Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 134-136)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ } . قيل : السرّاء : الرخاء ، والضراء : الشدة . وقيل : السراء : السعة ، والضراء : الضيق ؛ وهو واحد . وقيل : السراء : ما يسرهم الإنفاق ؛ من نحو الولد وغيره ، يسرّه الإنفاق عليه ، والأجنبي يضره . وعلى تأويل الأول : أن الإنفاق في حال الرخاء والسعة - أيسر وأهون على المرء من الإنفاق في حال الضيق والفقر ، فإذا أنفق في الأحوال استوجب بذلك المدح ، والله أعلم . والسبب الذي يُيَسِّرُ عليه الأمر وجهان : أحدهما : علمه بأن الذي في يديه في الحقيقة في يد الله ؛ فهو يصرف ذلك حيث يصرفه ، لم يخرجه من يد مَنْ يَدُهُ فِي يَدِهِ ، كأنه يعد في يده . والثاني : بعلمه بجود ربه وقدرته ، حيث يكون ذلك فيما به قضاء حاجته ، والوصول إلى منفعته مع ما يعلم بالجود ، وكثرة الانتفاع بما لا ملك للمنتفع به ، وحرمان ذي الملك ذلك فيه . قال الشيخ - رحمه الله - في قوله : { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ } : يحتمل فيما يسرّهم ويضرّهم ، أو في حال يسر وعسر ، أو حلال بلاء ونعمه . ثم السبب الذي يسهل سبيل الإنفاق في تلك الأحوال - وإن كان بالذي ذكر في تسهيل التقوى - هذا وجوه ثلاثة : أحدها : أن ترى مالك لمن له يد امتحنك بحق ذلك وحفظه ، وأنك إذا بذلته ارتفعتْ عنك مئونة الحفظ ، ومراعاة الحق على ما لم يكن ذلك عنك نفعه الذي كان له وقت كونه في يدك ؛ إذ هو بعد البذل في يد من يدك قبله في يده ، فكأنه لم يخرج من يدك بحيث النفع ، وإنما سقطت عنك ما ذكرت من المئونة ؛ إذ معلوم وجودها لك في الظاهر ؛ لا منتفع به ، ومن لا ملك له في الشيء منتفع به ، على العلم باستواء الأمر على من له بذلت ، والله أعلم . والثاني : أن تشعر قلبك جوده بمن آثره على ما عنده ، وقدرته على إعطائه إياه من خزائنه التي لا تنفد ، ولا يتعذر عليه ، فتيقن بذلك ، وتعلم أنه لك على الإيصال إليه ؛ فيما لم يكن أوصله ، وعلى ذلك فيما أعطاه في القدرة واحد ؛ فيهون عليه ذلك ؛ والله أعلم . والثالث : أن تعلم أنّ الذي عليه جبل وإليه دفع ؛ ليس للوقت الذي فيه ؛ ولكن ليتزود لمعاده ، ويكتسب به الحياة الدائمة ، والمنفعة التي لاتنفد ، فيصير كبائع الشيء بأضعاف ثمنه ، أو كباذل ما فيه فكاك رقبته ، أو كمقدم ما يمتهن إلى مكان مهنته ، أو كمن يعدّ الشيء في مسكنه لوقت حاجته ، فإن مثله آثَرُ الشيء على الطبيعة ، وألذ شيء في العقل . ولا قوة إلا بالله . ثم الأصل في قوله : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أي : من لم يبلغ بما يرتكب من المعاصي - الكفر ، لم يمتنع من احتمال التسمية المتقين على إرادة خصوص التقوى ؛ وهو ممتنع عن احتمال التسمية بالكفر على صرف الآية في إعداد النار إلى خصوص أو عموم ، فثبت به خروج صاحب الكبائر عن أهل الاسم الذي أعدّت له النار ، ولم يثبت خروجه عن أهل الاسم الذي له أعدت الجنة ، [ فالقول فيه ، وإنما ذلك في الجنة فاسد بأوجه : أحدهما : مع الإشكال فيما يحرم الجنة ] والإحاطة بأنّ النار لم يذكر أنها أعدت له أدخل فيها ، فيكون في ذلك إسقاط [ شهادة تثبت بيقين بالشك ، وإيجاب شهادة لم تجب بالخيال . والثاني : أن يكون في ذلك إسقاط ] اسم العفو والرحمة ؛ إذ لو لم يجعل لمثله - لبطل أن يكون له موضع لما في غيره استحقاق ، والله أعلم . والثالث : ما فيه إسقاط الموازنة والمقابلة مع مجيء الآيات بالكتب التي تقرأ الموازين التي توزن ؛ مع ما في ذلك مخالفته التوهم بالكريم الذي أمرنا أن نسمّيه بها ؛ مع ما قد جاء من التجاوز عن السيئات والتقبل للحسنات من واحد ، وفي ذلك قلب ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ } . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وهُوا يَقْدِر عَلَى إِنْفَاذِهِ - مَلأهُ اللهُ أَمْناً وَإِيمَاناً " . والغيظ متردد بين الحزن والغضب ، والحزن على من فوقه ، والغضب على من دونه ، والغيظ بين ذلك ، مدحهم - عز وجلّ - بترديد حزنهم وغيظهم في أجوافهم . وقوله - عز وجل - { وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ } . أي : عمّن ظلم . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ] قال : " مَا عَفَا رَجُلٌ عَمَّنْ ظَلَمَهُ إِلاَّ زَادَهُ اللهُ بِهَا عِزّاً " ومن عفا عن الناس عن مظلمة - فقد أحسن بذلك ؛ كما يقال : فلان يحسن بكذا ؛ ولا يحسن . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } . والإحسان يحتمل وجهين : يحتمل : العلم والمعرفة : ويحتمل : أن يفعل فعلاً ليس عليه من نحو المعروف والأيادي الذي ليس عليه ، إنما فعله الإفضال ، ذكر - ههنا - المحسنين وحبّه ، وأخبر في الآية الأولى أنّ الجنة أعدت للمتقين بقوله - عز وجل - : { وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } ثم قال : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } ، وأخبر أنّ النار أعدت للكافرين . ثم اختلفوا فيه : قال بعضهم : من لم يكن من المتقين لم تعدّ الجنة له ، فهو ممّن أعدّت له النار ، وهو قول الخوارج والبغاة . وقال آخرون : إنه أخبر أن النّار أعدت للكافرين ، فهو إذا لم يكن كافراً - ليس ممّن أعدّت له النّار ، فهو ممّن أعدّت له الجنة . وقال غيرهم : أخبر أن النار أعدّت للكافرين وأخبر أنّ الجنة أعدّت للمتقين ، فوصف المتقين : فهم الذين اتقوا معاصيه ، وتركوا مخالفة أمره ونهيه ، فإذا كان قوم لهم مساوئ - لم يدخلوا في إطلاق قوله - عز وجل - : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } ولا دخلوا في قوله : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فيكون لهم موضعاً بالنار . وأما عندنا : فإنه يرجى دخول من ارتكب المساوئ من المؤمنين في قوله - عز وجل - : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } ، بقوله - عز وجل - : { ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 102 ] ذكر خلط عمل الصالح مع السيئ ، ثم وعد لهم التوبة بقوله - عز وجل - : { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 102 ] والعسى من الله واجب . والثاني : قوله - عز وجل - : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } [ الأحقاف : 16 ] فإذا تجاوز لم يبق لهم مساوئ ؛ فصاروا من أهل هذه الآية : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } . وقوله - أيضاً - : { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } قالوا : { وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . أخبر أنهم { إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } : وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم لأي معنى ظلموا أنفسهم ، وحيث لم يسلموا أنفسهم لله خالصين ، والظلم : هو وضع الشيء في غير موضعه ، فإذا لم يسلموا له - وضعوا أنفسهم في غير موضعها ، لذلك صاروا ظلمة أنفسهم . { ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } أي : طلبوا لذنوبهم مغفرة ، وأقرّوا أنه لا يغفر الذنوب إلا الله . { وَلَمْ يُصِرُّواْ } على ذنوبهم ، والإصرار : هو الدوام عليه ، ثم أخبر أن جزاء هؤلاء المغفرة من ربهم ؛ { وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا … } ، إلى آخر ما ذكر . دلّت هذه الآيات على تأييد قولنا : إن أهل المساوئ والفواحش إذا تابوا صاروا ممن أعدّت لهم الجنة ، وإن لم يكونوا من المتقين من قبل ، فمثله إذا تجاوز الله عن سيئاتهم ؛ وعفا عنهم بما هو عفو غفور ، والله أعلم . قال الشيخ - رحمه الله - في قوله - عز وجل : { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ … } الآية . يحتمل أن يكون الظلم غير الفاحشة . ويحتمل أن يكون واحداً في المراد ؛ إذ قد يكون في المعنى أن كل عاص ظالم لنفسه ، بمعنى ضرّها ؛ ونحس لحظّها ؛ إذا فعل ما ليس له الفعل ووضع اختياره في غير موضعه ، وهما معنيا الظلم ، وكذلك من تعدى حَدَّ الله أو آثر ما يزجره العقل والشرع - فقد فحش فعله ، وذلك معنى الظلم الذي وصفت ؛ إذ فعل ما ليس له ، وأختياره غير الذي له - هو الذي يزجره العقل والشرع ، والله أعلم . ويحتمل وجها آخر غير هذين : وهو أن الظلم يجمع كل وجوه الخلاف ؛ عظم أو صغر ، ولذلك قد نسب ذلك إلى زلات الأخيار ، نحو ما قيل لآدم - عليه السلام - في أكل الشجرة : { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } [ البقرة : 35 ] ، وقيل في الشرك : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [ المائدة : 51 ] . والفواحش : ما [ ظهر وتبين ] قبحه ؛ لا ما قلّ أو كثر في الذنوب ، وعلى ذلك النقصان ظلماً بقوله - عز وجل - : { وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } [ الكهف : 33 ] ، وقد يوصف العيب والنقصان بالفحش ؛ لكنه إذا كثر وظهر فمثله في الزلات ، ويكون كالطيب في المحلّلات من المباح ونحوه في الدرجة ، والله أعلم . ثم ليس بنا حاجة إلى معرفة المقصود بالذكر في الآية ؛ لما فيها الرجوع عن ذلك ، وطلب المغفرة ، وكل أنواع المآثم بالتوبة تغفر بما عد الله في الشرك ، والزنا ، والقتل ؛ فما دونه - بقوله : { يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ … } [ الفرقان : 69 ] إلى تمام الآية ، والله أعلم . وقوله : { إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } . يحتمل الفاحشة : ما فحش في العقل وقبح . وقال آخرون : كل محرم منهيّ فهو فاحشة . والأول كأنه أقرب ؛ لأن الشيء ما لم يبلغ في الفحش والقبح غايته ؛ فإنه لا يقال : فاحشة ، وإذا بلغ الغاية - فحينئذ كالطيب ، أنه إنما يقال ذلك إذا بلغ غايته في الحل واللّذة ، فأما أن يقال لكل حل في الإطلاق طيباً - فلا ، فعلى ذلك : الفواحش ؛ لا يقال لكل محظور محرم ، إنما يقال ما بلغ في القبح والفحش غايته ، فأما أن يقال ذلك لكل محرم منهي - فلا ، وبالله التوفيق . والطيب : ما استطابه الطبع ؛ فإذا بلغ طيبه غايته في الطبع ؛ فهو طيب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنها معصية فلا يقيمون عليها ، ولكن يتوبون ، فمن تاب من ذنبه فجزاؤه ما ذكر .