Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 1-6)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { الۤـمۤ } : قد ذكرناه في غير موضع . وقوله : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ } . قوله : { أَحَسِبَ } : هو وإن كان في الظاهر استفهاماً فهو على الإيجاب لا الاستخبار ؛ إذ حقيقة الاستفهام والاستخبار إنما تكون ممن يجهل الأمور فيستخبر ويستفهم ليعرف ذلك ، فالله سبحانه يتعالى عن أن يخفى عليه شيء ، فهو على التقرير والإيجاب منه لذلك . ثم يخرج قوله : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ } على أحد وجهين ؛ [ أحدهما ] أي : قد حسب الناس . والثاني : أي : لا يحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا : آمنا . وقوله : { أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا } : ذكر الإيمان ولم يذكره بمن ؟ بالله أو بغيره ؟ وليس أحد من الخلائق إلا وهو يؤمن بأحد ويكفر بغيره ، وليس في الآية بيان الإيمان به أو بمن ؟ إلا أن الله تعالى سخر الخلق على الفهم من الإيمان المطلق المرسل : الإيمان بالله وبرسله ، وسخرهم حتى فهموا من الكتاب المطلق : كتاب الله ، والدار الآخرة : الجنة ، وأمثال ذلك ما فهموا من الكتاب المطلق : كان كتاب الله ، وفهموا ما ذكرنا من الإيمان المطلق : الإيمان بالله وبرسله ، وفهموا أيضاً من الدين المطلق : دين الله ؛ فيكون قوله : { أَن يَقُولُوۤاْ } آمنا بالله أو برسله . وقوله : { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } أي : لا يبتلون ، والفتنة : هي الابتلاء الذي فيه الشدة ، يمتحن الله عباده باختلاف الأحوال : مرة بالضيق والشدة ، ومرة بالسعة والرخاء وأنواع العبادات ؛ ليكون ذلك علما للخلق في صدق الإيمان به والكذب به والكذب فيه ، فيعرفوا صدق كل مخبر عن نفسه الإيمان بالله تعالى وكذبه ؛ إذ قد يجوز أن يكون فيما يخبر ويقول : آمنت - كاذباً ، فجعل الله تعالى للعلم في صدقهم وكذبهم أعمالا يظهر بها عنده صدقهم ما لو كان الابتلاء والامتحان بجهة لعله لا يظهر ذلك ، وهو ما أخبر عن المنافقين فقال : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ … } الآية [ الحج : 11 ] ، هذا يدل أن الفتنة هي المحنة التي فيها الشدة والبلاء ، و [ هو ] ما قال : { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] ، فإنما يظهر صدق الرجل في إيمانه بما يصيبه من الشدة ، فأما السعة والرخاء فهو ما يوافق طبعه وهوى نفسه ، فلا يظهر صدقه بما يوافق طبعه ، وإنما يظهر ذلك بما يخالف طبعه ويثقل عليه تحمل ذلك . ثم قال بعضهم : نزلت الآية في قوم أظهروا الإيمان باللسان ، وأضمروا الخلاف والكذب . وقال بعضهم : نزلت في قوم آمنوا بالله وبرسوله حقيقة ، ثم عذبوا بأنواع العذاب ؛ فتركوا الإيمان وكفروا به ؛ وفيهم نزل : { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ } [ العنكبوت : 10 ] فكيفما كان ففيه أن من أقر بالإيمان وقبله ، يمتحن بأنواع المحن بموافقة الطبع ومخالفته ؛ ليظهر صدقه عند الناس فيعاملونه على ذلك ، والله أعلم . وقوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } : [ ذكرنا ] فيما تقدم أنه يعلم ظاهراً كائناً ما قد علمه غير كائن أنه يكون ، وليعلمه موجوداً ما قد علمه غير موجود أنه يوجد ، والله أعلم . وقوله : { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } : هذا أيضاً يخرج على وجهين : أحدهما : قد حسب الذين … ما ذكر . والثاني : لا يحسب ؛ على النهي . وقوله : { أَن يَسْبِقُونَا } : لا أحد يقدر أن يسبق الله في عذابه ونقمته ، لكنهم إذا رأوا الكافر والمسلم في هذه الدنيا على السواء في نعيمها وسعتها ، ورأوا أيضاً عند الموت أنه لم ينزل على الكافر عذاب كالمسلم - ظنوا أن لا بعث وما ينبئهم باطلا ذلك ظن الذين كفروا حملهم ذلك على إنكار البعث ؛ كقوله : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ } [ ص : 27 ] حين خلقهما إذا لم يكن بعث باطلا ، وهم قد علموا أن خلقه إياهما ليس بباطل ، ولكن صير خلقهما إذا لم يكن بعث باطلا ، فإذا أنكروا البعث ظنوا أن لا عذاب ولا جزاء ، والله أعلم . وقوله : { مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ ٱللَّهِ } : أضاف اللقاء إلى نفسه ، وكذلك ما ذكر من المصير إليه لقوله : { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [ التغابن : 3 ] ، وقوله : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ } [ هود : 123 ] ، وقوله : { وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً } [ إبراهيم : 21 ] ونحوه ، هذا كله لأن خلق الدنيا وخلق العالم فيها لا لها ، ولكن المقصود بخلقها وخلق العالم فيها الآخرة ، فإنما صار خلق هذه الأشياء فيها حكمة بالآخرة ؛ إذ لو لم يكن آخرة ، كان خلق ما ذكر في هذه الدنيا لعباً باطلا ؛ كقوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] صير خلقهم لا للرجوع إليه لعباً باطلا . وقوله : { فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } : بما يقولون ويظهرون ، والعليم بما يضمرون ويسرون ؛ لأن القصة قصة المنافقين . أو السميع المجيب العليم بحوائجهم وأمورهم ، والله أعلم . وقوله : { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } ، وكذلك قوله : { مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] ، وقوله : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] ، أي : فعليها . ففي هذا : أن الله إنما امتحن الخلائق لا لحاجة له فيما امتحنهم من دفع مضرة أو جر نفع ، لكن إنما امتحنهم لحاجة أنفسهم في دفع المضار وجر المنافع ؛ وكذلك إنما أنشأ الدنيا وهذا العالم فيها لا لحاجة له في إنشاء ذلك ، ولكن لحوائج أنفسهم ، وكذلك ما أنشأ من الخلائق سوى البشر إنما أنشأ البشر وله سخر جميع ذلك ، وجعل البشر بحيث يقدر على استعمال جميع ذلك لمنافع أنفسهم وحاجتهم ، وهو ما ذكر في غير آي من القرآن حيث قال : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] ، وقوله : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] ونحو ذلك ؛ فعلى ذلك امتحن هذا العالم لحاجة أنفسهم في دفع مضار وجر نفع ؛ لذلك قال : { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } أي : لحاجة نفسه ومنفعة نفسه ، لا لمنفعة أو لحاجة لله تعالى . { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } : هذا تفسير ما ذكر . ثم المجاهدة تكون مرة مع الشيطان والجن ، ومرة مع أعدائه من الإنس ، ومرة مع هوى النفس ، ومرة في أمر الدنيا ، كل ذلك مجاهدة في الله ؛ قال الله تعالى : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] ، والله أعلم .