Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 159-160)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } : يحتمل هذا وجهين : يحتمل : فبرحمة من الله عليك لنت لهم ؛ كقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ويحتمل قوله : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } : فيجب أن يكون الإنسان رحيماً على خلقه ؛ على ما جاء في الخبر قال لأصحابه : " لَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتََّى تَرَاحَمُوا " ، فقيل : كلنا نرحم يا رسول الله ، فقال : " لَيْسَ تَرَاحُمَ الرَّجُلِ وَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ ، وَلَكِنْ يَتَرَاحَمُ بَعْضُهُم بَعْضاً " أو كلام نحو هذا . وما جاء : " مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، ولَمْ يُوَقِّر كَبِيرَنَا - فَلَيْسَ مِنَّا " ، وما جاء : " مَنْ لَمْ يَرْحَمْ أَهْلَ الأَرْضِ لَمْ يَرْحَمْهُ أَهْلُ السَّمَاءِ " كما قال الله - تعالى - : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ } [ الجاثية : 14 ] الآية ، وقد أمر الله عباده أن يعامل بعضهم بعضاً بالرحمة واللين ، إلا عند المعاندة والمكابرة ؛ فحينئذ أمر بالقتال ؛ كقوله لموسى وهارون - حيث أرسلهما إلى فرعون - فقال : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [ طه : 44 ] ، وكان اللين في القول أنفذ في القلوب ، وأسرع إلى الإجابة ، وأدعى إلى لطاعة من الخشن من القول ، وذلك ظاهر في الناس ؛ لذلك أمر الله - عز وجل - رسلهم باللين من المعاملة ، والرحمة على خلقه ، وجعله سبب تأليف القلوب وجمعها ، وجعل الخشن من القول والفظ سبب الفرقة بقوله : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً } . [ في القول ] { غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } أي : لو كنت في الابتداء فظّاً غليظاً لتفرقوا ولم يجتمعوا عندك . وقوله - عزّ وجلّ - : { فَٱعْفُ عَنْهُمْ } بأذاهم إياك ولا تكافِهِم ، واستغفر لهم فيما بينهم وبين ربهم . ويحتمل قوله : { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ } بما عصوك ولا تنتصر منهم ، وكذلك أمر الله المؤمنين جملة أن يعفوا عنهم ، وألا ينتصروا منهم بقوله : { فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ البقرة : 109 ] وكان أرجى للمؤمنين قوله : { وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ } ؛ كما قال الله - تعالى - : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ … } الآية [ الجاثية : 14 ] ، وقوله - أيضاً - : { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] : لا جائز أن يؤمر بالاستغفار لهم ثم لا يفعل ، وإذا فعل لا يجاب ؛ فدل أنه ما ذكرنا ، والله أعلم . وكذلك دعاء إبراهيم - عليه السلام - : { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ } [ إبراهيم : 41 ] ، ودعاء نوح - عليه السلام - : { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [ نوح : 28 ] لا يجوز أن يدعو هؤلاء الأنبياء - عليهم السلام - ثم لا يجاب لهم . وقوله - عز وجل - : { وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْر } : أمر الله - عز وجلّ - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمر ؛ ففيه وجوه ثلاثة : أحدها : أنه لا يجوز له أن يأمره بالمشاورة فيما فيه النص ، وإنما يأمر بها فيما لا نصّ فيه ؛ ففيه دليل جواز العمل بالاجتهاد . والثاني : لا يخلو أمره بالمشاورة ، إما لعظم قدرهم وعلوّ منزلتهم عند الله ، أو لفضل العقل ورجحان اللب ؛ فيكفما كان فلا يجوز لمن دونهم أن يسووا أنفسهم بهم ، ولا جائز - أيضاً - أن يأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه ، ثم لا يعمل برأيهم ؛ دل أنهم إذا اجتمعوا كان الحق لا يشذ عنهم . وقال بعضهم : إنما أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بمشاورتهم في أمر الحرب والقتال ، وعن الحسن - رضي الله عنه - " لما أنزل الله - تعالى - : { وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْر } - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللهَ وَرسُولَهُ غَنِيَّانِ عَنْ مُشَاوَرَتِكُمْ " ؛ ولكنه أراد أن يكون سنة لأمته " ، وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه كان يقرأ : " وشاورهم في بعض الأمر " . وقيل : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور ، وهو يأتيه وحي السماء ؛ لأنه أطيب لأنفس القومِ ، وأن القوم إذا شاورهم بعضهم بعضاً فأرادوا بذلك وجه الله - عزم الله لهم على أَرْشَدِهِ . وقيل : إن العرب في الجاهلية كانوا إذا أراد سيّدهم أن يقطع أمراً دونهم ، ولا يشاورهم في الأمر شق عليهم ؛ فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم في الأمر إذا أراد ؛ فإن ذلك أعطف لهم عليه ، وأذهب لأضغانهم . وفي بعض الأخبار قيل : " يا رسول الله ، ما العزم ؟ قال : " أن تستشير ذا الرأي ، ثم تطيعه " . وكان يقال : ما هلك امرؤ عن مشورة ، ولا سعد ثبور ، قيل : الثبور : الذي لا يستشير ويعمل برأيه . وقوله - عز وجل - : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } : أي : لا تتكلن إلى نفسك ، ولا تعتمدن على أحد ؛ ولكن اعتمد على الله وَكِلِ الأمر إليه . وقيل : فإذا فرق [ ذلك ] الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك ، فإن كان في أمر الحرب على ما قيل فهو - والله أعلم - لا تعجبن بالكثرة ، ولا ترَيَنَّ النصر به ، ولكن اعتمد بالنصر على الله ؛ كقوله - تعالى - : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } [ التوبة : 25 ] ، والله أعلم بما أراد ، بذلك ؛ كقوله : { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 126 ] . وقوله - عز وجل - : { إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } : صدق الله من كان الله ناصره ؛ فلا يغلبه العدوّ من بعد . { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } [ أي : يترككم ] { فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم } : والنصر يحتمل وجهين ، يحتمل المعونة ، ويحتمل : المنع : كقوله - تعالى - : { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [ آل عمران : 91 ] . قوله - عز وجل - : { إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ } ، أي : أعانكم الله ؛ فلا يغلبكم العدو ، { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } : [ فلم يعنكم ] ؛ فمن [ ذا ] الذي أعانكم سواه ؟ ! ومن المنع ، أي : إن منع الله عنكم العدوَّ ، فلا غالب لكم ، { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } ، ولم يعنكم ، فمن الذي يمنعكم من بعده ؟ ! والخذلان في الحقيقة هو : ترك المأمول منه ما أُمِّلَ منه ، واستعمل في هذا كما استعمل الابتلاء على غير حقيقته . وقوله : { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } : هو على الأمر في الحقيقة كأنه قال : وعلى الله فتوكلوا أيها المؤمنون . والتوكل : هو الاعتماد عليه ، وتفويض الأمر إليه ، لا بالكثرة والأسباب التي يقوم بها ، من نحو : القوة والعدة والنصرة والغلبة ، وفي الشاهد إنما يكون عند الخلق بثلاث : إمّا بالكثرة ، وإمَّا بفضل قوَّة بطش ، وإمَّا بفضل تدبير ورأي في أمر الحرب ، وجميع نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلبته على عدوه إنما كان لا بذلك ؛ ولكن بالتوكل عليه وتفويض الأمر إليه ؛ دل أن ذلك كان بالله - عزَّ وجلَّ - وذلك من آيات نبوَّته صلى الله عليه وسلم .