Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 176-178)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَلاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } يحتمل الآية وجهين : يحتمل : ولا يحزنك الذين ظاهروا غيرهم من المشركين عليكم ، وقد ظاهر أهل مكة غيرهم من المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول الله لرسوله : { وَلاَ يَحْزُنكَ } مظاهرتهم عليك ؛ فإن الله ينصرك ؛ فيخرج هذا مخرج البشارة له بالنصر على أعدائه والغلبة عليهم . ويحتمل - أيضاً - وجهاً آخر : وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتد عليه كفرهم بالله ، ويحزن لذلك ، كقوله - تعالى - : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] ؛ فيخرج قوله : { وَلاَ يَحْزُنكَ } مخرجَ تَسْكينِ الحزن ، ودفْعِهِ عنه ، والتسلِّي عن ذلك ، لا مخرج النهي ؛ إذ الحزن يأخذ الإنسان ، ويأتيه من غير تكلف ولا صنع ، وكقوله - تعالى - : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] : هو على مخرج التسكين والدفع عنه ، لا على النهي ؛ فكذلك الأول - والله أعلم - وكقوله - تعالى - لأم موسى - عليه السلام - : { وَلاَ تَحْزَنِيۤ } [ القصص : 7 ] . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } : يحتمل قوله : { لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } ، أي : لن يضروا أولياء الله - عز وجل - إنما ضرر ذلك عليهم ؛ كقوله - تعالى - : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } [ المائدة : 105 ] . ويحتمل : { لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } ؛ لأنه ليس لله في فعلهم وعملهم نفع ، ولا في ترك ذلك عليه ضرر ؛ إنما المنفعة في عملهم لهم ، والضرر في ترك عملهم عليهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي ٱلآخِرَةِ } : هذه الآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأن الله - تعالى - يقول : أراد ألا يجعل لهم في الآخرة حظاً ؛ المعتزلة يقولون : بل أراد أن يجعل لهم حظّاً في الآخرة ؛ إذ يقولون : أراد لهم الإيمان ، وبالإيمان يكون لهم الحظ في الآخرة ، فثبت بالآية أنه لم يكن أراد لهم الإيمان ، والآية في قوم خاص علم الله - تعالى - أنه لا يؤمنون أبداً ؛ فأراد ألا يجعل لهم حظّاً في الآخرة ، ولو كان على ما تقوله المعتزلة ؛ بأنه أراد أن يجعل لهم حظّاً في الآخرة - لما أراد لهم أن يؤمنوا ، ولكن لم يؤمنوا لكان حاصل قولهم : أراد الله ألا يجعل لمن أراد يؤمن في الآخرة ، وذلك جور عندهم ، وبالله التوفيق . وقوله - عز وجل - : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } : وذكر مرة : { أَلِيمٌ } [ آل عمران : 177 ] ومرة : { شَدِيدٌ } [ آل عمران : 4 ] ؛ لأن التعذيب بالنار أشد العذاب في الشاهد وأعظمه ؛ لذلك أوعد بها في الغائب ، وجعل شرابهم وطعامهم ولباسهم منها ، فنعوذ بالله من ذلك . وقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ } : قد ذكرنا تأويل هذا فيما تقدم . { لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } ما ذكرنا أنه على الوجهين اللذين وصفتهما ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } الآية : اختلف في قراءتها ، قرأ بعضهم بالياء : وبعضهم بالتاء : فمن قرأ بالتاء صرف الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا تحسبن يا محمد أنما نملي لهم خير لهم ؛ إنما نملي لهم ليزدادوا شرّاً . ومن قرأ بالياء : صرف الخطاب إلى الكفرة ، فقال : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } يكون خيراً لهم ؛ بل إنما نملي لهم ليكون شرّاً وإثماً لهم ؛ فالآية على المعتزلة ، لكنهم تأولوا بوجهين : أحدهما : على التقديم والتأخير ؛ كأنه قال : " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما ؛ ، إنما نملي لهم خير لأنفسهم " ؛ فيقال [ لهم ] : لو جاز جعل الآية وصرفها على ما حملتم عليه وصرفتم إليه ، جاز حمل جميع الآيات التي فيها وعد للمؤمنين ، وصرفها إلى الكافرين ، وما كان فيها وعيد للكافرين إلى المؤمنين ؛ إذ لا فرق بين هذا وبين جعلكم الخير مكان الإثم ، والإثمَ مكان الخير ، وبين جعل الوعد في موضع الوعيد ، والوعيد في موضع الوعد . والوجه الثاني : قالوا : أخبر الله - تعالى - عما يئول أمرهم في العاقبة ، لا أن كان في الابتداء كذلك ؛ كقوله - تعالى - : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، ومعلوم أنهم لم يلتقطوا ليكون لهم عدواً وحزناً ؛ ولكن إخبار عما آل أمره في العاقبة أن صار لهم عدواً وحزناً ؛ وكذلك يقال للرجل : سرقت لتقطع ، وقتلت لتقتل ، وهو لم يسرق ليقطع ، ولا قتل ليقتل ؛ ولكن إخبار عما آل أمره وحاله في العاقبة ؛ فكذلك هذا ، لكن الإخبار عما يئول الأمر يخرج مخرج التنبيه عن السهو والغفلة في الابتداء ، فالله - سبحانه وتعالى - يتعالى عن ذلك ؛ فخرج ذلك مخرج التحقيق في الابتداء ، لا مخرج الإخبار عما يئول الأمر في العاقبة ، وبالله التوفيق . والثاني : أن من أراد أمراً يعلم أنه لا يكون فهو لجهل يريد ذلك أو لعبث ، فالله - سبحانه - يتعالى عن الجهل بالعواقب ، أو العبث في الفعل ؛ دلَّ أنه كان على ما أراد ، لا ما لم يرد ، ولو كان الله - سبحانه وتعالى - لا يفعل بخلقه إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين وأَخْيَرُ - لم يكن لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإعجاب بما أعطى الكفرة من الأموال والأولاد بقوله - سبحانه وتعالى - : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ … } [ التوبة : 55 ] الآية ؛ دلّ أنه قد يعطي ما ليس [ هو ] بأصلح في الدين ولا أَخْيَرَ ، والله أعلم . وقال الشيخ - رحمه الله - : في قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } ، وقولهِ - تعالى - : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا … } الآية [ التوبة : 55 ] وقوله - تعالى - : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 - 56 ] ونحو ذلك من الآيات - فيها وجهان على المعتزلة : أحدهما : قولهم في الأصلح : إن الله - تعالى - لو فعل بالخلق شيئاً غيرُهُ أصلحُ لهم في الدين في حال المحنة - كان ذلك جَوْراً ، ومعلوم أن الفعل بهم ؛ ليزدادوا إثماً لا يبلغ في الصلاح في الدّين الفعلَ بهم ؛ ليزدادوا به برّاً ، ومعلوم أنه لو كان كذلك لم يكن ليجوز أن يحذر رسوله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فيقول : لا يعجبك كذا ؛ فكأنه قال : لا يعجبك الذي هو صلاح في الدّين ، ثم يؤكد ذلك بأنه جعل لهم ذلك ليعذبهم بها ، ثم شهد على من حسب ما حسبته المعتزلة بأنهم لا يشعرون ؛ فكان ذلك شهادة منه - عز وجل - على كل من وافق رأيُهُ رأيَ أولئك الكفرة : أنهم لا يشعرون ، ومعلوم أن الجبابرة والفراعنة لو لم يجعل الله - تعالى - لهم تلك الحواشي والملك والقوة لم يكن ليجترئوا على دعوى الربوبية ، ويبلغوا في المآثم ما بلغوا ؛ فيكون فوت ذلك أصلح لهم في الدين ، وقد قال الله - تعالى - : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ … } الآية [ الزخرف : 33 ] ، ثم كان معلوماً أنه إذا كان بما يجعل ذلك للفكرة يكفرون ، فلو جعل للمؤمنين يؤمنون ، ثم يجعل كذلك ، [ والله أعلم ] . وأيّد ذلك قوله - تعالى - : { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا … } الآية [ التوبة : 55 ] . والثاني : أن الإرادة إذ هي صفة لكل فاعل مختار في الحقيقة ، وقد أخبر لأي وجه أعطى ؛ ثبت أنه أراد ذلك مع ما كان المتعالم من فعل كل أحد لا يخرج على ما أراده ولا يبلغ به ما لو فعل أنه يكون على جهل أو سفه . فالأول : يكون فعله على ظن أن يكون ذلك فلا يكون . والثاني : إذا علم ألا يكون ؛ فيكون له به عابثاً سفيهاً ، جلّ الله - تعالى - عن الوجهين ، ثبت أن فعله لما علم أنه يكون لا لغيره ليلحقه به وصف جهل أو سفه ؛ وبهما سقوط الربوبية . ثم وجهت المعتزلة الآية إلى وجهين : أحدهما : على التقديم والتأخير بمعنى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً إنما نملي خير لأنفسهم . وذلك فاسد لوجهين : أحدهما : لو كان جعل الخير شرّاً والشرّ خيراً بالتأويل ، وصرف الآية على سياقها ونظمها - لجاز ذلك في كل وعد ووعيد ، وأمر ونهي ، وتحليل وتحريم ؛ فيصير كل أمور الدنيا مقلوباً . والثاني : أنه لو كان كذلك لكان يجب أن يعجب به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ على كل ذلك معجباً ، ولكانوا فيما حسبوا أن ذلك ضرب لهم - يشعرون ، لا ألا يشعرون ، مع ما قيل : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } بالياء في بعض القراءة ، ومتى كان يحسب الكفرة ذلك شرّاً حتى يعاتبوا على الحسبان ؟ ! والله الموفق . والثاني : قالوا ذلك خبر عما يئول الأمر إليه ؛ كقوله - تعالى - : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، وهم لا لذلك التقطوا ، وكمن يقول للسارق : سرقت لتقطع يدك ، وكما يقال : [ من الوفر ] @ … لدوا للموت وابنوا للخراب @@ والذي قالوه إنما هو تنبيه وإيقاظ لقوم لا يذكرون عواقب الأمور ، فيحرصون عليها عن غفلة بالعواقب ، فأمّا الله - سبحانه وتعالى - فمحال أن يكون أمره على ذلك ليكون فيما يذكره ذلك ؛ ألا ترى أن أحداً لا يقول : ولدت للموت ، أو بنيْتُ للخراب ؛ لأنه لا لذلك يفعل ، وإن كان إليه يئول ، وإنما قول الواعظ لهم بما ذكرت ؛ كذلك بطل هذا ، وأمر قوم فرعون لم يقل : ليكون لهم عندهم ؛ إنما هو ليكون لهم عند الله تعالى ، وبما أراد الله ، وكان كذلك ، ولا قوة إلا بالله . وقد بيّنا ما في الحكمة تحقيقه من طريق الاعتبار - ولا قوة إلا بالله - والأصل في ذلك أن الله - تعالى - عالم بمن يؤثر عداوته ويعاند آياته ، فإرادته ألا يكون منه ذلك حاجة إليه في موالاته ، أو إيجاب غلبة عليه في بعض ما يريد ، جل الله عن هذا الوصف .