Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 189-189)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الله - تعالى - : { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } : امتدح - جل ثناؤه - بإدخال كلية الأشياء تحت قدرته ، وبه خَوَّفَ من عاند نعمته ، وأطمع من خضع له عظيم ثوابه ؛ فلئن جاز إخراج شيء تحت القدرة عن قدرته ، لاضمحل الخوفُ عما خوَّفَهُ ، والرجاءُ فيما أطمعه ؛ إذ لم يظهر على ذلك قدرته إلا بقوله : { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 120 ] ، وما لا صنع لأحد في شيء إلا بأقداره ، ومحال أن يقدر على ما لا يقدر هو عليه ، أو يزول به قدرته ؛ لما فيه ما ذكرت ؛ فلذلك قلنا في بطلان قول المعتزلة بإخراج أفعال صنع الخلق عن قدرة الله ، وامتناعه عن تدبيره ، ولا قوة إلا بالله . قال الله - عز جل - : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } إلى قوله - عز وجل - : { لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ آل عمران : 190 ] : نقول - وبالله نستعين - : أخبر الله - تعالى - أن فيما ذكر آيات لمن ذكر ، ومعلوم أن الآيات إنما احتيج إليها لمعرفة أمور غابت عن الحواس ، يوصل إليها بالتأمُّل والبحث عن الوجوه التي لها جعلت تلك الأشياء المحسوسة ، التي يغني من له اللبّ دخولها تحت الحواس - عن تكلف العلم بها بالتدبير ، بل علم الحواس هو علم الضرورات وأوائل علوم البشر الذي منه يرتقي إلى درجات العلوم ؛ فيلزم طلب ذلك ؛ فيبطل به قول من قال : العلوم كلها ضرورات لا تقع بالأسباب ، ولا يلزم الخطاب دون تولي الرب إنشاءَ العلم في القلوب بحقيقه ما فيه الخطاب ؛ إذ ذلك يرفع حق الطلب ، ويستوفي فيه الموصوف باللبِّ وغير الموصوف ، والمتفكر في الأمر وغير المتفكر ، وقد قال الله - تعالى - : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } الآية [ آل عمران : 191 ] ، وفي ذلك دليل أن المقصود مما أظهر ليس هو ما أظهر ، إذ لزم التفكر بالذي أظهر ؛ ليوصل به إلى العلم بالذي له أنشأ الذي أظهر ، ويعلم ما جعل في الذي دليله وعلمه ، وهذا لكل أنواع العلوم أن منها ظاهراً مستغنيا بظهوره عن الطلب ، وخفيّاً يطلب بما له في الذي ظهر من أثر ينبئ عنه التأمل ، والله أعلم . وفي ذلك دليل لزوم التوحيد باللبِّ ؛ إذ صيرها آيات لمن له ذلك ، وأوَّل درجات الآيات أن يُعَرف منشئها وجاعلها آيات ، والله أعلم . ثم دلَّ اتصال منافع السماء والأرض على تباعد ما بينهما ، حتى قام بها وحي جميع من درب على وجه الأرض وانتفع بشيء ، ثم في إيصال الليل بالنهار في منافع كل حي على تضادِّ ما بينهما ؛ حتى صارا كالشكيلين ، والسماء والأرض كالقرينين - على أن منشئ ذلك كله واحد ، وأنه لو اختلف الإنشاء لتناقض التدبير ، وبَطَلَ وجوه النفع ، وأن الذي أنشأ ذلك علم كيف يدبر لاتصال المنافع واجتماعها بغيرها ، على اختلافِ مابينها ، وأنه حكيم وضع كل شيء على ما لو تدبر الحكماء فيه - لم يكن يُعْرَفُ اتصالٌ أقرب في المنافع على اختلاف في الجواهر ، وتضاد في الأحوال - أبلغَ من ذلك ؛ بل تقصر حكمتهم عن الإحاطة بوجه الحكمة ، أو الظفر بطرف منها ، إلا بمعونة مَنْ دَبَّرَ ذلك سبحانه ، وذلك هو الدليل على قدرته وعلو سلطانه ؛ إذ سخر ذلك كلها لبذل ما فيها من المنافع لمن جعلها له ، وجعل لبعض على بعض سلطاناً وقهراً ؛ ليُعْلَمَ أن التدبير يرجع إلى غير ذلك ، ويُعْلَمَ أن من قَدَرَ على ذلك ، وعلم قبل خلق المنتفعين بما خلق على أيِّ تدبير [ يخلق ذلك ، وبأيِّ وجه يصل كل خلق في ذلك إلى منافعه بها ، وما الذي سوى معاشهم ، وعلى أيِّ تدبير ] دلهم عليه - لقادر على إعادة مثله ، والزيادة منه على أنواع ذلك ؛ إذ كل أمر له حق الابتداء - كان ذلك أبعد عن التدبير مما له حق الاحتذاء بغيره أو الإعادة ، مع ما كان في إعادة الليل والنهار ، وجعل كُلٍّ من ذلك [ كالذي ] مضى ، وإن كان الذي مضى - مرة - دلالة كافية للبعث والقدرة عليه ، والله الموفق . ومنها : أنها جعلت على تدبير يُعَرِّفُ صَاحِبَهَا ومُنْشِئَهَا ، وأنه دبرها على ما فيها من وجوه الحكمة التي صارت الحكمة جزءاً منها ، وفنون العلم التي تنال بالتأمل فيها ، مما يوضح أن الذي أبرمها حكيم عليم ، مع ما فيها من آثار الإحكام والإتقان الكافية في الإنباء عن الإنشاء للحكمة ، وأن الذي أبدع ذلك ليس بعابث ولا سفيه . ثم معلوم أن الفعل للهلاك والفناء غيرُ داخل في الحكمة ؛ ثبت أن ذلك غير مقصود ؛ فصار المقصود من ذلك وجهاً يبقى ؛ فثبت أن مع هذه داراً أخرى تبقى ، فهي المقصود ، وجعلت بحق الجزاء ؛ وفي ذلك لزوم المحنة والقول بالرسالة ؛ ليعلم بالوحي كيفية وجوه المحنة مع ما لم يخل شيء من أن يكون فيه آثار النعمة ، من غير أن كان منه ما يستحق ذلك ؛ فثبت أنه في حق الابتداء ، ولازمٌ شكر المنعم في العقول ؛ فيجب به وجهان : أحدهما : القول بالرسل ؛ لبيان وجوه الشكر ؛ إذ النعم مختلفة ، وأصل الشكر يتفاضل على قدر المنعمين ؛ وكذلك النعم تتفاضل على قدر تفاضل متوليها ، لا بد من بيان ذلك ممن يعرف حقيقة مقادير النعم ، وجلالة حق المنعم ، وبالله التوفيق . فكان فيها آيات الرسالة والتوحيد ، وحكمته وقدرته وعلمه وجلاله عن الأشباه والشركاء ، وبها جل عن احتمال الشرك في صنعه ، أو الشبه في فعله على أن كلِّيَّةَ كُلِّ مَنْ سواه تحت القدرة ، وهو المتعالي عن ذلك . وفيه دلالة البعث ؛ لما ذكرت ، ولما إذ لزم الشكر بما ذكرت - لزمت عقوبة الكفران ، وقد يخرج المعروف به سليماً غريقاً في النعم ، وفي الحكمة والعقل عقوبته - لزم أن يكون ثَمَّ دارٌ أخرى ، مع ما كان خلق الخلق ، لا لمن يعرف الحكمة من السفه ، والولاية من العداوة ، والخير من الشر ، والرغبة من الرهبة ، لا معنى له بما فيه تضييع الحكمة ، وجمع بين الذي حقه التفريق في الحكمة والعقل ، وذلك آية السفه ، ومحال كونه ممن الحكمة صفته والعدل نعته ؛ فلزم [ به ] خلق الممتحن بالذي ذكرت ؛ فصار جميع الخلائق للمحن . ثم لا بدَّ من ترغيب و ترهيب ؛ إذ على مثله جُبِل محتملو المحن ؛ فلزم به القول بالدار الأخرى ، وهو البعث ؛ ليكون إحداهما بحق ابتداء النعم ، والأخرى : بحق استحقاق الجزاء ، وإن كان لله التكليف بلا ، جزاء سابق النعم ، ولا قوة إلا بالله . والمعاقبة واجبة في الحكمة للجفاء والكفران ، وبالله التوفيق . وقوله - عز وجل - : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ } وقيل : [ بمفازة ، أي : بنجاة من العذاب ، وهو ما ذكرنا من الفوز أنه نجاة على ما يخاف ويحذر ، أي : ليسوا هم بنجاة ] من العذاب ، بل لهم عذاب أليم . وقوله - عز وجل - : { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } : يشبه - والله أعلم - أن يكون هذا جواباً لقولهم : { لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [ آل عمران : 181 ] أي : كيف جاز نسبة الفقر إليه والحاجة ، وله ملك ما في السماوات وما في الأرض ؟ ! ونسبة الغنى إلى أنفسكم ، وأنتم عبيده وإماؤه ، وما في يد العبد يكون لمولاه ؟ ! . أون أن يكون جواباً لقولهم : { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } [ البقرة : 116 ] أي : كيف يجوز أن يتخذ ولداً ، وله ملك ما في السماوات وما في الأرض ، كلهم عبيده وإماؤه ؟ ! والولد في الشاهد إنما يُتَّخَذُ لأحد وجوه ثلاثة : إمَّا لوحشة أصابته فيستأنس به ، أو لحاجة تبدو له فيُدْفع به ، أو لقهر وغلبة يخاف من عدوٍّ ؛ فيستنصر به على أعدائه ، ويرث ملكه إذا مات . فإذا كان الله له ملك السماوات والأرض وتعالى عن أن يصيبه شيء من ذلك ؛ كيف جاز لكم أن تقولوا : اتخذ ولداً ؟ ! وإن كان الخلق كلهم عبيده وإماءه ، وأنتم لا تتخذون الأولاد من عبيدكم وإمائكم ؛ كيف زعمتم أنه اتخذ ولداً من عبيده ؟ ! . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } : وهذا على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : لا يقدر على خلق فعل العبد ، وعلى قولهم : غير قادر على أكثر الأشياء ، وهو قد أخبر أنه على كل شيء قدير .