مدح أصحاب الأخدود بما احتملوا أشدّ العذاب وأسوأ القتل ، ولم يتركوا الإيمان ، ولم يعطوا أولئك الكفرة ما أرادوا منهم ، فهكذا الاختيار على كل مسلم أن يختار ما اختار أولئك . وهكذا الواجب على كل من يأتي الأمراء والسلاطين ويحضر مجالسهم من العلماء أن يعظوهم ، ويأمروهم بكل ما يؤتى ، وينهوهم عن كل محذور ، ويدلوهم على كل خير وكل ما هو طاعة لله ، كما فعل قوم قارون بقارون ، وإلا لم يحضروا مجالسهم ولا أتوا طائعين ، فلو فعلوا فإنهم يكونون شركاءهم . وذكر عن بعض السلف أنه قال : في عيسى وقارون عبرة لمن اعتبر ؛ إن عيسى - صلوات الله عليه - زهد في الدنيا زهداً ، حتى لم يتخذ لنفسه مسكناً يسكنه ، ولا مقرّاً يقر فيه ، ولا اتخذ لنفسه ما يتعيش به ، ولا اشتغل بشيء منها ، فرفعه الله إلى السماء ، فجعل عيشه ومقره فيها في كرامة الله وجواره . وقارون كان يرغب في هذه الدنيا رغبة ، وجهد في طلبها طاقته ووسعه ، وركن إليها ركوناً ، حتى خسفه الله في الأرض ، وأدخله فيها مع كنوزه وأتباعه ، فيكون فيها إلى يوم القيامة ؛ ففي ذلك عبرة وآية لكل راغب وزاهد ، فيرغب الزاهد في الزهد فيها ، وينزجر الراغب عن الرغبة فيها ، والله أعلم . وقوله - تعالى - : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } بالبغي الذي بغى عليهم ؛ أعني : على موسى وأصحابه . وقوله : { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ } كأنه كان يفتخر بالمال والحواشي ، ويتقوى بذلك في دفع عذاب الله ونقمته ؛ لذلك قال : { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ } ، أي : لم يغن في دفع عذاب الله عنه أتباعه وحواشيه ، وهو كظنّ أولئك : { نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] وكان ظنهم ذلك وقولهم إنما كان بوجهين : أنهم ظنوا أن أموالهم وأتباعهم تدفع عنهم عذاب الله ونقمته كما تدفع نقمة بعضهم عن بعض فيما بينهم ؛ كقول ذلك الرجل : { سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ } [ هود : 43 ] . والثاني : ظنوا أنهم إنما أعطوا هذه الأموال والأتباع في هذه الدنيا لكرامة لهم عند الله ؛ فلا يعذبون أبداً . وقوله : { وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلأَمْسِ } كانوا تمنّوا أن يعطوا مثل ما أعطي قارون { يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ … وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ } قال بعض أهل الأدب : ( وَيْ ) صلة ، وإنما هو ( كأنّ ) و ( كأنّه ) . وقال مقاتل : { وَيْكَأَنَّهُ } أي : لكنه ويكأنّ . قال بعضهم : قوله : { وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ } أي : اعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ، واعلموا أنه لا يفلح الكافرون ، لكن الله يبسط الرزق لمن يشاء ، ولكنه لا يفلح الكافرون . وقال بعضهم : ألم تر أن الله يبسط الرزق ، وألم تر أنه لا يفلح كذا . وقال الزجاج : " وي " مقطوعة من ( كأنّ ) وهو حرف يفتتح به التندم ، ثم ابتدأ بقوله : كأنه لا يفلح الكافرون . ثم في الآية دلالة نقض قول المعتزلة في وجوب الأصلح على الله ؛ لأنهم ذكروا مِنَّة الله في منعه إياهم ما تمنوا بالأمس مما أوتي قارون ، فلو كان ما أعطي قارون أصلح له في دينه لم يكن في منعه عن هؤلاء منة ؛ دل أن ما أعطى قارون لم يكن أصلح له ، بل المنع أصلح له ، وأن ليس على الله حفظ الأصلح للعباد في الدّين . وقوله : { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } في ظاهرها : أن كل من لا يريد العلوّ في هذه الدنيا ولا الفساد فيها يكون من أهل نعمة الله ، وكذلك ما ذكر من الدار الآخرة ، وجهنم هي من دار الآخرة أيضاً ، لكن الآية تخرج على وجهين : أحدهما : كأنها نزلت في رؤساء الكفرة وكبرائهم من الذين كانت همتهم في التكبر والتجبر على الرسل ، والفساد فيها ، في صرف الناس عن دين الله واتباع الرسل ، فقال - والله أعلم - : { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ } - أي : الجنة - ليست لهؤلاء ، ولكن لمن تواضع للرسل ، ودعا الناس إلى دين الله واتباع الرسل . والثاني : تكون الآية في الذين كانوا يعملون بالخيرات والطاعات منهم في نحو صلة الأرحام والصدقة على الفقراء والإنفاق في ذلك ، فأخبر أنهم وإن كانوا يعملون بتلك الأعمال فإنما يعملون للدنيا والعلو فيها لا للآخرة ، فتلك الدار الآخرة ليست لهم ، إنما هي للذين يعملون ويريدون بها الدار الآخرة . وقوله : { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ } : كأنه يقول : تلك الدار التي دعوا إليها ليست لمن ذكر ، وهي الدار التي قال الله فيها : { وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ } [ يونس : 25 ] ، فالدار الآخرة هي الدار التي دعوا إليها وهي الجنة ؛ الدار الآخرة على الإطلاق : الجنة ؛ كالكتاب المطلق كتاب الله ، والدين المطلق : دين الله ، ونحوه . وقوله : { وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } أي : تلك الدار الآخرة للمتقين . وقوله : { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } يخرج على وجوه : أحدها : ما قال أهل التأويل على التقديم والتأخير : فله منها خير ، ومعناه : أن ما يكون له في الآخرة من الخير ؛ إنما يكون بتلك الحسنة التي جاء بها في الدنيا وهي التوحيد . والثاني : قوله : { فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } أي : ما أعطوا في الآخرة من الخير والثواب خير مما يعطون في الدنيا بصبرهم ، وحبسهم أنفسهم عن شهواتها وأمانيها . والثالث : { فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } أي : ثواب الله وما أكرموا به خير مما عملوا في الدنيا . والرابع : أن توفيقه إياهم وإرشاده خير مما عملوا . أو أن يكون ذكر الله وحمده خير مما ذكر ؛ كقوله : { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] . وقوله : { وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ } : قالوا جميعاً : السيئة : هي الشرك ، { فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا } [ الأنعام : 160 ] هو التخليد في النار أبداً ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ البقرة : 281 ] : فيما يجزون بها بل ظلموا أنفسهم .