Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 1-7)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ } وفي بعض القراءات : { غَلبت الروم } بفتح الغين على المستقبل . يذكر أهل التأويل : أنه إنما يذكر هذا ؛ لأن المشركين كانوا يجادلون وهم بمكة ، يقولون : إن الروم أهل الكتاب وقد غلبتهم المجوس ، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل على نبيكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية : { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ … } الآية ، لكن يذكر في آخره : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ } ؛ فلا يحتمل فرح المؤمنين بغلبة الروم على فارس ، ويسمى ذلك : نصر الله وهم كفار ، وغلبتهم عليهم معصية ، اللهم إلا أن يكون فرحهم بما يظهر الإيمان بكتب الله وتصديقها والعمل بها ، وهم كانوا أهل كتاب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث مصدقاً بكتب الله وبرسله أجمع ، ففرحوا بذلك ، فإن كان كذلك فجائز الفرح بذلك وتسميته نصر الله . وأما على الوجه الذي يقولون هم فلا . وعندنا : أن في ذلك آية عظيمة في إثبات رسالة نبينا محمد - صلوات الله عليه - ونبوته وصدقه ما لم يجد الكفار فيه مطعناً ، ولا النسبة إلى الكذب والافتراء ، على ما قالوا وطعنوا في سائر الآيات والأنباء ، كقولهم : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } [ النحل : 103 ] ونحو ذلك من المطاعن التي طعنوا في القرآن والأنباء المتقدمة ؛ حيث قالوا : { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ الأنعام : 25 ] { مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } [ سبأ : 43 ] مثلها لم يجدوا فيما أخبر من غلبة الروم على فارس ؛ لأنه أخبر عن غلبة ستكون وستحدث لا عن غلبة قد كانت ، ومثل هذا لا يدركه البشر ولا يستفاد منهم ؛ إذ لا يبلغه علم البشر ولا يدرك بالقياس بالسابق من الأمور ، فإذا كان على ما أخبر دل أنه بالله علم ذلك ، وبوحي منه إليه عرف ذلك . وهم جائز أن يستدلوا بما كان من قبل من غلبة فارس على الروم أن يقولوا : تغلب فارس على الروم بما شاهدوه مرة أو بوجوه أخر يستدلون بذلك ؛ من نحو أن يقولوا : إنهم أهل كتاب وعبادة يكونون مشاغيل بالنظر فيها والعمل ببعض ما فيها لا يتفرغون للقتال والحرب . أو أن يقولوا : إنهم نصارى - أعني : أهل الروم - وليس في سنتهم ومذهبهم القتال والحرب ، فيستدلون بمثل هذه الوجوه على أن لا غلبة تكون لهم ولا ظفر . وأمّا أهل الإسلام ليس لهم شيء من تلك الوجوه ولا بغيرها وجه الاستدلال بغلبة أولئك ، فما قالوا ذلك إلا وحيّا من الله إليه وإعلاماً منه إياه ، فكان في ذلك أعظم آية لصدق رسوله وأكبرها فيكون فرح المؤمنين وذكر نصر الله بإظهار تلك الآية في تصديق رسوله ؛ إذ نصر رسوله حيث أظهر صدقه ورسالته . وقوله : { غُلِبَتِ } و { غَلَبَت } : { غُلِبَتِ } على الماضي ؛ لما كان من غلبة فارس على الروم ، و { غَلَبَت } بالفتح على المستقبل ؛ أي : تغلب الروم على فارس ، وهو كقوله : { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [ سبأ : 19 ] على الأمر في المستقبل ، { بَاعَدَ بين أسفارنا } على الخبر ، فعلى ذلك الأول . وقوله : { فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ } قيل : أقرب إلى أرض فارس . وقال بعضهم : { أَدْنَى ٱلأَرْضِ } أي : أدنى أرض الشام . وقيل : الأرض التي تلي فارس ، والله أعلم . وفي قوله : { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } وفي قوله : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ } وجوه على المعتزلة : أحدها : يقال لهم : وعد أن يغلب الروم على فارس ، وقد أراد أن يخرج ما وعد حقّاً صدقاً أم لا ؟ فإن قالوا : لا ، فقد أعظموا القول وأفحشوه ؛ حيث زعموا أنه أراد ألا يفي بما وعد أنه يكون . وإن قالوا : نعم ، قيل : دل أنه أراد ما فعلوا ، وإن كان الفعل منهم فعل معصية وخلاف ؛ إذ محاربة كل فريق أصحابهم معصية ؛ إذ لم يؤمروا بذلك ، وإنما أمروا بالإسلام ، فدل أن الله مريد لما يعلم أنه يكون منهم ، وإن كان ما يكون منهم معصية . والثاني : ما أخبر بفرح المؤمنين بغلبة هؤلاء على أولئك أيّ جهة كان فرحهم لإثبات آية عظيمة على رسالة نبيهم ونبوته ؛ على ما ذكرنا أولا أنهم كانوا أهل كتب الله ودراستها أحبوا غلبتهم عليهم ، وفرحوا بذلك ، ولا يحتمل أن يفرحوا بذلك ولم يأمرهم بذلك ، ولا أراد منهم ذلك دل أنهم إنما فرحوا بذلك لما أراد ذلك . والثالث : في قوله : { بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ } دلالة : أن لله في فعل العباد صنعاً وتدبيراً حيث ذكر فعل بعضهم على بعض ، ثم سمّى : نصر الله ؛ دل أن له في ذلك تدبيراً . وقوله : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } قيل : البضع : سبع . وقيل : ما دون العشر فهو بضع ، وكذلك ذكر في الخبر " أن أبا بكر - رضي الله عنه - لما خاطر المشركين وبايعهم في ذلك بخطر في سنين ذكرها ، فمضت تلك المدة ولم تغلب الروم على فارس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " أما علمت أن ما دون العشر بضع كله ، فزد في الأجل ، وزد في الخطر " ، ففعل ذلك ، فلم تمض تلك السنون حتى ظهرت الروم على فارس " . وفي بعض الحديث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم تكونوا أن تؤجلوا أجلا دون العشر ؛ فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر ، فزيدوهم ومادوهم في الأجل " ففعلوا حتى ظهرت الروم على فارس … فذكر الحديث . ثم المسألة في المخاطرة التي كانت بين أبي بكر وبين أولئك الكفرة : أحدها : أن مكة كانت يومئذ دار حرب ؛ دليله : قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } الآية [ الأنفال : 30 ] ، وذلك كان قبل الهجرة ، وما أمر بالهجرة - أيضاً - إلى المدينة ، ونحوه كثير ، وذلك كان كله قبل غلبة الروم على فارس ، فإذا كانت مكة يومئذ دار حرب جازت المخاطرة في العقول في دار الحرب فيما بينهم وبين أهل الحرب ، وإن كان مثلها في دار الإسلام غير جائز ، وهذا يدل لأبي حنيفة - رحمه الله - في إجازته عقد الربا في دار الحرب فيما بينهم وبين أهل الإسلام ، وإن كان مثله في دار الإسلام غير جائز . والثاني : جاز ذلك يومئذ وإن كانت فيه جهالة أسنان الإبل ، والجهالة في العقود إنما تبطل العقود ، لخوف وقوع التنازع بينهم في الدين ، فأما في الأموال فقلما يقع ؛ لما ذكرنا . ومنهم من يقول : كان جائزاً ذلك في الجاهلية ، فأمّا اليوم فقد جاء النهي عن القمار فنسخه ، وإنما عرف النهي عن الميسر ، والميسر هو القمار ؛ فيكون النهي عن الشيء نهياً عما هو في معناه ، والله أعلم . وقوله : { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } . قال بعضهم : { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ } غلبة فارس الروم { وَمِن بَعْدُ } غلبة الروم فارس . ويقال : { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ } حين ظهرت فارس على الروم { وَمِن بَعْدُ } ما ظهرت الروم على فارس . وجائز أن يكون قوله : { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ } في خلقه ؛ أي : التدبير فيه ، وله الأمر فيهم ؛ أي : ليس لأحد في الخلق أمر ولا تدبير ، وإنما ذلك له ؛ كقوله : { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } [ الأعراف : 54 ] : له التدبير فيهم والأمر . وفي قراءة من قرأ { غَلَبَتِ الرُّومُ } بالنصب يكون قوله : { وهم من بعد غلبهم سَيُغْلَبُونَ } حين تظاهر عليهم المسلمون في آخر الزمان حين تفتح قسطنطينية . وفي حرف ابن مسعود وحفصة : { في بعض سنين قريباً } . وقوله : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ } فَرَحُ المؤمنين بنصر الله حيث نصر رسوله بإظهار الآية له في إثبات الرسالة والنبوة وصدقه ، وذلك النصر له ، وما يقول بعض أهل التأويل : نصر الروم على فارس - بعيد ؛ لأن ما كان الفعل فعل معصية لا يقال : نصر الله ، وإنما يقال ذلك فيما كان الفعل فعل طاعة ، والوجه فيه ما ذكرنا : أنه نصر رسوله بما ذكرنا . وقوله : { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } ذكر العزيز على إثر ما سبق ؛ لأنه عزيز بذاته ، فهلاك من هلك من عبيده لا يوجب وهناً ولا نقصاً في ملكه وسلطانه ، ليس كهلاك بعض عبيد ملوك الأرض وأتباعه وحشمه ؛ لأن ملوك الأرض أعزاء بهم ، فإذا هلك ذلك ذهب عزهم ، فأمّا الله - سبحانه وتعالى - إذ هو عزيز بذاته لا بشيء ، فهلاك من هلك من عبيده لا يوجب نقصاً لذلك فيه . وقوله : { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } إنما يكون خلف الوعد في الشاهد لإحدى خصال ثلاث : إما لندامة استقبلته فيما وعد فتمنعه تلك الندامة عن إنجاز ما وعد ، وحفظ الوفاء له . وإما لحاجة وقعت له فيما وعد فتمنعه تلك الحاجة عن وفاء ما وعد وإنجاز ما يطمع . وإما لعجز يكون به لا يقدر على إنجاز ما وعد ، فيحمله عجزه عن وفاء ما وعد وإنجازه ، فإذا كان الله - سبحانه - يتعالى عن الوجوه التي ذكرنا فإن ما وعد لم يحتمل الخلف منه ، ولا قوة إلا بالله . وقوله : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } يحتمل قوله : { لاَ يَعْلَمُونَ } لما لم ينظروا ولم يتفكروا في الأسباب التي هى أسباب العلم بعدما أعطاهم أسباب العلم ، لكنهم إذا تركوا النظر في الأسباب والتفكر فيها لم يعلموا ، فلم يعذروا بذلك لتركهم النظر والتفكر فيها . ويحتمل قوله : { لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لا ينتفعون بما علموا ، فنفى عنهم العلم ؛ لما لم ينتفعوا بهذه الحواس وإن كانت لهم هذه الحواس . وقوله : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } يحتمل قوله : ظاهر الأشياء في المنافع ، ولا يعلمون باطن المنافع بم ؟ وكيف ؟ نحو ما يعلم أن الماء به حياة الأشياء ، ويعلمون أن بالطعام قوام الأبدان ، ولكن لا يعلمون قدر منفعته وكيفيته وما في سرية ذلك من المنافع ، وكذلك السمع والبصر واللسان لا يعلم حقيقة ذلك وكيفيته ، وإن كان يعلم أنه بها يسمع ويبصر ويتكلم ويفهم . وجائز أن يكون قوله : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً } : منافع الحياة الدنيا ، وعن منافع الآخرة هم غافلون ، وإنما أنشئت منافع الدنيا لا لتكون لها ، ولكن ليعلموا بها منافع الآخرة . وابن عباس والكلبي وهؤلاء يقولون : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } قالوا : يعلمون معايشهم ، وتجاراتهم ، وحرفهم ، وجميع الأسباب والمكاسب والحيل التي بها تقوم أمور دنياهم { وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } أي : لا يؤمنون بها ، والله أعلم .