Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 58-63)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } ، قيل : ذلك الذي ذكر في هذه الآية : نتلو عليك يا محمد . { مِنَ الآيَاتِ وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ } . هو المحكم ، وقيل : { ٱلْحَكِيمِ } ، أي : من نظر فيه وتفكر يصير حكيماً ؛ كما قال : { وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } [ يونس : 67 ] ، أي : يبصر فيه ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } : قيل في القصَّة : إن نصارى من أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له : إنك تشتم صاحبنا عيسى بن مريم ، تزعم أنه عبد ، وهو يُحْيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فيطير ، فأرنا فيما خلق الله عبداً مثله يعمل هذا ، والنصارى في الحقيقة مشبهة وقدرية : وأمَّا التشبيه : فإنما حملهم على ذلك ظنهم في قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم ؛ حيث قال : { رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] ؛ ظنوا إن عيسى لما قال : { أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ } [ آل عمران : 49 ] أنه رب وإله ؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - أخبر أن ربه { ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] ؛ فسموا عيسى إلهاً بهذا ، وهم كانوا يرون عيسى يأكل ويشرب وينام ؛ فلولا أنهم عرفوا الله - عز وجل - وإلاّ ما شبهوه به ، تعالى الله عن ذلك . وأمّا القدرية : فلما لم يروا الله في أفعال العباد صنعاً ؛ إنما رأوا ذلك للخلق خاصة ، فلما رأوا ذلك من عيسى - عليه السلام - ظنوا أنه ربٌّ ؛ لما لم يروا ذلك من غيره ، ولو كانوا عرفوا الله حق المعرفة ، لعلموا أن لم يكن من عيسى إلا تصوير ذلك الطير وتمثيله ، ويكون مثله من كل أحد ؛ وإنما الإحياء كان من الله - عز وجل - أجراه على يدي عيسى - عليه السلام - وأظهره ، وإنما كان من عيسى تصويره فقط ؛ وكذلك ما كان من إبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الله - عز وجل - أجراه على يديه آيات لنبوته ؛ لأنهم ادعوا له الربوبية من وجهين : لكونه من غير أب ، ولآياته . ثم قوله : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } - يحتمل وجهين - والله أعلم - : أحدهما : أن الله - عز وجل - صور صورة آدم من طين ، ثم جعل فيه الروح ، لم يجز أن يقال صار آدم حيّاً من نفسه ؛ لوجود صورته ، كيف جاز لكم أن تقولوا : إن عيسى لمّا صوَّر ذلك الطير من الطين ، صار محيياً له بتصويره إياه دون إحياء الله - تعالى - إياه ؟ ! والله أعلم . والثاني : أن آدم - عليه السلام - خُلِقَ لا من أب وأم ، ثم لم تقولوا : إنه رب أو إله ، فكيف قلتم في عيسى : إنه إله ؛ وإنه خلق لا من أب ؛ إذ عدم الأبوة في آدم لم يوجب أن يكون ربّاً ؛ وكيف أوجب عدم الأبوة في عيسى كونه ربّاً وإلها ؟ ! والله الموفق . وإنما كان عيسى بقوله : " كن " - كما كان آدم ، أيضاً ، بـ " كن " - من غير أب . وقوله : { كُنْ } : قد ذكرنا أنه أوجز كلام في لسان العرب يعبر فيؤدي المعنى ؛ فيفهم المراد ، لا أن كان من الله - عز وجل - كاف ، أو نون ، أو وقت ، أو حرف ، أو يوصف كلامه بشيء مما يوصف به كلام الخلق ، تعالى الله عن ذلك . وقوله : { فَيَكُونُ } : يحتمل وجهين : يحتمل " يكون " ، بمعنى : كان ، والعرب تستعمل ذلك ولا تأبى . والثاني : أن تكون الكائنات بأسبابها في أوقاتها التي أراد كونها على ما أراد ، وأصل ذلك ، إذ ذكر الله ووصف بذكر بلا ذكر وقت في الأزل ، وإذا ذكر الخلق معه يذكر الوقت ، والوقت يكون للخلق يقول : خالق لم يزل ، وخالقه في وقت خلقه . وقوله : { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } : يحتمل هذا وجوهاً : يحتمل أن يكون الخطاب لكل أحد قال في عيسى ما قالوا ، أي : لا تكن من الممترين في عيسى أنه عبد الله خالصاً ، وأنه نبيه ورسوله إليكم . ويحتمل أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ؛ وهكذا عادة ملوك الأرض أنهم إذا أرادوا أن يعرفوا رعيتهم شيئاً ، يخاطبون أعقلهم وأفضلهم وأرفعهم منزلة وقدراً عندهم ؛ استكباراً منهم مخاطبة كل وضيع وسيفه ؛ فكذلك [ ولله المثل الأعلى ] الله - عز وجل - خاطب نبيّه ؛ إعظاماً له وإجلالاً ، والله أعلم . ويحتمل ما ذكرنا فيما تقدم أن العصمة لا تمنع الأمر ولا النهي ؛ بل تزيد أمراً ونهياً ، وإن كان يعلم أنه لا يكون من الممترين أبداً ، والله الموفق . وقوله : { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ } الآية . دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة ، فالمباهلة في لغة العرب : الملاعنة ، دعاهم إلى الدعاء باللعنة على الكاذبين ، فامتنعوا عن ذلك ؛ خوفاً [ منهم لحوق اللعنة ؛ فدل امتناعهم عن ذلك أنهم عرفوا كذبهم ، لكنهم تعاندوا ] وكابروا ؛ فلم يقروا بالحق . وقوله : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ } : يعني : الخبر الحق . وقوله : { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } : ظاهر ، قد ذكرناه فيما تقدم ، والله أعلم . وقوله : { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } ، يحتمل : خبر الحق في أمر عيسى - عليه السلام - أنه كان عبداً بشراً نبيّاً ، { فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } ، أي : لا يحملنك شدة لجاجتهم وكثرتهم في القول فيه بهذا الوصف على الشك في الخبر الّذي جاءك عن الله ؛ كقوله : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ } إلى آخره [ هود : 12 ] : على الموعظة ، لا على أن يكون كذلك ، أو على ما سبق ذكره ، والله أعلم . ويحتمل : { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } ، أي : كل حق فهو عن الله جائز إضافته إليه ، على الوجوه التي تضاف إليه ، الباطل من الوجه الذي هو باطل ، { فَلاَ تَكُنْ } في ذلك { مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } ، والله أعلم . وجائز أن يقول : جعل الله ذلك الفعل ممن فعله باطلاً ، ولا يقال : الباطل من الله ، والله أعلم .