Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 95-97)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

[ قوله : { صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } الآية : قد ذكرنا فيما تقدم ] . وقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } : قيل فيه بوجوه ؛ قيل : إن أوّل بيت مبارك وضع للناس هو بكة . وقيل : أوّل مسجد وضع للناس مكة . وقيل : يريد بـ " بكة " البقعة ، أي : أوّل بقعة خلق اللهُ هو بكة ، ومنها دحيت الأرض . وقيل : إن آدم - عليه السلام - لما أمر بالحج فيه ، قال جبريل - عليه السلام - : " قد حج فيه الملائكة قبلك بألفي عام " . وقيل : خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام . ثم اختلف في قوله " بكة " ؛ قيل " البكة " : الزحام . وقيل : " البكة " ؛ موضع البيت ، ومكة سائل القرية . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : " مكة من فخ إلى التنعيم إلى آخر المنحر ، وبكة : من البيت إلى البطحاء " . وقيل : " بكة " : الكعبّة ؛ حيث يبك الناس ، أي : يزدحم بعضهم بعضاً ، بـ " مكة " : ما وراءها . وقوله : { مُبَارَكاً } ، قيل : يغفر فيه الذنوب والخطايا . { وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ } : يحتمل قوله : { فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ } - ما لو تأمّلوا لهداهم ؛ وذلك أن الله - عز وجل - خلق هذا البيت بين الجبال في أرض ملساء قليلة الإنزال والريع ، لا ماء فيه ولا شجر ولا نزهة ؛ ما لا يرغب الخلق إلى مثله ، ثم جعل قلوب الناس تميل وتهوي إليه أفئدتهم من غير أن كان فيه ما يرغبهم من النزهة ، فلولا أن كان ذلك من آيات الله ولطفه ؛ وإلا ما رغب الناس إلى مثله . ويحتمل قوله : { فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ } - ما ذكر : { مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } ، وذلك آياته ، والله أعلم . وقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } : ظاهره فيمن يجني ، ثم دخل الحرم آمن ؛ لأن من لم يجن فهو آمن أين دخل من الحرم وغيره ، وإنما الآية على ما يخص بالأمن إذا دخل الحرم دون غيره . وقد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوافق هذا ، ورُوي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : " إذا أصاب الرجل الحدَّ في الحرم ، أقيم عليه ، وإن أصابه في غير الحرم ، ثم لجأ إليه ، لا يُحَدَّث ، ولا يُجالَس ، ولا يُؤَاكَلَ ، ولا يبايع ، حتى يخرج منه ؛ فيؤخذ ، فيقام عليه الحد " . ورُوي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : " لو وجدنا قاتل أبينا في الحرم لم نقتله " . ورُوي عن الحسن - رحمه الله - أنه قال في قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } - كان هذا في الجاهلية ، فأما الإسلام : فلم يزده إلا شدة : من أصاب الحدّ في غيره ، لم لجأ - إليه أقيم عليه الحدّ . يقال للحسن : إن الصيد كان يأمن في الجاهلية ، ثم الإسلام لا يرفع ذلك الأمن ؛ بل كان أمن الصيد في حال الإسلام . كهو في حال الجاهلية ، فعلى ذلك الأمن الذي كان في الجاهلية هو باق غير زائل في الإسلام . وأصحابنا - رحمهم الله - يذهبون إلى ما روي عن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إِنَّ الله - تعالى - حَرَّمَ مَكََّةَ يَوْمَ خَلَقَها ؛ لم تُحَلَّ لأَِحَدٍ قَبْلِي ولا تُحَلُّ لأَِحَدٍ بَعْدي ، وإنَّما أُحِلَّتْ لِي سَاعةً مِنْ نَهَارٍ ، لا يُخْتَلَي خَلاَهَا ، وَلاَ يُعْضَد شَجَرُها ، ولا يُنَفَّر صَيْدُها ، ولا يُحْتَشُّ حَشِيشُها " أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مكة بعد الإسلام حرام ؛ كما كانت قبله ، وأنها لم تُحَلَّ له إلا ساعة من نهار ، فإذا كان الملتجئ آمناً قبل الإسلام ؛ فالواجب أن يكون آمناً بعد الإسلام ، حتى يخرج منها . وحجة أخرى : وهو أن الله - تعالى - أباح لرسول الله صلى الله عليه وسلم قتل المشركين جميعاً ، بل فرض ذلك عليه ، إلا أهل مكة ؛ فإنه لم يُحِلَّ له قتلهم إلا ساعة من نهار ، ففضَّل مكة على غيرها بما خصّها به من التحريم ؛ فلا يبعد ألا يقام على من التجأ إليها في الإسلام ؛ إذ كانت جنايته أقل من كفر أهلها ، ولم يُحَلَّ قتالُهم إلا ساعة من نهار . وفي الفرق [ بين ] من قتل فيها وفي غيرها ، ثم لجأ إليه - وجه آخر : قال الله - تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } [ البقرة : 191 ] : أباح لهم القتل عند المسجد الحرام ، إذا قاتلونا ؛ فعلى ذلك يقام الحدّ إذا أصاب وهو فيه ، وإذا أصاب - وهو في غيره - ثم لجأ إليه : لم يُقِمْ ؛ كما لم يُقَاتَلُوا إذا لم يُقَاتِلُوا ، وهذا فرق حسن واضح [ بحمد الله وعونه ] . قال الشيخ - رحمه الله - في قوله - عز وجل - : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } - : يحتمل أن يكون خبراً من الحرم في قديم الدهر : أنه كان على ما بين الخلق من القتال والحرب يأمنون بالحرم ، إذا التجأوا إليه ؛ وذلك كقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ؛ فيكون ذلك من عظيم آيات الله - تعالى - أن أهل الجاهلية - على عظيم ما بدلوا من الأمور ، وغيروا من الدين - منعهم الله - تعالى - عن هذا التغيير ؛ حتى بقيت لكل من شهده آية أن الله له هذا السلطان ، وبه قام هذا التدبير العظيم ، له العلم بحقائق الأشياء ، ووضع كل شيء موضعه ؛ وعلى ذلك قال بعض أهل التأويل في قوله : { ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ } [ المائدة : 97 ] - إن الله قد جعل - جل ثناؤه - ذلك كالماء في الشرع والطبع ، فأمّا الشرع : فما جاءت به الرسل ، وأمّا الطبع : فما تنافر الناس ، حتى سار ذلك إلى الصيد الذي يؤذيه الأخذ ، وإلى أنواع الأشياء التي قامت بجوهر تلك البقعة من البنات ، لا بأسباب تكتسب ؛ ولهذا كره بيع رباع مكة ، ورخص في بيع ما يحدث فيه من البنيان ، والله أعلم . ودلّ قوله : و { جَعَلْنَا } كذا - على لزوم ذلك الحق ؛ لأنه مذكور بحرف الامتنان ، والاحتجاج له ، ولا يجوز تغير الذي هذا وضْعُهُ ، والله أعلم . ويحتمل : كأنْ صار آمناً ، أي : أوجب له الأمان ، ومعلوم أن الذي لم يلزمه القتل كان آمناً دون دخوله ؛ فثبت أن ذلك فيمن لزمه ؛ وأَيَّد ذلك قوله : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 191 ] فهم قوم قد سبق منهم الكفر وقت شرع القتل بالكفر ، لم يأخذهم حق الشرع على ما سبق من الكفر في وقت لم يكن ذلك جزاءه في الدنيا ، إلا أن يُحْدِثَ القتال ؛ فعلى ذلك من لزمه - لا فيه - فهو يأمن به ، إلا أن يكون أحدثه فيه ، والله علم . وأصله : أنه أضاف الأمان إلى نفسه بقوله : { كَانَ آمِناً } فكل حق بِتَلَفِ نَفْسِهِ فله أمان بالدخول فيه ، وكل حق في إقامته إحياء ما جعلت الحياة لنفع مثله - فهو يقام ؛ ليكون زجراً له ، وتكفيراً على بقاء الأمن ؛ ليقي نفسه ، وردّه إلى ما لم يدر أنه التجأ إليه ؛ للهرب عن حكم الله - تعالى - أو للأمان بالله ؛ ليصل إلى إقامة أحكام الله - تعالى - آمناً ، وفي إقامته هذا أيضاً ، والله أعلم . وقوله : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } . فرض الله - تعالى - الحج بهذه الآية على من استطاع إليه سبيلاً ، ولم يبين ما السبيل ، وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : حيث سئل عن الاستطاعة ؟ فقال : " الزَّاُد ، والرَّاحِلَةُ " ، وهكذا يقول علماؤنا : إن الاستطاعة والسبيل هو الزاد والراحلة ؛ كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعض الناس : إذا كان بينه وبين الحج بحر ، لم يلزمه الحج ؛ فكأنه ذهب إلى ظاهر الآية : { مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ؛ فجعل البحر وأشباهه مزيلاً للاستطاعة ؛ فخالف ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الاستطاعة ؟ فقال : " الزَّادُ الرَّاحِلَةُ " ؛ فلم يجز لأحد أن يزيد في شرائط الاستطاعة مع الزاد الراحلة ؛ لأن النبي - عليه السلام - هو المبين عن الله ؛ فعلينا اتباعه في قوله وفعله وتفسيره الآية ، ولكنا نجعل من يحول بينه وبين البيت معذوراً في التأخير ، ولا يأثم - إن شاء الله تعالى - إذا لم يقدر على الوصول إلى البيت بعلة على ما جعل التأخير في غيرها من العبادات عند الأعذار والعلل ، ولا يأثم في ذلك . ثم في الآية دلالة أنه لا يلزم المرأة الحج إلا بالمحرم ؛ لأن المرأة - وإن وجدت الزاد والراحلة - فإنها تحتاج إلى من يُرْكِبُها ويُنزلها ، ولا تقدر على ذلك إلا بغيرها ، وهكذا العرف فيهن ، فإذا كان كذلك جعل كأنها غير واجدة للراحلة ، والله أعلم . وفيه دلالة أن العبد إذا حج ثم أُعْتِق - لزمه حجة الإسلام ؛ لأنه لا يملك الزاد والراحلة ، فإذا لم يملك الزاد والراحلة لم يجز ذلك من حجة الإسلام وكذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ وَلَو عَشْرَ حِجَجٍ ؛ فَعَلَيْهِ إِذَا أُعْتِقَ حَجَّةُ الإِسْلامِ " وليس كالحرّ - الفقير يحج ، ثم أيسر : جاز ذلك من حجة الإسلام ؛ ففرقوا بينهما ، وإن كانا في زوال الحج في الابتداء سواء ؛ وذلك الفقير إذا بلغ ذلك المكان صار غنياً ، ولزمه الفرض ؛ لأنه لا يحتاج حينئذ إلى زاد وراحلة ، وأمّا العبد إذا حضر ذلك المكان لم يَعْتِقْ ؛ لذلك افترقا . وفي ذلك حُجة أخرى : ما أجمع أهل العلم أن فقيراً لو حضر القتال ضرب له بسهم كامل ؛ كما يضرب لمن كان فَرْضُ الجهاد لازماً له ، ولو أن عبداً شهد الوقعة رضخ له ، ولم يكمل له سهم الحرّ ؛ فافترقت حال الفقير والعبد في : الجهاد ، والضرب في السّهْمان ؛ فعلى ذلك يفترق حالهما في الحج ، والله أعلم . وقال بعض أهل العلم : إن الشيخ الذي لا يستمسك على الراحلة ، [ إذا وجد غيره يحج عنه - يلزمه فرض الحج ؛ فما ينكر من قال في المرأة بمثله ، فاحتج بما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : " جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن إبي شيخ فأدركته فريضة الحج ، وهو لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة ] ؛ أفيجزئ أن أحج عنه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " أَرَأيتَ لَوْ كَانَ عَلَى أبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ ، أكان يُقْبَلُ مِنْكَ " ؟ قال : نعم ؛ قال : " فاللهُ أَوْلَى بِحَجِّ أَبِيكَ " أو كلام نحوه ، ولكن ليس في الخبر أن فريضة الحج إنما أدركته في الحال التي لا يستمسك على الراحلة ، فيجوز أن أدركته فريضة الحج قبل ذلك ؛ فكذلك يقول علماؤنا : إن الحج إذا وجب فأخَّر أداءه حتى أعْسِرَ - لم يسقط عنه الحج ، وكذلك إن وجب عليه الحج فلم يحج حتى كبر ، فصار لا يستمسك على الراحلة ، عليه أن يوصي ليُحَجَّ عنه . ويحتمل - أيضاً - أنه رغبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج عنه تبرعاً ، لا أنه ألزمه الحج في ذلك الوقت الذي لا يثبت عل الراحلة - وعندنا أنه لا يلزمه ؛ لأنه إذا لم يستمسك على الراحلة فلا راحلة له ، ثم من قول هذا القائل : إن من لزمه فرض الحج ، فله التأخير ، وفي التأخير فَوْتٌ أو إدراك المنيّة ، ومِنْ قوله : إنه لو أخر حتى مات يصير فاسقاً ؛ فإذا مات مات فاسقا ، يجعل له رخصة التأخير ، ثم يفسقه ؛ فكأنه يجعل له الرخصة في الفسق ، فذلك قبيح وخش من القول سمج . وأمّا عندنا : فإنه لا يسع له التأخير في أوّل أحوال الإمكان على تمام شرط الاختيار ؛ كغيره من العبادات التي لزمت ، من نحو الصلاة ، والصيام ، وغيرهما ؛ لا يسع التأخير ؛ فعلى ذلك الحج . ثم مِنْ قول الشافعي - رحمه الله - : إن على الكافر الحج والصلاة والصيام في حال كفره ، فإذا أسلم سقط ذلك عنه ؛ فذلك عندنا لعب وعبث في دين الله - تعالى - غير جائز أن يلزمه فرض في حال لا يجوز له فعله ، فإذا جاء سبب الجواز يسقط عنه ذلك . وفي الآية دلالة أن الحج إنما كان فرضاً على المؤمنين خاصة ؛ بقوله : { وَمَن كَفَرَ } بالحج { فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ } فلو كان هو [ على ] الكافر كما هو على المسلم ، لم يكن لقوله معنى ؛ دل أنه غير لازم ، والله أمر بالعبادات باسم المؤمنين . ثم المسألة بيننا وبين المعتزلة في الاستطاعة ، قالت المعتزلة : تكون قبل الفعل ؛ لأن الله - تعالى - فرض الحج ، وأمر بالخروج إليه ، إذا قدر على الزاد والراحلة ؛ على ما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا لم يقدر لم يلزمه ؛ فدلّ أنها تتقدم . وأمّا عندنا : فهي على وجهين : أحدهما : استطاعة الأسباب والأحوال . والثاني : استطاعة الأفعال . فأمّا استطاعة الأحوال والأسباب : فيجوز تقدمها ، من نحو : الزاد ، والراحلة ، والجوارح السليمة . وأمّا استطاعة الأفعال فإنها لا تكون إلا مع الفعل ؛ لأنها استطاعة الفعل وسببه ؛ فلا تكون إلا معه ، والوقت في الحج لفعل الحج لا للإيجاب ؛ لأنه لو كان للإيجاب لكان له ألا يخرج ، ولا يأتي ذلك المكان فيجب عليه الحج ؛ ولأنه لو لم يلزمه إلا بالوقت ، ثم لا يتمكن فعله به دون المكان فيجئ - لا يلزمه إلا بحضور ذلك ، فلا يلزمه الخروج أبداً ؛ إذ الحج غير لازم [ إلا بالوقت ] ، ولأنه ليس على العبد أن يتكلف في اكتساب إيجاب العبادات ، وعليه أن يَجْهَدَ في أداء الواجب عليه . ثم الأوقات على أقسام ثلاثة : وقت الإيجاب والأداء جميعاً نحو : الصلاة ، والصيام ، ونحوهما . ووقت الإيجاب ، نحو : الزكاة . ووقت الأداء - وهو الحج - إنما وجوبه بالزاد والراحلة ، وأمّا الوقت : فهو للأداء خاصّة ، فإذا كان في أقصى بلاد المسلمين فهو لم يعط قدرة فعل الحج ؛ لأنه لا يقدر على فعله إذا كان فيما ذكر ؛ دل أن قدرة الفعل لا تتقدم الفعل ، وقدرة الأحوال تتقدم لما ذكرناه ، والله أعلم . وقوله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ } . في الآية دلالة أن الله - عز وجل - إذا أمر عباده بأمر ليس بأمره لحاجة نفسه ، ويأمر لحاجة العبد ؛ لأنه غني بذاته ، لا حاجة تمسّه ، وأمّا الأمر فيما بين الخلق : فإنما هو لحاجة بعضهم لبعض : إمّا جر منفعة ، أو دفع مكروه ، فذلك معنى قوله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ } . ثم اختلف في قوله : { وَمَن كَفَرَ } : عن ابن عباس - رضي الله عنه - { وَمَن كَفَرَ } قال : من زعم أنه لم ينزل . وعن الحسن : { وَمَن كَفَرَ } قال : من زعم أن الحج ليس بواجب . وقيل : { وَمَن كَفَرَ } بالله ، قال : هو الذي إن حج لم يرج ثوابه ، وإن جلس لم يخش عقابه . وعن ابن عباس قال : { مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ، والسبيل أن يصح بدن العبد ، وأن يكون له ثمن زاد وراحلة ، من غير أن يحجب " . ثم قال : { وَمَن كَفَرَ } ، يقول : ومن كفر بالحج فلم ير حجة برّاً ، ولا تركه إثماً . [ وفي ] قوله : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } دلالتان : إحداهما : في الوجوب بقوله : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ } ، وأيد ذلك قولُهُ : { وَمَن كَفَرَ } وما جاء من الأثر واتفاق القول . والثانية : جعل البيت شرطاً للقيام لما هو في قوله : { عَلَى ٱلنَّاسِ } ذلك ؛ فيكون فيه دليل لزوم الطواف ، تفسيره في قوله : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } [ الحج : 29 ] ، وكذلك أيده قوله : { فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ } [ البقرة : 158 ] ، وأيّد - أيضاً - " ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في امرأة نَفِسَتْ : " أَحابِسَتُنا هِيَ ؟ " قيل : إنها أفاضت . وعلى ذلك اتفاق القول بلزوم الطواف ، والله أعلم . فلما دلّ أن الطواف لازم لم يخل إمّا أن يكون الطواف المبدأ به في الحج ، أو الذي يختم به ، والذي يبدأ به لا يلزم كل الناس - ثبت أن الفرض هو الذي يختم به ، وهو قوله : { مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } : أوجب جعل السبيل إليه والإمكان - شرطاً للوجوب ؛ إذ الآية في ذكر الوجوب لا الفعل ؛ وعلى ذلك جميع العبادات ، جعل الإمكان في وجوبها شرطاً بالسمع بقوله : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ، وغير ذلك مما ذكر في كل نوع من العبادات من الاستطاعة ؛ وكذا حق هذا بالفعل ، وذلك يخرج على وجهين : استطاعة الفعل من القدرة التي تحدث لا محالة ما سلمت الأسباب ، إلا أن يكون ممن منه الفعل الإعراض عنها بالشغل بغير تلك الأفعال ، أو اشتغال ذلك بالفعل ؛ فيكون فوت الاستطاعة بتضييعه ، ولا عذر بفوت ما كان المكلف يفوته ، كفوت العلم به على الإمكان ، وإن كان لا يقوم دونه ، والذي يؤيّد أن هذه الاستطاعة ليست بشرط في الإيجاب أنها لا تبقى ، ثم محال وجودها في حال لو أريد إقامة الحج لا يتهيّأ ، وذلك نحو أن يكون في أقصى البلاد من مكة ، ومعلوم أن القدرة التي بها يكون الفعل ليست معه ، ومحال تكليف السبب الذي به يجب الفعل ؛ فلذلك لم يجب تكليف بالخروج ولا أمر بالحج ؛ فكأنه يؤمر بتكليف سبب الإيجاب - ثبت أن قد يجب الحج لا بتلك القوة ؛ وكذلك يجوز في الكفارات استعمال الأبدال في حال العجز ، وإن كان لا يعلم أن العجز يمتد إلى آخر ما يقوم به الأصل ، بل على ظهور ألا يمتد بمضي البدل - ثبت أنْ لا عبرة لفقد قدرة الفعل ووجودها في التكليف ، والله أعلم . والثاني : يراد بالاستطاعة : سلامة الأسباب ، ولا يجوز التكليف دونها بالفعل ؛ لأنه ممنوع ، ومحال أمر الممنوع عن الفعل - به ؛ كالأعمى ، والمُقْعَدِ ، ونحو ذلك ، وإلى مثل هذا انصرف شرط الاستطاعة ، وهو اللازم في العقل ؛ لما القرب بحق الشكر لما أنعم على المأمور ، فإذا منع عنه السبب الذي هو النعمة لم يحتمل أن يؤمر بالشكر ولا نعمة ، والله أعلم . وعلى ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك ؛ فقال : " الزَّادُ والرَّاحِلَةُ " والله الموفق . وعلى ما ذكرت يخرج قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - في وجوب الحج : وإن لم يدرك الوقت الذي فيه يقوم الحج على ما لزمه ، وإن لم يكن أصاب المكان الذي فيه يقام - والله أعلم بظاهر الآية مع ما ذكرنا من بيان الأثر . وأصله : أن الوقت في الحج جعل لجواز الفعل ؛ إذ هو لو فات لا يحتمل في غيره ، وكل فعل يجوز في غير وقته فما يقرب من الوقت به كان أحق بالجواز ؛ فإذا لم يجز هذا وجاز في مثله من القابل - ثبت أنه للجواز لا للوجوب ؛ وأيّد ذلك ما لا يوصف بالقضاء متى أدى ، ولو كان في الأوّل واجباً لوقت الأول لكان يكون في الثاني قاضياً ، فإذا لم يكن : ثبت أنه ليس لوجوبه وقت ، والله أعلم .