Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 110-112)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال : " خير الناس أنفعهم للناس و { تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } : أي تأمرونهم ، أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما أنزل الله ، وتقاتلون عليه ، ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف ، والمنكر : هو التكذيب ، فهو أنكر المنكر " . وعن علي - رضي الله عنه - [ أنه ] قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِياءِ " ، قلنا يا رسول الله ، وما هو ؟ قال : " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ ، وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُوراً ، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأُمَمِ " . قال الشيخ - رحمه الله - : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } له وجهان : أي : { كُنْتُمْ } على ألسن الرسل في الكتب المتقدمة خير أمة . ويحتمل : أي : كنتم صرتم بإيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتباعكم ما معه - خير أمّة على وجه الأرض ؛ لأنهم آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض . وقوله : { تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } : يتوجّه إلى وجوه ثلاثة : المعروف : هو المعروف في العقول ، [ أي ] : الذي تستحسنه العقول ، والمنكر : هو الذي قبحته العقول وأنكرته . ويحتمل أن يكون المعروف : هو الَّذي عرف بالآيات والبراهين أنه حسن ، والمنكر : [ ما عرف بالحجج ؛ أي : أنه قبيح . ويحتمل أن المعروف : هو الذي جرى على ألسن الرسل أنه حسن ، والمنكر : ] هو الذي أنكروه ونهوا عنه . فعلى هذه الوجوه يخرج تأويل الآية ، والله أعلم . وقوله : { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } . لا شك أن الإيمان خير لهم من الكفر ، ولكن معناه - والله أعلم - أنهم إنما أبوا الإيمان وتمسكوا بالكفر لوجهين : أحدهما : أنهم كانوا أهل عزة وشرف فيما بينهم ، وأهل دراية ؛ ينتاب إليهم الناس ، ويختلفون إليهم بحوائجهم ، فخافوا ذهاب ذلك عنهم إذا آمنوا ، فأخبر الله - عز وجل - أنهم إن آمنوا لكان [ خيراً ] لهم من الذكر والشرف والعزّ في أهل الإيمان أكثر مما لهم في أهل الكفر ؛ ألا ترى أنّ من آمن منهم مِنْ دَرَسة الكتاب وعلمائهم - كان لهم من الذكر والشرف في الإيمان ما لم يكن لأحد مات منهم على الكفر ؛ نحو : عبد الله بن سلام ، ومن أسلم منهم ؛ نحو : كعب ، وغيره من الأحبار ؟ ! وإنما كانوا من علمائهم لم يكونوا من علماء أهل الإيمان ، فنالوا بالإيمان من الذكر والعزّ والشرف ما لم ينل أحد منهم مات على الكفر ، بل حمل ذكرهم وانتشر في أهلهم ؛ فضلاً عن أهل الإيمان والإسلام ، والله أعلم . والثاني : أنهم كانوا أبوا الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، واختاروا المقام على الكفر ؛ خوفاً وإشفاقاً على ما لهم من المنافع والمنال أن يذهب ذلك عنهم بالإسلام ، فأخبر - عزّ وجلّ - أنهم لو آمنوا لكان خيراً لهم في الآخرة ؛ إذ ذاك ينقطع ويذهب عن قريب ، والذي لأهل الإيمان في الآخرة باق دائم ، لا يزول أبداً ؛ لما كان الذي يُنال بالإيمان غيباً ، وكذلك ما يحلُّ بالكفار من جزاء الكفر - غيب اشتد عليهم الفكر والتدبر ، لما يمنعهم عن الشهوات ، وبنغص عليهم اللّذات ، فآثروا ما هوته أنفسهم وتلذذوا به على التدبّر ، مع ما كان إدراك الغائب بالشاهد أمر عسير ، لا يوصل إليه إلا بفضل الله ، ولم يكن عليه ذلك لا يسقط معنى الإفضال والإنعام ، ويصير حقّاً مع ما كان منهم تقديم الجفاء ، وإيثار زهرة الدنيا وبهجة الغنى على الموعود ، والله أعلم . وقوله : { مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } : كذلك كانوا : كان المؤمنون أقل ، والكفار أكثر ، [ والله أعلم ] . وقوله : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ … } الآية : فيه بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، بالأمن لهم عن أذى المشركين وضررهم ، إلا أذى باللسان ؛ وهو كقوله - تعالى - : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [ آل عمران : 186 ] ، وقوله : { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ … } الآية [ الحشر : 12 ] ، ونحوه من الآيات التي فيها بشارة لأهل الإيمان بالنصر لهم على عدوهم . وفي قوله : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى … } الآية - دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أخبر بذلك قبل أن يكون ، فكان على ما أخبر ؛ فدل أنه إنما علم ذلك بالله عزّ وجلّ . وقوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ } . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : " ضُربت عليهم المسكنة " وليس فيه الذلة ، وفي حرف حفصة : " ضربت عليهم المسكنة والذلة " . ثم اختلف في { ٱلذِّلَّةُ } : قيل : هي الجزية التي ضربت عليهم ، وهي ذلة ؛ كقوله : { عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] ؛ لأنهم كانوا يأنفون عنها . وقوله : { أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ } أي : وجدوا . { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ } . يعني : بعهد من الله ، وعهد من الناس يكون تحت قوم يؤدّون الجزية ؛ وكذلك تأوّل ابن عباس - رضي الله عنه - : { بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ } أي : بعهد من الله ، وعهد من الناس . وقال مقاتل : و " الناس " في هذا الموضع : النبي صلى الله عليه وسلم خاصّة . ويحتمل قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ } بكفرهم فيما بين المسلمين ، بعد ما كانوا أهل ذكر وشرف وعز فيما بينهم . { أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ } . أي : لا يوجدون إلا بحبل من الله وحبل من الناس - بالإسلام ، أي : لا يظفرون بهم ولا يوجدون ؛ إلا أن يسلموا لخوفهم على أنفسهم . وقوله : { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } : قيل : استوجبوا غضباً من الله بكفرهم . وقيل : رجعوا . وقيل : وجب عليهم الغضب . وقد ذكرنا هذا في غير موضع . والله أعلم . وقوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ } : وهي الحاجة والفقر ، وهو ما ذكرنا : أنهم ظاهروا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قربهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبعدهم بالمشركين ؛ فأذلهم الله - تعالى - بذلك ، وجعلهم أهل حاجة وَضِعة فيما بين المسلمين ، بعد ما كانوا أهل عزّ وشرف فيما بينهم ؛ وهو كقوله : { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ … } الآية [ الأحزاب : 26 ] . قال الشيخ - رحمه الله - : وقد يحتمل رجوع الآية إلى خاص منهم ، وهم الذين ذكر الله في قوله : { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } الآية [ الأحزاب : 26 ] الآية ، وغير ذلك مما يصير فيه المسلمون . يعرف حقيقة المراد من شهد النوازل ، وعرف الأسباب التي لها جاءت البشارات . ويحتمل : أن الله - تعالى - جعل كل حاجاتهم إلى ما يفنى ؛ وهي الدنيا التي لا بقاء لها ولا منفعة في الحقيقة ، فهي حاجة ، ثم بما فيهم بالجهل أن ذلك فيهم حاجة . ويحتمل : أن الله مع ما وسع عليهم الدنيا - جعل في قلوبهم خوف الفقر ، وأعظم الحاجات فهي المسكنة . وقوله : { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } : وآيات الله : ما ذكرنا في غير موضع . وقوله : { وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } : يحتمل وجوهاً : يحتمل : أن أوائلهم قد قتلوا الأنبياء [ بغير حق ] ، وهؤلاء رضوا بذلك ، وإن كانوا لم يتولوا هم بأنفسهم ؛ فأضاف الله - تعالى - ذلك إليهم ؛ لأنهم شاركوا في صنيعهم برضاهم ؛ وهو كقوله : { مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] . ويحتمل : أن يكونوا [ قصدوا قتل ] محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا قصدوا ذلك فكأنهم قصدوا الأنبياء كلهم ، كما ذكرنا في قوله : { مَن قَتَلَ نَفْساً … } [ المائدة : 32 ] الآية . ويحتمل : أن يكونوا هموا قتل محمد صلى الله عليه وسلم . ويحتمل : أن يكون عيَّرَهُم بآبائهم ؛ إذ هم قلدوهم في الدّين ، فبين سوء صنيعهم بالأنبياء - عليهم السلام - ليعرفوا به سفههم وسفه كل من [ قصد تقليدهم ] ، والله أعلم . ويحتمل : أن يكونوا قتلوا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فأضاف إليه ، وهو كما أضاف إليه مخادعتهم المؤمنين - إلى نفسه ؛ وكما أضاف نصر أوليائه إليه ، وإن كان الله لا يخادع ولا ينصر ؛ فعلى ذلك إضافة القتل إليه ؛ لقتلهم الأتباع ، والله أعلم .