Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 190-194)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } : في الآية وجوه . أحدها : أنه خلق السماوات والأرض للبشر ولمنافعهم ، لا أنه خلقهما لأنفسهما : لا منفعة لهما بخلقه إياهما ؛ حتى يكون خلقه لأنفسهما ؛ إذ خلق الشيء لا لمنفعة أحد أو للفناء خاصة - عَبَثٌ ، فإذا كان ما ذكرنا أنه لا منفعة لهما في خلقهما - دل أنه إنما خلقهما لمنافع البشر ، وسخرهما لهم ، ثم جعل منافع السماء مع بُعْدِها من الأرض متصلة بمنافع الأرض ؛ حتى لا تقوم منافع هذا إلا بمنافع الآخر ؛ فيصيرهما كالمتصلين ؛ لاتصال المنافع مع بعد ما بينهما ؛ فدل هذا أن الذي أنشأهما واحد . وكذلك : { وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } : هما مختلفان : أحدهما ظلام والآخر نور ، يُفْنِيان الأعمار ويقربان الآجال ، وليس بينهما في رأي العين تشابُهٌ ولا تشاكل ؛ إذ أحدهما نور والآخر ظلام ، وهما متضادان ، لكن خلقهما لمنافع البشر ، والمقصود بخلقهم بنو آدم لا أنفسُهُم ، على ما ذكرنا أنْ لا منفعة لهم في خلقهم ، ثم صيَّرهما مع اختلافهما وتضادهما كالشكلين ؛ لاتصال منافع بعضها ببعض ؛ دل أن منشئهما واحد ، وأنه عليم حكيم ؛ حيث جمع من المتضادين المختلفين وصيَّرهما كالشكلين ؛ وهما لعلم وحكمة وتدبير صارا كذلك . وفهيما دلالة البعث ؛ لأنهما يَفنيان حتى لا يبقى من الليل أثر حتى يجيء النهار ، فيذهب النهار أيضا حتى لا يبقى من النهار أثر ، فيجيء آخر ، لا يزالان كذلك ، فإذا كان قادراً على خلق الليل وإنشائه من غير أثر بقي من النهار ؛ وكذلك قادر على إنشاء النهار من غير أن بقي من الليل أثر ظلام - لقادر على أن ينشئ الخلق ثانياً ويحييهم ، وإن فَنُوا وهلكوا ولم يبق منهم أثر ؛ فإذا كان ما ذكرنا من خلق السماوات والأرض وما فيهما لمنافع البشر ، وهو المقصود من خلقهما لا غيرهم من الخلائق ؛ لما ركب فيهم من العقول والبصر الذي بهما يميزون بين المنافع والمضار ، وبين الخبيث والطيب ، وبين الحسن والقبيح ، ولم يركب ذلك في غيرهم من الخلائق - لابدَّ من أمر ونهي : يأمر بأشياء ، وينهى عن أشياء ؛ يمتحنهم على ذلك ؛ إذ هم أهل التمييز والفهم والبصر ؛ فإذا كان ما ذكرنا ، لا بد - أيضاً - من دار أخرى للجزاء ، يُكْرَمُ المطيع له فيها والولي ، و يُعَاقَبُ العدو فيها والعاصي ، ولا قوة إلا بالله . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } : يحتمل هذا لما جعل الله - تعالى - على العبد في كل حالٍ نعمةً ليست تلك في غيرها من الأحوال ، نحو : أن جعل القيام نعمة في قضاء حوائجه وتقلبه في تلك الحال ، وجعل القعود راحة له عند الإعياء ، وكذلك الأضطجاع ؛ فاستأداهم بالشكر له في كل نعمة على حال من تلك الأحوال ، ومدحهم على ذلك إذا فعلوا . ويحتمل : أن يكون - تعالى - أمرهم أن يذكروه في كل حال : في حال الرخاء والشدة ، وفي الضراء والسراء ، لا في حال دون حال ، على ما يفعله بعض خلقه : يذكرونه في حال الشدَّة والضراء ، ولا يذكرونه في حال الرخاء واليسر ، ويذكرونه في حال الرخاء واليسر ، ولا يذكرونه في حال الشدة والبلاء ، فمدح المؤمنين أنهم يذكرونه في كل حال ، لا على ما يفعله أهل الشرك [ على إرادة نفس القيام ] ، ونفس القعود والاضطجاع ؛ ولكن على كل حال وفي كل وقت ، والله أعلم . وقيل : إنه جاء في رخصة صلاة المريض : يصلِّي قائماً إن استطاع ، وإلا فقاعداً إن لم يستطع ، وإلا فمضطجعاً ، وكذلك روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال ذلك . وقوله - عز وجل - : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } إذ في خلقهما دليل وحدانيته ، وشهادة ربوبيته . { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } : أي : عبثاً ، ولكنَّ خَلْقَهُمْ دَلِيلٌ على وحدانيتك ، وشاهد على ربوبيتك . وقوله - عز وجل - : { سُبْحَانَكَ } : هو للتبرئة ، والتنزيه : هو إبعاده عن العيب ، وتبريئه منه ، وتطهيره عما يقول الكفار ، وهو حرف يقدم عند حاجات ترفع إليه ، ودعوات يدعى بها . وقوله - عز وجل - : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } : قيل : أَذْلَلْتَهُ وفضحتَهُ وأهنتَه . { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } : أي : مانع يمنع عنهم العذاب ويدفع ، ويحتمل الأنصار : الأعوان ، أي : ليس لهم أعوان يعينونهم في الآخرة . وقوله - عز وجل - : { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ } : يحتمل هذا وجهين : أحدهما : على حقيقة السمع أن سمعنوا منادياً يدعوهم إلى الإيمان ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم أو القرآن ، كلاهما يدعوان الخلق إلى الإيمان بالله . ويحتمل قوله : { سَمِعْنَا } ، أي : عقلنا ، وعَقْلُ كُلِّ أحد يدعو إلى التوحيد والإيمان به . وقيل : سمعوا دعوة الله فأجابوها ، وصبروا عليها . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : المنادى : محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم قرأ : { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ … } الآية [ الأنعام : 19 ] . وعن غيره : المنادى هو القرآن ، ويدعوهم { أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ } . [ وقوله - عز وجل - : { فَآمَنَّا رَبَّنَا } فيه دلالة أن الإيمان ليس هو جميع الطاعات ، على ما يقول بعض الناس ؛ ولكنه فرد تصديق ؛ لأنه لما قال لهم : آمنوا بربكم لم يطلبوا التفسير ، ولا قالوا : كم أشياء تكون ؟ ! ، ولكن أجابوه إجابة موجزة ، فقالوا : { فَآمَنَّا رَبَّنَا } ] . ثم فيه دلالة أن لا ثُنَيَّا في الإيمان ؛ لأنهم أطلقوا القول في الإخبار عن إيمانهم من غير ذكر حرف الثنيا ؛ دلَّ أن الإيمان مما لا يحتمل الثنيا . وقوله - عز وجل - : { رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } : قيل : قولهم : { فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } : التي كانت فيما مضى من عمرنا ، { وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } ، أي : اعصمنا فيما بقى من عمرنا ، أو : وفقنا للحسنات التي تكفر سيئاتنا ؛ لما قد يلزم العبدَ التكفيرُ لما أساء . وقيل : المغفرة والتكفير كلاهما سواء ؛ لأن المغفرة هي الستر ، وكذلك التكفير ؛ ولذلك سُمِّي الحراثون : كفاراً ؛ لسترهم البذر في الأرض ؛ وكذلك الكافر سمي كافراً ؛ لستره الحق بالباطل ، ولستره جميع ما أنعم الله عليه بتوجيه الشكر إلى غيره ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ } : يحتمل قوله : { وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ } ، أي : توفنا واجعلنا مع الأبرار . ويحتمل : وتوفنا من الأبرار وفي الأبرار . ثم اختلف في البَرِّ : قيل : هو الذي لا يؤذي أحداً ، وقيل : الأبرار : الأخيار . ويحتمل : توفنا على ما عليه توفيت الأبرار ، وتوفنا وإنَّا أبرارٌ . والبر : الطاعة ، والتقوى : ترك المعصية . وقوله - عز وجل - : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } : قيل فيه وجهين : قيل : وآتنا ما وعدتنا على ألسن رسلك ، على إضمار " ألسن " كقوله - عز وجل - : { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً } [ الأحزاب : 47 ] وقيل : { مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } ، أي : ما جعلت عليهم من الاستغفار للمؤمنين ؛ كقوله : { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] ، وكقوله إبراهيم - عليه السلام - : { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } [ إبراهيم : 41 ] ، وكقول نوح - عليه السلام - : { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [ نوح : 28 ] . ثم بيننا وبين المعتزلة كلام في الآية : قالت المعتزلة : يجوز الدعاء والسؤال عنه بما قد أعطى ، وما عليه أن يعطي نحو ما ذكر من السؤال بما وعد ، وما وعد لا شك أنه يعطي ، وأنه لا يخلف المعياد ، ونحو قوله - عز وجل - : { قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } [ الأنبياء : 112 ] وهو لا يحكم بالجور . وأما عندنا : أن السؤال عما عليه أن يعطي - يخرج مخرج الدعاء له ربنا لا تَجُرْ ولا تَظْلم ، إن هذا لا يقال إلا لمن يخاف الجور منه والظلم ؛ إذ يعلم أن ذلك عليه ، والسؤال عما قد أعطى محال ؛ لأنه يخرج مخرج كتمان ما أعطى ، أو ليس عنده ما يعطيهم ؛ فيخرج مخرج السخرية به ؛ لذلك بطل السؤال ، والله أعلم . ثم تأويل الآية عندنا على وجوه : أحدها : قوله : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } ، يحتمل أن يكون الوعد منه لرسله باستغفار الرسل ، إذا كان من المؤمنين استغفار وسؤال ؛ كقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ … } الآية [ النساء : 64 ] : وعد لهم المغفرة لهم باستغفار الرسول ؛ إذا كان منهم استغفار وسؤال ، يقول : اجعل دعائي دعاء من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستغفراً فاستغفر له ، وكقوله - أيضاً - : { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } [ الفرقان : 16 ] . والثاني : يحتمل أن يكون الوعد : لهم إذا ماتوا على ذلك ، فالدعاء كان منهم ، والسؤال : أنه إذا أماتهم يميتهم على الإيمان ، على ما كانوا أحياء ، والمغفرة والرحمة حينئذ تكون لهم ؛ ألا ترى أنه قال : { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ } [ الأنعام : 160 ] فله كذا ، ولم يقل : من عمل بها فله كذا ، ولكن ذكر مجيئه بها ، فعلى ذلك الأوَّل ، والله أعلم . ثم يحتمل ما ذكرنا ، والله أعلم . وفيما ذكر من تأويل الآية في الابتداء كفاية من ذلك ، والله أعلم . والثالث : يدعو ؛ ليجعلهم من الجملة الذين كان لهم الوعد ؛ إذ الوعد غير مُبَيَّنٍ لمن هو ؛ فسألوا أن يجعلهم في تلك الجملة ، والله أعلم .