Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 54-57)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } . مكروا بنبيّ الله عيسى - عليه السلام - حيث كذبوه وهمّوا بقتله ، { وَمَكَرَ ٱللَّهُ } ، أي : يجزيهم جزاء مكرهم ؛ وإلا حرف المكر مذمومٌ عند الخلق ؛ فلا يجوز أن يسمَّي الله به إلا في موضع الجزاء ؛ على ما ذكره - عز وجل - في موضع الجزاء ؛ كقوله : { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ … } [ البقرة : 194 ] والاعتداء منهي [ عنه ] غير جائز ؛ كقوله : { وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } [ البقرة : 190 ] ؛ فكان قوله : { فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ … } هو جزاء الاعتداء ؛ فيجوز ؛ فعلى ذلك المكر والخداع والاستهزاء : لا يجوز أن يسمَّى به ، فيقال : يا ماكر ، ويا خادع ، ويا مستهزئ ؛ لأنها حروف مذمومَّة عند الناس ؛ فيَشْتُمُ بعضهم بعضاً بذلك ؛ لذلك لا يجوز أن يسمَّى الله - تعالى - به إلا في موضع الجزاء . وبالله العصّمة . وقوله : { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } : أي : خير الجازينَ أهل الجور بالعدل ، وأهل الخير بالفضل . وقيل : { وَمَكَرُواْ } ؛ حيث كذبوه وهمَّوا بقتله ، { وَمَكَرَ ٱللَّهُ } ؛ حيث رفع الله عيسى - عليه السلام - وألقى شبهه على رجل منهم حتى قتلوه ؛ فذلك خير لعيسى - عليه السلام - من مكرهم . وقيل : { وَمَكَرُواْ } ، أي : قالوا ، { وَمَكَرَ ٱللَّهُ } : قال الله . وقولهم الشرك ، وقال لهم : قولوا التوحيد . { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } ، أي : خير القائلين . قال الشيخ - رحمه الله - : { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } ؛ بما بالحق يمكر ، ويأخذ من استحق الأخذ ، وهم لا ، والله أعلم . والمكر : هو الأخذ بالغفلة ، والله يأخذهم بالحق من حيث لا يعلمون ؛ فسمي مكراً لذلك ؛ كما يقال : امتحنه الله وهو الاستظهار ، ولكن لا يراد به هذا في [ حق ] الله . وقوله : { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } : اختلف فيه : قيل : هو على التقديم والتأخير : ورافعك إليَّ ، ثم متوفيك بعد نزولك من السماء ، ولكن هو التقديم والتأخير ، ولم يكن في الذكر فهو سواء ؛ لأنا قد ذكرنا أنْ ليس في تقديم الذكر ، ولا في تأخيره ما يوجب الحكم كذلك ؛ لأنه كَمْ مِنْ مُقَدَّمٍ في الذكر هو مؤخَّر في الحكم ، وكم من مؤخر في الذكر هو مقدم في الحكم ، فإذا كان كذلك : لم يكن في تقديم ذكر الشيء ، ولا في تأخيره - ما يدل على إيجاب الحكم كذلك ؛ كقوله : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا } [ الزمر : 42 ] : فإنما هو قبض الأرواح ؛ فيحتمل الأول كذلك ، ويحتمل توفي الجسم ، أي : متوفيك من الدُّنيا ، أي : قابضك ، وليس بوفاة موت . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } ، أي : مميتك وهو ما ذكرنا ؛ ليعلم أنه ليس بمعبود . وقوله : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } : هو على تعظيم عيسى - عليه السلام - ليس على ما قالت المشبهة بإثباتها المكان له ؛ لأنه لو كان في قوله : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } يوجب ذلك ، يجب أن يكون أهل الشام أقرب إليه ؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - قال : { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] ، والكفرة إليه قريب منه ؛ كقوله : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } ؛ دل هذا أن ما قالوا خيال فاسد - تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً - ولكن على التعظيم التبجيل ، أعني : المضاف إليه . والأصل في هذا : أن الخاص إذا أضيف إلى الله فإنما يراد به تعظيم ذلك الخاص ؛ نحو ما قال : " بيت الله " ؛ على تعظيم البيت ، { نَاقَةَ ٱللَّهِ } [ الشمس : 13 ] ؛ فهو على تعظيم الناقة ، ونحوه مما يكثر [ وقوعه ] . وإذا أضيف الجماعة إليه ، فهو على إرادة تعظيم الربّ - جل ثناؤه - نحو : { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] ، { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ البقرة : 107 ] ونحوه ؛ كله على إرادة تعظيم الربِّ ، جل ثناؤه . وقوله : { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } : قيل فيه بوجوه : قيل : مطهرك من أذى الكفرة ، من بيت أظهر المخالفين لك . وقيل : ومطهرك من الكفر والفواحش ، ويحتمل : مطهرك ممَّا قالوا فيك . وقوله : { وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } . يحتمل : يجعله فوق الذين كفروا بالقهر والغلبة والقتل ، ويحتمل : بالحجَّة ، ويحتمل : في المنزلة والدرجة في الآخرة . ويحتمل قوله : { وَمُطَهِّرُكَ } بقتل الكفرة من وجه الأرض ؛ على ما ذكر في بعض القصَّة : أنه ينزل من السماء ، فلا يبقى على وجه الأرض كافر إلا وهو يقتله مع الذين ابتعوه ؛ فذلك تَطْهِيرُهُ وَجَعْلُ الذين اتبعوه فوق الذين كفروا . وقوله : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } . ذكر هذا - والله أعلم - وإن كان المرجع للكل إليه في [ كل ] حال ؛ لأنهم يُقِرُّونَ ويعترفون في ذلك اليوم أن المرجع إليه ، وكانوا ينكرون ذلك في الدُّنيا ؛ وهو كقوله : { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ } [ الحج : 56 ] الملك كان في ذلك اليوم وفي غير ذلك اليوم ، ولكن معناه : لا ينازعه أحد يومئذ في ملكه ، ويقرون له بالملك ، وفي الدُّنيا أنكروا ملكه ؛ وهو كقوله : { وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً } [ إبراهيم : 21 ] كلهم بارزون لله في كل وقت ؛ لكنهم أنكروا بروزهم في الدنيا له ؛ فيقرون يومئذ بالبروز له ؛ فكذلك الأول ، والله أعلم . وقوله : { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } . يحتمل : أحكم بينكم مَنِ المحقُّ منكم ، ومَنِ المبطلُ . ويحتمل : أحكم بينكم : أي : أجزيكم على قدر أعمالكم . ويحتمل : أحكم بينكم أي ، أجزي كلا بعمله على ما يستوجبون . وقوله : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } الآية : وقوله : { فِي ٱلدُّنْيَا } ، قيل : القتل ، والجزية ، وفي الآخرة : العذاب . قال الشيخ - رحمه الله - في قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } فقوله : { مُتَوَفِّيكَ } : يحتمل تَوَفِّي الموت بما يقبض روحه كفعله بجميع البشر ؛ تكذيباً لمن ظن أنه الله ، أو ابنه ، لا يحتمل أن يموت ، وقد ألزمهم هذا أيضاً بوجهين ظاهرين - وإن كان فيما عليه خلقته وجوهره . ثم تقلبه من حال إلى حال في نفسه ، ومكان إلى مكان في حق القرار والحاجة - كفاية لمن يعقل الحقائق ، وبُلْغَة لمن تأمَّل الأشياء عبرا . أحدهما : بقوله : { مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } [ المائدة : 75 ] ، وقوله : { عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } [ البقرة : 87 ] حتى ينطق به لسان كل منهم ، ومعلوم إحالة ابن بشر إلهاً أو ولداً لإله ؛ إذ هو يكون أصغر منهما وذلك آية حدثه ، وكذلك قوله في المهد : { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } [ مريم : 30 ] إلى آخر ما ذكر ، مع ما لو احتمل ذلك لكان آدم - عليه السلام - الذي هو الأصل ، هو المقدم ، وهو الذي لا يعرف له وَالِدَانِ أحق أو هو ؛ إذ هو بجوهره فهو ولده لا غير ، أو ذلك وصف الأولاد ، والله أعلم . والثاني : { يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ } [ المائدة : 75 ] : فأخبر عن حاجته وغلبة الجوع عليه ، وفقر نفسه إلى ما يقيمها من الأغذية . ثم في ذلك حاجة إلى الخلاء ، واختيار الأمكنة القذرة لقضاء حاجته ، وبالله التوفيق . والثالث : على قبضه بنفسه من بين أظهر أعدائه ، ورفعه إلى ما به شرفه ، وتطهيره مما كان يحسُّ منهم من الكفر وأنواع الفساد ، وختمه من بين البشر على جه آية يكون له عليهم من أول أحوال ظهوره إلى آخر أحوال مقامه فيهم ؛ ليكون أوضح لمتبعيه في الآيات ، وعلى مخالفيه في قطع العذر . ولا قوة إلا بالله . وفي الدعاء إلى المباهلة دلالة ظهور التعنت والعناد ، وفي تخلفهم عن ذلك دليل علمهم بتعنتهم وخوفهم مما قد وُعِدوا بالنزول عليهم ، ثم لزموا مع ذلك ما كانوا عليه من السفه والعناد ؛ ليعلم أن الحيل عمن اعتاد المعاندة منقطعة ، ومعلوم أن الدعاء إلى المباهلة لا يكون في أول أحوال الدعوة ؛ وإنما يكون بعد توفير الحجة وقطع الشبهة ؛ ففي ذلك بيان أنه انت ثَمَّ محاجَّاتٌ ، وحتى بلغ الأمر هذا ، وعلى ذلك أمر القتال أنه لم يوضع في أول أحوال الإرسال ، وفي الحال التي للقول وللحق وجه القبول من طريق النصف والعقل ؛ وإنما كان [ عند ظهور ] معاندتهم ، وكثرة سفههم ، حتى همّوا بالقتل ، وأكثروا الأذى ، وأكرهوا أقواماً على الكفر ، وأخرجوا [ رسول ] ربّ العزة من بين أظهرهم بما راموا قتله ، وطردوا أصحابه من بلادهم حتى تحصّنوا بالغيران ، فأذن الله [ تعالى ] عند ذلك بالقتال ، وفتح الفتوح ؛ ليكون آيته في كل وجوه الآيات ظاهرة وججته بينة ، وفي ذلك جواز محاجة الكفرة في التوحيد والرِّسالة ، لكن على ما قال الله - تعالى - : { وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] ، و { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } [ الكهف : 22 ] نهي عن التعمق والخوض فيما تقصر عنه الأفهام ، وإن كان معلوماً أن لله حججاً ظاهرة وغامضة ، ولا قوة إلا بالله . وفي ذلك تعليم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر : أنه يكون ذلك باللطف والرفق يرى المقصود [ به ] ؛ ليقرر به عنده الحجة ، ويزيل عنه الشبهة من الوجه الذي يحتمله عقله ، ويبلغه فهمه ، فإن رآه يتعامى في ذلك يوعده ويخوفه بالذي في ذاك من الوعيد . فإن رأيته يكابر عرفت شؤم طبعه وسوء عنصره ، يوعده بما جاء به التعليم من الضرب والحبس ، فإن نفع ذلك ، وإلا بكف شره عن غيره وتطهير الأرض منه ؛ فإنه النهاية في القمع ، والغاية فيما يحق من معاملة السفهاء ، والله أعلم . لكنه على منازل لا يحتمل انتهاء كل أنواع المآثم إلى هذه الغاية ؛ بل فيها ما كان أعظمها دون هذا بكثير - والله أعلم - لذلك يلزم تعرف مقادير الآثام أولاً ؛ ليعرف بها ما يحتمل كل إثم من العقوبة فيه والزجر به ، ولا قوة إلا بالله . وقوله : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } : لأنه لا يحب الظلم .