Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 140-142)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ } . اختلف فيه : قيل : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } في آخر الأمر ؛ يعني في أُحد ؛ فقد مسَّ المشركين قرح مثله يوم بدر ، يذكر هذا - والله أعلم - على التسكين ؛ ليعلموا أنهم لم يخصوا بذلك . وقوله - عز وجل - : { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } . تحتمل الآية وجوهاً : يوماً للمؤمنين ويوماً عليهم ، وذلك أن الأمر بمجاهدة العدو والقتال معهم محنة من الله - تعالى - إياهم يمتحنهم ويبتليهم ؛ مرة بالظفر لهم والنصر على عدوهم ، ومرة بالظفر [ للعدوّ عليهم ؛ كقوله - عز وجل - : { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ، وكقوله : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [ الأعراف : 168 ] يمتحن عباده ] بجميع أنواع المحن ، بالخير مرة ، وبالشر ثانياً . ويحتمل المداولة - أيضاً وجهاً آخر : وهو أن الظفر والنصر لو كان أبداً للمؤمنين - لكان الكفار إذا أسلموا لم يسلموا إسلام اختيار ؛ ولكن إنما آمنوا إيمان قهر وكره وجبر ؛ لما يخافون على أنفسهم من الهلاك إذا رأوا الدولة والظفر للمؤمنين ، وإن كان الظفر والنصر أبداً للكفار ؛ فلعلهم يظنون أنهم المحقون فيمنعهم ذلك عن الإسلام . ويحتمل أن ما يصيب [ بمعصية ] ، المؤمنين إنما يصيب بمعصية سبقت منهم ، أو خلاف كان منهم ؛ من ترك أمر أو ارتكاب نهي ، والله أعلم . فإن طعن طاعن من الملاحدة في قوله - عز وجل - : { إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } [ محمد : 7 ] ، وقوله - عز وجل - : { إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } [ آل عمران : 160 ] أليس وعد أنكم إن نصرتم دينه ينصركم ، وأخبر - أيضاً - أنه إن نصركم فلا غالب لكم ، فإذا نصرتم دينه فلم ينصركم ؛ أليس يكون خلفاً في الوعد ؟ أو إن نصركم فغلبتم يكون كذباً في الخبر . قيل : لهذا جواب من أوجه : قيل : يحتمل قوله - عز وجل - : إن تنصروا دين الله في الدنيا ينصركم في الآخرة بالحجج ؛ كقوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } الآية [ غافر : 51 ] ، وكقوله - عز وجل - : { وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } [ النساء : 141 ] . وقيل : إن تنصروا دين الله ولم تعصوا الله فيه - ينصركم ؛ فلا غالب لكم . وقيل : يحتمل : إن تنصروا دين الله جملةً - ينصركم ؛ كقوله - عليه السلام - : " لَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً مِنْ قِلَّةٍ ، كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ " وكقوله - عز وجل - : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [ إبراهيم : 34 ] . وقيل : إن تنصروا دين الله ينصركم ؛ أي : يجعل الظفر ؛ والنصر في العاقبة لكم ، وكذلك : وإن كان في ابتداء الأمر الغلبة على المؤمنين ؛ فإن العاقبة لهم في الحروب كلّها ، ومقدار ما كان عليهم إنما كان لأمر سبق منهم : إمّا إعجاباً بالكثرة ؛ كقوله - تعالى - : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } [ التوبة : 25 ] ، وإمّا خلافاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي قوله - عز وجل - : { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } دلالة أن كان من الله معنى لديه تكون الغلبة لهم ؛ بقوله - عز وجل - : { إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } ولكان هو يجعل أبداً الدولة لأحد الفريقين ، وقد أخبر أنه يجعل لهما ، ومعلوم إن كانت الدولة بالغلبة ، فثبت أن من الله في صنع العباد - صنع له أضيف [ إليه صنيعهم ] ، والله أعلم . ثم معلوم أن الغلبة لو كانت للمسلمين - كان ذلك ألزم للحجّة ، وأظهر للدعوة ، وأدعى [ إلى الإجابة ] ، وفيها كل صلاح ، فثبت أن ليس في المحنة شرط إعطاء الأصلح ، والله أعلم . وفي قوله - عز وجل - : { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } ردّ قول الأصلح ؛ حيث قالوا : إن الله لا يفعل إلا الأصلح في الدين ، يقال لهم : أي صلاح للمؤمنين في مداولة الكافرين على المؤمنين ؟ ! . وقوله - عز وجل - : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } : أي : ليعلم ما قد علم بالغيب أنه يؤمن بالامتحان مؤمناً شاهداً ، وليعلم ما قد علم أنه يكون كائناً . وجائز أن يراد بالعلم : المعلوم ؛ كقوله : الصلاة أمر الله ، أي : بأمر الله . وفي قوله - عز وجل - : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } الآية ، تخرج على أوجه : أحدها : أن ما وصفت الله به إذا ذكرت معه الخلق - تذكر وقت كون الخلق ؛ لئلا يتوهم قدمه ، وإذا وصفت الله - تعالى - بلا ذكر الخلق وصفته به في الأزل ؛ نحو أن تقول : عالم ، قادر ، سميع - في الأزل ، فإذا ذكرت المسموع المقدور عليه والمعلوم - ذكرت وقت كونه ؛ لتزيل توهم القدم على الآخر ؛ وعلى هذا عندنا القول بـ " خالق " " رازق " ونحو ذلك ، والله أعلم . والثاني : على تسمية معلومة علماً في مجاز اللغة ؛ وذلك كما سمّى عذاب الله في القرآن أمره ، وسمى الناس الصلاة - وغيرها من العبادات - أمره ، على معنى أنها تفعل بأمره ؛ وكذلك ما سميت الجنة رحمته ، على أن كان فيها ؛ فيكون : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } : أي : ليكون الذين آمنوا على ما علمه يكون ، والله أعلم . والثالث : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } في الغيب شهوداً ؛ إذ هو عالم الغيب والشهادة ، وتحقيق ذلك لا يكون بحادث العلم ، وذلك نحو من يعلم الغد يكون ؛ يعلمه بعد الغد ، وإن لم يكن له حدوث العلم قد كان ؛ وعلى هذا قيل : ليعلمه كائناً لوقت كونه ما قد علمه يكون قبل كونه ، والله أعلم . وقال بعض أهل التأويل : ليكون الذي علمه يكون بالمحنة ظاهراً موجوداً ، وهو يرجع إلى ما بيّنا . وقال بعضهم : ليراه ، وهذا من صاحبه ظن أن الكلام في الرؤية لعله أيسر ، وعن التشبيه أبعد ، وعند من يعرف الله حق المعرفة : هما واحد . والأصل في هذا ونحوه في الإضافات إلى الله : أنها كانت بالأحرف المجعولة المتعارف في الخلق ، ثم هي تؤدي عن كل ما يضاف إليه ، ويشار إليه ما كان عرف من حال ذلك قبل الإضافة ، لا أن يقدر عند الإضافة معنى لا نعرفه به لولا ذلك ، على ما عرف من الاشتراك في اللفظ والاختلاف في المعنى ؛ فعلى ذلك أمر الإضافة إلى الله - تعالى - ويوضح ذلك ما لم يفهم أحد من قوله - عز وجل - : { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 230 ] ما فهم من إضافة الحدود إلى غيره ؛ وكذلك بيوت الله ، وعباد الله ، وروح الله وكلمته ، ونحو ذلك ، فمثله الذي نحن فيه . وجائز - في الجملة - أن يوصف الله بأنه لم يزل عالماً بكون كل ما يكون كيف يكون ؟ وفي وقت كونه كائناً ؛ وبعد كونه قد مضى كونه ؛ على تحقيق التغير في أحوال الذي يكون لا في الله - سبحانه وتعالى - إذ تغير الأحوال واستحالتها من آيات الحدث وأمارات الصنعة . قال الشيخ - رحمه الله - في قوله - عز وجل - : { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } : قيل فيه بوجهين : أحدهما : " ولم يعلم " ، وهو يخرج على وجهين : أحدهما : على إثبات أنه علم أنهم لم يجاهدوا ؛ كقول الناس : ما شاء الله كان ، [ وما لم يشأ لم يكن ] ، أي : شاء ألا يكون ، لا يكون . والثاني : أنه عالم بكل شيء ، فلو كان منكم جهاد لكان يعلمه ، وإنما لم يعلمه ؛ لأنه لم يكن ؛ وعلى ذلك قوله - عز وجل - : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] أي : ليس لهم . والثاني : قوله - عز وجل - : { وَلَمَّا يَعْلَمِ } بمعنى : إلا ؛ كقوله { لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] - بالتشديد - بمعنى : إلا عليها حافظ ؛ فيكون معنى الآية : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } ؟ ! لا تدخلوها إلا أن يعلم الله مجاهدتكم ، أي : حتى تجاهدوا فيعلم الله ذلك منكم موجوداً ، والله أعلم . وكذلك قوله - عز وجل - : { وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ } أي : ليعلم ما قد علم أنه يصير صابراً ؛ وكذلك قوله : { فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 3 ] أي : ليعلمن الذين قد علم أنهم يصدقون - صادقين ، وليعلمن الذين قد علم أنهم يكذبون - كاذبين ، وكذلك قوله - عز وجل - : { حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ } [ محمد : 31 ] أي : حتى يعلم ما قد علم أنهم يجاهدون - مجاهدين ، وأصله : قوله - عز وجل - : { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } [ الحشر : 22 ] ليعلم شاهداً ما قد علم غائباً ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } أي : يستشهدون في سبيل الله بأيدي عدوهم . ويحتمل : ويتخذ منكم شهداء على الناس ؛ كقوله - عز وجل - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ } [ البقرة : 143 ] ، وفيه دلالة أنهم لا يستوجبون بنفس الإيمان الشهادة على الناس ؛ حتى تظهر الصيانة والعدالة في أنفسهم . وقوله - عز وجل - : { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } : أي : يمحص ذنوبهم وسيئاتهم . وقوله - عز وجل - : { وَيَمْحَقَ ٱلْكَافِرِينَ } : أي : يهلكهم ويستأصلهم . وقوله - عز وجل - : { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } : ما ذكرنا من تمحيص الذنوب على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ " . { وَيَمْحَقَ ٱلْكَافِرِينَ } : أي : يهلكهم ، ولا يكون السيف تمحيصاً لهم من الكفر ، بل يهلكهم في النار . وقوله - عز وجل - : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } : قيل : بل حسبتم أن تدخلوا الجنة . { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } . قيل فيه بوجهين : قيل : { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ } : أي : ولم يعلم الله الذين جاهدوا منكم ؛ أي : لم يجاهدوا . وقيل : { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } ، و " لما " بمعنى : " إلا يعلم " ، بمعنى : لا تدخلون الجنة إلا أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم ؛ وهو كقوله - عز وجل - : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] : من قرأ بالتشديد ؛ فكان معناه : " إلا عليها حافظ " ، ومن قرأ بالتخفيف ؛ فمعناه : لَعَلَيْها حافظ ، و " ما " صلة . وفي قوله - عز وجل - : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } ، أي : ظننتم ذلك ، { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } ، وقال في [ موضع آخر ] : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } الآية [ آل عمران : 165 ] ، بمعنى : ولم تجاهدوا ، ولم يصبكم مثل الذي ذكر ؛ ففي ذلك وعد أن يصيب أولئك الذين خاطبهم به ما أصاب من تقدمهم ، وأن الله قد يعلم أنهم يجاهدون قبل الموت ؛ وعلى هذا قال قوم في تأويل قوله - عز وجل - : { صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] - : أن يدخلوا الجنة إذا أصابهم مثل الذي أصاب من تقدمهم ، والله أعلم . فيكون تأويل { وَلَمَّا } : ولم ، والألف صلة . وقيل : يحتمل بالتشديد منه : إلا ؛ كما قيل في تأويل قوله - عز وجل - : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] بالتشديد : " إلا عليها حافظ " ؛ فيكون بمعنى الإضمار : لا تدخلوا إلا أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، وقد بيّنا ما في العلم في الحرف الأوّل على أنه له وجهان - أيضاً - : أحدهما : أن الله لم يعلم بذلك ، وهو العالم بكل شيء فلو كان : لكان يعلمه . والثاني : أن يعلموا أن يكونوا لم يجاهدوا بعد ، وسيجاهدون على ما بيّنا ، والله أعلم .