Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 161-164)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } فيه قراءتان : " يغل " بنصب الياء ، وبرفع الياء ونصب الغين ، ومن قرأه بنصب الياء فذلك يحتمل وجهين : يحتمل : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي : لم يكن نبي من الأنبياء غلَّ قط ، وهو أحق من لا تتهمونه ؛ لعلمكم به ؛ فكيف اتهمتموه هنا بالغلول ؟ ! وقيل : إن ناساً من المنافقين خَشُوا ألا يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة بينهم ؛ فطلبوا القسمة ؛ فنزلت [ هذه ] الآية . وقيل : قالوا : اعدل يا محمد في القسمة ؛ فنزل هذا . ويحتمل قوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي : قد كنتم عرفتموه من قبل أن يرسل ، فما عرفتموه خان قط أَوْ غَلَّ ؛ فكيف يحتمل الخيانة بعدما أرسل ؟ ! هذا لا يحتمل . ومن قرأه بالرفع [ أي : يُغَلّ ] فهو - أيضاً - يحتمل وجهين ، أي : يتهم بالغلول في الغنيمة ؛ فهو يرجع إلى تأويل الأول . ويحتمل قوله : " أن يُغَلّ " أن يخان في الغنيمة ، لا يخون ولا يحل أن يخان النبي صلى الله عليه وسلم في الغنيمة ؛ فإنه يطلع على ذلك ، يطلع الله ورسوله ، على ما جاء في بعض الأخبار " أنَّهُ مرَّ بقبر ، فقال : إنه في عذاب ، قيل : بماذا يا رسول الله ؟ ! فقال : " إِنَّه كَانَ أَخَذَ مِنَ الغَنِيمَةِ قَدْرَ دِرْهَمَيْنِ أَوْ نَحْوَهُ " . ويحتمل : خصوص الغنيمة بما يتناول الغالَّ حِلُّهُ ، بما لا يعرف له صاحب ؛ كالمال الذي لا مالك له ، وربما يباح التناول منه للحاجة والأخذ بغير البدل بوجه لا يحتمل بتلك أكل الحل من ذلك . وقوله - عز وجل - : { بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } : أي : يؤخذ به يوم القيامة ، وهكذا كل من أخذ من مال غيره بغير إذنه ؛ فإنه يؤخذ به . وقال بعض الناس : وإنما خص الغنيمة بفضل وعيد ؛ لأن الغلول فيها يجحف بحق الفقراء وأهل الحاجة ، أو يضر ذلك أصناف الخلق ، وسائرُ الأموال ليس كذا . وقيل : إنما جاء الوعيد في هذا أنهم كانوا أهل نفاق ، يستحلون الغلول في الغنيمة والأخذ منها ، وهذا كأنه أشبه . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : بعث [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم جيشاً فغلوا رأس ذهب ؛ فنزلت [ الآية ] : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أيضاً - قال : فُقِدَتْ قطيفة حمراء يوم بدر مما أصيب من المشركين ؛ فقال الناس : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها لنفسه ؛ فأنزل الله - تعالى - : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } . وقوله - عز وجل - : { أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ ٱللَّهِ } : قل : أفمن لم يغل ، ولم يأخذ من الغنيمة شيئاً - كمن غلَّ وأخذ منها ؟ ! ليسا سواء ؛ رجع أحدهما برضوان الله ، والآخر بسخطه . ويحتمل : { أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ } : أفمن أطاع الله واتبع أمره ، كمن عصى الله واتبع هواه ؟ ! ليسا بسواء . وقوله - عز وجل - : { هُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ ٱللَّهِ } : والدرجات - والله أعلم - : ما يقصدوها أهلها . والدركات : ما تدركهم من غير أن يقصدوها ؛ كالدرك في العقود يدرك من غير قصد . وقيل : الدرجات : ما يعلو . والدركات : ما يَسْفُل ، والله أعلم . فهذا في التسمية المعروفة أنْ سُمِّيَتِ النار دركات والجنة درجات ، وحقيقة ذلك واحد ، والآية تدل على الأمرين . وقوله - عز وجل - : { لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } : وجه المنة فيما بعث الرسل عليهم من البشر ، ولم يرسلهم من الملائكة ولا من الجن - وجوه : أحدها : أن كل جوهر يألف بجوهره ، وينضم إليه ما لم يألف بجوهر غيره ، ولا ينضم إلى جنس آخر ، فإذا كان كذلك ، والرسل إنما بعثوا لتأليف قلوب الخلق وجمعهم ، والدعاء إلى دين يوجب الجمع بينهم ، ويدفع الاختلاف من بينهم - فإذا كان ما وصفنا بُعِثُوا من جوهرهم وجنسهم ؛ ليألفوا بهم وينضموا إليهم ، والله أعلم . والثاني : أن الرسل لا بدّ لهم من أن يقيموا آيات وبراهين لرسالتهم ، فإذا كانوا من غير جوهرهم وجنسهم لا يظهر لهم الآيات والبراهين ؛ لما يقع عندهم أنهم إنما يأتون ذلك بطباعهم دون أن يأتوها بغير إعطائهم إياها ذلك . والثالث : أن ليس في وسع البشر معرفة غير جوهرهم وغير جنسهم من نحو الملائكة والجن ؛ ألا ترى أن البشر لا يرونهم ؟ ! فإذا كان كذلك بُعِثُوا منهم ؛ ليعرفوهم ولتظهر لهم الحجة ، والله أعلم . ثم المنة الثانية : حيث بعثهم من نسبهم وجنسهم وحَسَبهم لم يبعثهم من غيرهم ؛ وذلك أنهم إذا بعثوا من غير قبيلهم وجنسهم لم يظهر لهم صدقهم ولا أمانتهم فيما ادعوا من الرسالة ، فبعثهم منهم ؛ ليظهر صدقهم وأمانتهم ، لَمَّا ظهر صدقهم وأمانتهم في غير ذلك ؛ فيدلّ ذلك لهم أنهم لما لم يكذبوا بشيء قط ولا خانوا في أمانة - لا يكذبون على الله تعالى . والثاني : أنهم إ ذا كانوا من غير نسبهم فلعلهم إذا أتوا بآية أو براهين يقولون : إنما كان ذلك بتعليم من أحد ، واختلاف إلى أحد ممن يفتعل بمثل هذا ، بعثهم الله منهم ؛ ليعلموا أنهم إذا لم يتعلموا من أحد ، ولا اختلفوا فيه - أنهم إنما علموا ذلك بالله - تعالى - لا بأحد من البشر ، والله أعلم . ألا ترى أن ما أتى به موسى - صلوات الله عليه - من الآيات من نحو : العصا ، واليد البيضاء وغير ذلك لو كان سحراً في الحقيقة لكان من أعظم آيات رسالته : لأنه لم يعرف أنه اختلف إلى أحد في تعلم السحر قط ، وقد نشأ بين أظهرهم ، فكيف ولم يكن سحراً ؟ ! فدل أن لله على خلقه منة عظيمة ؛ فيما بعث الرسل من نسبهم وقرابتهم ، وومن نشأ بين أظهرهم لمعنى الذي وصفنا ، والله أعلم . وقيل : قوله : { رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } ، أي : من العرب معروف النسب أميّاً ؛ ليعلموا أنه إنما أتى به ما أتى سماويّاً وَحْياً ، وألا يرتابوا في رسالته وفيما يقوله ، كقوله : { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ } الآية [ العنكبوت : 48 ] . وقوله - عزّ وجلّ - : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } : يحتمل : إعلام رسالته ونبوته ، ويحتمل الآيات الحجج والبراهين ، هما واحد ، ويحتمل : آيات القرآن . وقوله - عز وجل - : { وَيُزَكِّيهِمْ } : يحتمل : التزكية من الزكاء النماء ، وهو أن أظهر ذكرهم ، وأفشى شرفهم ومذاهبهم ؛ حتى صاروا أئمة يذكرون ويقتدون بهم بعد موتهم ؛ قكوله - تعالى - : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] : أظهره ولم يُخمل ذكرهم ؛ ألا ترى أنه قال : { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 10 ] أي : أخفاها وأخملها ؟ ! ويحتمل : { وَيُزَكِّيهِمْ } ، أي : يطهرهم بالتوحيد ، وقيل : { وَيُزَكِّيهِمْ } ، أي : يأخذ منهم الزكاة ؛ ليطهرهم . وقوله - عز وجل - : { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } أن ينصرف إلى وجوه ، وقد ذكرناه في غير موضع . وقوله - عز وجل - : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } : وقد ذكرنا الضلال أنه يتوجه إلى وجوه : إلى الهلاك ، وإلى الحيرة ، وإلى خمول الذكر وغيره .