Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 104-109)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } . وقوله : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } . يحتمل أن يكون هذا خبراً في الحقيقة ، وإن كان في الظاهر أمراً ؛ فإن كان خبراً ففيه دلالة أن جماعة منهم إذا قاموا على الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر - سقط ذلك عن الآخرين ؛ لأنه ذكر فيه حرف التبعيض ، وهو قوله : { مِّنْكُمْ أُمَّةٌ … } الآية . ويحتمل أن يكون على الأمر في الظاهر والحقيقة جميعاً ، ويكون قوله : { مِّنْكُمْ } - صلة ، فإن كان على هذا ففيه أن على [ كل ] أحد أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ، وذلك واجب ؛ كأنه قال : كونوا أمّة { وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } الآية ؛ لأنه ذكر - جل وعز - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آي كثيرة من كتابه ، منها هذا : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ … } الآية ، ومنها قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } ، وذمّ من تركهما بقوله : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 79 ] . ورُوي عن عكرمة أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال له : " قد أعياني أن أعلم ما يفعل بمن أمسك عن الوعظ ، فقلت : أنا أعلمك ذلك ، اقرأ الآية الثانية : { أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ … } [ الأعراف : 165 ] ، فقال لي : أصبت . فاستدل ابن عباس - رضي الله عنه - بهذه الآية على أنّ الله أهلك من عمل السوء ، ومن لم ينه عنه من يعمله ، فجعل - والله أعلم - الممسكين عن نهي الظالمين مع الظالمين في العذاب . وقد رُوي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال : " يا أيها الناس ، إنكم تقرءون هذه الآية : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } [ المائدة : 105 ] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إِذَا رَأَوا الظَّالِمَ ، فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِهِ - أَو شَكَ أَنْ يَعُمَّهُم اللهُ بِعِقَابٍ " . وعن جرير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ فِي القَوْمِ ، وَيَعْمَلُ فِيهِمْ بِمَعَاصِي الرَّحْمَنِ ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَأَعَزُّ ، وَلَوْ شَاءُوا أَنْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِهِ لأَخَذُوا عَلَى يَدِهِ ؛ فَيَرْهَبُوا لَهُ ؛ فَيُعَذِّبُهُمُ اللهُ بِهِ " . وعن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ ، وَلَتَنْهَوْنَّ عَنِ المُنْكَرِ ، أَوْ لَيَعُمَّكُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ ، ثُمَّ لَتَدْعُونَهُ ولا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ " . وعن أبي سعيد الخدري يذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إِنَّ اللهَ لَيَسْأَلُ العَبْدَ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَقُولَ : مَا مَنَعَكَ إِذَا رَأَيْتَ مُنْكَراً أَنْ تُنْكِرَهُ ؟ فإذَا اللهُ لَقَّنَ عَبْداً حُجَّتَهُ فَقَالَ : أَيْ رَبِّ ، وَثِقْتُ بِكَ ، وَفَرَقْتُ مِنَ النَّاسِ " . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فقالوا : يا رسول الله ] ، أرأيت إن قلنا بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف إلا ما عملنا به ، وانتهينا عن المنكر حتى لا يبقى ، أيسعنا ألا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر ؟ فقال : " مُرُوا بالمَعْروفِ ، وإنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلِّهِ ، وانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تُنْهَوُا عَنْهُ " . ولا ينبغي للرجل أن يقول : لست ممن يعمل بالمعروف كله ، وينتهي عن المنكر كله ، حتى آمر غيري وأنهاه ، فإن فعله المعروف واجب عليه ، فلا يجب إذا قصر في واجب أن يقصر في غيره . وقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } . يحتمل : وجوهاً : يحتمل : { كُنْتُمْ } : أي : صرتم خير أمّة أظهرت للناس ؛ بما تدعون الخلق إلى النجاة والخير . ويحتمل : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } في الكتب السالفة ؛ بأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر . ويحتمل : تكونون خير أمة إن أمرتم بالمعروف ، ونهيتم عن المنكر . ويحتمل : { كُنْتُمْ } : صرتم خير أمّة ، وكانوا كذلك هم خير ممن تقدمهم من الأمم ؛ بما بذلوا مهجهم لله في نصر دينه ، وإظهار كلمته ، والإشفاق على رسوله ، حتى كان أحبّ إليهم من أنفسهم ؛ ويرونه أولى بهم ، والله الموفق . ثم اختلف في المعروف والمنكر ، قيل : المعروف : كل مستحسن في العقل فهو معروف ، وكل مستقبح فيه فهو منكر . ويحتمل الأمر بالمعروف : هو الأمر بالإيمان ، والنهي عن المنكر : هوا لنهي عن الكفر ؛ دليله : قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ … } الآية ، يؤمنون هم ، ويأمرون غيرهم بالإيمان ، وينهون عن الكفر . وقوله : { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ } : لأن التفرق هو سبيل الشيطان بقوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] . { مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } : والبينات : هي الحجج التي أتى بها . ويحتمل : بيان ما في كتابهم من صفة [ رسولنا ] محمد صلى الله عليه وسلم ونعته [ الشريف ] . ويحتمل : تفرقوا عما نهج لهم الله ، وأوضح لهم الرسل ؛ فأبدعوا لأنفسهم الأديان بالأهواء ، فحذرنا ذلك ، وعرفنا أن الخير كله في اتباع من جعله الله حجة له ، ودليلاً عليه ، وداعياً إليه ، ولا قوة إلا بالله . { وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } : دلّ هذا أن السبيل هو الذي يدعو الشيطان إليها . وقوله : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ … } الآية : وصف الله - عز وجل - وجوه أهل الجنة بالبياض ؛ لأن البياض هو غاية ما يكون به الصفاء ؛ لأن كل الألوان تظهر في البياض ، ووصف - عز وجل - وجوه أهل النار بالسواد ؛ لأن السواد هو نهاية ما تكون به الظلمة ؛ إذ الألوان لا تظهر في السواد فهو شبيه بالظلمة . وقد يحتمل أن يكون المراد من وصف البياض والسواد - ليس نفس البياض والسواد ؛ ولكنّ البياض هو كناية عن شدّة السرور والفرح ، والسّواد كناية عن شدة الحزن والأسف ؛ كقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } [ عبس : 38 - 39 ] ، ووصف وجوه أهل الجنة بالضحك ، وليس على حقيقة الضحك ؛ ولكن وصف بغاية السرور والفرح ؛ وكذلك وجوه أهل النار وصفها بالغير والقتر ؛ وهو وصف بشدة الحزن ، والله أعلم . وقوله : { أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } : يحتمل وجوهاً : يحتمل : أكفرتم بألسنتكم بعدما شهدت خلقتكم بوحدانية الله تعالى ؛ لأن خلقة كل أحد تشهد على وحدانيته . ويحتمل : أي : كفرتم بعدما آمنتم بمحمّد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بوجودكم ، نعته وصفته في كتابكم وعلى هذا قال بعض أهل التأويل : { وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ } [ الشورى : 16 ] : أي : على استجابة كثير منهم من الأجلّة والكبراء ، الذين لا يعرفون بالتعنت في الدّين ولا بالتقليد ، [ والله أعلم ] . ويحتمل قوله : أكفرتم أنتم بعد أن آمن منكم فرق ؟ ! ؛ لأن منهم من قد آمن ، ومنهم من كفر ، فقال لمن كفر : أكفرتم أنتم وقد آمن منكم نفر ؟ ! ألا ترى أنه قال : { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ } [ الأعراف : 159 ] والله أعلم ؛ وكقوله : { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } ؟ ! [ الصف : 14 ] . وقيل : أراد بالإيمان - الذي قالوا حين أخرجوا من ظهر آدم . وفي الآية ردّ قول المعتزلة بتخليد أهل الكبائر في النار ، وإخراجهم إياهم من الإيمان من غير أن أدخلوهم في الكفر ؛ لأنه - عز وجل - لم يجعل إلا فريقين : بياض الوجوه ، وسواد الوجوه ، فبياض الوجوه هم المؤمنون ، وسواد الوجوه هم الكافرون ؛ لأنه قال : { أَكْفَرْتُمْ } فأصحاب الكبائر لم يكفروا بارتكابهم الكبيرة ، ولم يجعل الله - تعالى - فرقة ثالثة ؛ وهم فرقة ثالثة ؛ وكذلك قال - عز وجل - : { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } [ الشورى : 7 ] لم يجعل الخلق إلا فريقين ، وهم جعلوا فرقاً ؛ وكقوله : { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] . فإن قيل : ذكر في الآية الكفر بعد الإيمان ، ثم لم يكن فيه منع دخول من لم يكفر بعد الإيمان ؛ فامتنع ألا يكون فيه منع دخول صاحب الكبيرة . فجوابنا ما سبق : أن خلقه كل كافر تشهد على [ وحدانية الله تعالى ] ، لكنهم كفروا بألسنتهم ، وذلك كفر بعد الإيمان ؛ فلم يجز أن يدخل في الآية من لم يكن كافراً في حكم الكافر ، وبالله التوفيق . وقوله : { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } . في الظاهر أمر ، لكنه في الحقيقة ليس بأمر ؛ لأن العذاب لا يذاق ، وإنما يذوق هو ؛ فكأنه قال : اعلموا أن عليكم العذاب . وقوله : { تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ … } [ الآية ] : يحتمل : { آيَاتُ ٱللَّهِ } : حجج الله وبراهنيه . ويحتمل : { آيَاتُ ٱللَّهِ } : القرآن . { بِٱلْحَقِّ } : ببيان الحق . ويحتمل : { بِٱلْحَقِّ } : بالدّين ، والدين هو الحق ، ويحتمل : أن الآيات هي الحق . قال الشيخ - رحمه الله - : أي : بالأمر بالدعاء إلى الحق . ويحتمل : الحق الذي لله على عباده ، ولبعضهم على بعض . وقوله : { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } : والظلم : هو وضع الشيء في غير موضعه ، فإذا كان ما في السماوات وما في الأرض كله له ، من وصف في الخلق بالظلم إنما وصف ؛ لأنه يضع حق بعض في بعض ، ويمنع حق بعض ؛ فيجعل لغير المحق ، فالله يتعالى عن ذلك . وقوله : { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } . أي : لا يريد أن يظلمهم ، وإن شئت قلت : قلت الإرادة صفة لكل فاعل في الحقيقة ؛ فكأنه قال : لا يظلمهم ، وكيف يظلم ؟ ! وإنما يظلم بنفع تسرّه إليه النفس ، أو ضرر يدفع به ، فالغني بذاته متعال عن ذلك . وقوله : { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } . أي : إليه يرجع إمر كل أحد ، فلا يحتمل الظلم [ وجود الظلم منه ] .