Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 8-16)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } قد ذكرنا في غير موضع أن كل استفهام من الله وسؤال يخرج على الإيجاب والإلزام ؛ ثم الإيجاب يخرج على وجوه : أحدها : أن قد تفكروا ونظروا واعتبروا وعرفوا أنه ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ، لكنهم عاندوا ، وكابروا ، ولم ينقادوا ، ولم يقروا . والثاني : يخرج على الأمر ؛ أي : تفكروا وانظروا واعتبروا ؛ لتعلموا أنه ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق . والثالث : على الخبر أنهم لم يتفكروا ، ولم ينظروا ، ولم يعتبروا ، ولو تفكروا واعتبروا لعلموا أنه ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ، لكنهم لم يتفكروا ، ولم ينظروا بعدما أعطوا أسباب العلم به ، فلم يعذروا بترك التفكر والنظر والاعتبار . وعلى هذه الوجوه الثلاثة يخرج قوله : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } ونظروا ، وعلموا ما حل بالمكذبين بالتكذيب ، وما صار عاقبة أمرهم . أو سيروا في الأرض على الأمر ؛ لتعرفوا ما أصاب أولئك بالتكذيب . أو لم يسيروا في الأرض - على ما ذكرنا - لئلا يعلموا عاقبة أولئك . ثم قوله : { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } قيل فيه بوجوه : أحدها : أن ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الذي عليهم من الشكر له فيما أنعم عليهم ، والتعظيم له والتبجيل . والثاني : { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } الذي لله عليهم من الشكر له فيما عليهم ؛ أي : ما يحمد بفعله عاقبة ما لولا تلك العاقبة لكان لا يحمد ؛ إذ في الحكمة التفريق بين الولي والعدوّ ، وقد أشركهم جميعاً في هذه الدنيا بين الولي والعدو ، ولو لم يجعل داراً أخرى يفرق فيها بينهما لكان لا يحمد فيما أشركهم فيها . والثالث : { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } أي : بالبعث ؛ لأنه لو لم يكن البعث لكان خلقه السماوات والأرض وما بينهما لعباً باطلا لا حقّاً ؛ كقوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } [ المؤمنون : 115 ] . وقوله : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } سمّى البعث : لقاء الرب ، والمصير إليه والرجوع إليه ، والبروز إليه ، والخروج ، وإن كانوا في الأوقات كلها بارزين له ، خارجين ، صائرين إليه ، راجعين ؛ لأن خلقه إياهم إنما صار حكمة لذلك البعث ، والمقصود بخلقهم ذلك البعث ؛ لذلك سمي البعث بما ذكرنا . وقوله : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } هو يخرج على الوجوه التي ذكرنا في قوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ } . وقوله : { كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } يذكر أهل مكة ويوبخهم في تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوء معاملتهم إياه بما ذكر من القرون الماضية أنهم مع شدتهم ، وقوتهم ، وبطشهم ، وكثرة أتباعهم وحواشيهم وأموالهم ، وطول أعمارهم وبنيانهم - لم يتهيأ لهم الانتصار والامتناع عن عذاب الله إذا حل بهم بتكذيبهم الرسل ؛ فأنتم يأهل مكة دونهم في القسوة والبطش والحواشي والأتباع ، فكيف يتهيأ لكم الانتصار والامتناع من عذاب الله إذا كذبتم الرسول ، والله أعلم . وقوله : { فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } جائز أن يكون على التقديم والتأخير ، { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤأَىٰ } مقدماً على قوله : { فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } يقول : ما حل بهم من العذاب وعذبوا في هذه الدنيا بتكذيبهم ، لم يظلمهم الله ، ولكن ظلموا أنفسهم بما أساءوا . ويحتمل أن يكون قوله : { فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } في تعذيبهم في الدنيا { وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ثم يكون قوله : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ } في الدنيا { ٱلسُّوۤأَىٰ } في الآخرة في النار ، فيكون في الدنيا ما عذبوا في الدنيا عذاب عناد ومكابرة ، وما يعذبون في الآخرة تعذيب كفر وتكذيب ، وهو ما قال : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } . وقال بعضهم : { وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ } أي : كربوا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها قومك يا محمد ؛ أي : بقوا فيها أكثر مما بقي فيها الذين أرسلت إليهم . وقال بعضهم : عاشوا يعمرون الأرض أكثر مما عمرها أهل مكة . وقال بعضهم : عمروها : عملوا بها أكثر مما عمل هؤلاء . وبعضه قريب من بعض . وقال أبو عوسجة : { وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ } أي : حرثوها . وقال القتبي : أثاروا : أي : قلبوها للزراعة ، ويقال للبقرة : المثيرة ، وقال الله - تعالى - : { لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ } [ البقرة : 71 ] . وقوله : { أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤأَىٰ } أي : جهنم . وكذلك قال الكسائي : { ٱلسُّوۤأَىٰ } : هي النار ؛ كقوله : { وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ ٱلنَّارُ } [ الرعد : 35 ] أي : كان عاقبتهم النار بما كذبوا بآيات الله واستهزءوا بها . وقوله : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤأَىٰ } يحتمل قوله : أساءوا إلى الرسل بالتكذيب وأنواع الأذى . ويحتمل : أساءوا إلى أنفسهم ؛ حيث أهلكوها وأوقعوها في النار . و { ٱلسُّوۤأَىٰ } : اسم من أسماء النار : كالعسرى ، والهاوية ، ونحوهما ، واليسرى والحسنى اسمان من أسماء الجنة . وقوله : { أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } يذكر أهل مكة ويخوفهم أن ما حل بأولئك القرون الماضية من الإهلاك والاستئصال إنما كان بتكذيب الآيات والاستهزاء بها في هذه الدنيا ، فأنتم يأهل مكة إذا كذبتم الآيات والحجج واستهزأتم بها يصيبكم ما أصاب أولئك بالتكذيب . والآيات : يحتمل : حجج التوحيد وحجج الرسل في إثبات الرسالة أو آيات البعث . وقوله : { وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } يحتمل بالآيات التي ذكرنا ، أو ما أوعدهم الرسل من العذاب والإهلاك ، فاستهزءوا بذلك . وقوله : { ٱللَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } هذا في الظاهر دعوى ، لكنه قد بين فيما تقدم من الآيات ما يلزمهم الإعادة والإحياء من بعد الموت ؛ حيث قال : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ … } الآية . وفي قوله : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } وغيرها من الآيات ما يلزمهم الإعادة والإحياء من بعد الموت ؛ حيث قال : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ . … } الآية . وفي قوله : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } وغيرها من الآيات ما ألزمهم من الآيات أنه لو لم يكن له إعادة وبعث كان خلقهم عبثاً باطلا ، خارجاً عن الحكمة ، والقدرة في ابتداء الإنشاء ، إن لم تكن أكثر لا تكون دون الإعادة ، فمن ملك وقدر على الابتداء كان على الإعادة أقدر ؛ إذ إعادة الشيء عندكم أهون وأيسر من ابتداء إنشائه ، على ما ذكر في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] . وقوله : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ذكر الإعادة والإحياء بعد الموت والرجوع إليه ؛ لما ذكرنا أن المقصود في خلقهم في هذه الدنيا الإعادة والإحياء ؛ لذلك سمى الإعادة : الرجوع إليه والمصير والبروز له ، وإن كانوا في جميع الأحوال صائرين إليه ، راجعين ، بارزين له ، خارجين . وقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُبْلِسُ ٱلْمُجْرِمُونَ } قال بعضهم : الإبلاس : هو الإياس ؛ مبلسون : أي : يائسون في الآخرة عما كانوا يطمعون بعبادتهم تلك الأصنام والأوثان في هذه الدنيا ؛ حيث قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] وقالوا : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] ونحوه ؛ يقول : يائسون في الآخرة عما طمعوا بعبادتهم في الدنيا حين شهدوا عليهم ، وكفروا بهم ، وجعلوا يلعنون عليهم ، ويتبرءون منهم . وقال بعضهم : يائسون من كل خير . وقال بعضهم : الإبلاس : هو الفضيحة أي : يفتضحون بما عملوا . وقال بعضهم : المبلس : كل منقطع رجاؤه ساكت كالمتحير في أمره . وقال بعضهم : المبلس : كل آيس حزين . وقوله - تعالى - : { وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ } هو ما ذكرنا : أن الأصنام التي عبدوها وسموها : آلهة لا تشفع لهم { وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ } يحتمل هذا وجهين : أي : الأصنام بهم كافرون . أو هم يكفرون بالأصنام إذا لم يشفعوا لهم وصاروا شهداء عليهم . أو كل يكفر بصاحبه ؛ كقوله : { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [ العنكبوت : 25 ] ، والله أعلم . وقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } سمى الله - تعالى - ذلك اليوم : يوم الجمع بقوله : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ } [ التغابن : 9 ] وسمي : يوم الافتراق ، فهو يوم الجمع في أوّل ما يبعثون ويحشرون ، ثم يفرق بينهم تفريقاً لا اجتماع بينهم أبداً ؛ كقوله : { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } [ الشورى : 7 ] فهو يوم الجمع في حال ووقت ، ويوم الافتراق في حال ووقت آخر ، وبعض أهل التأويل يقولون : قوله : { يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } العابد والمعبود ، والتابع والمتبوع ، بعدما كانوا مجتمعين في الدنيا ، وهو ما ذكر في آية أخرى : { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ … } الآية [ العنكبوت : 25 ] ؛ فهذا تفرقهم على قول بعضهم ، والوجه فيه ما ذكرنا بدءاً ، والله أعلم . وقوله : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } : آمنوا بكل ما أمروا أن يؤمنوا به ، وعملوا بكل ما أمروا أن يعملوا { فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } والروضة كأنها اسم من أسماء الجنان . وقوله : { يُحْبَرُونَ } . قال بعضهم : يكرمون . وقال بعضهم : يحبرون : يسرون ، والحبرة : السرور ، ومنه يقال : " كل حبرة يتبعها عبرة " . والزجاج يقول : يحبرون : يتنعمون ، والحبرة : النعمة الحسنة ، والله أعلم بذلك . وقوله : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : جحدوا توحيد الله وأنكروه { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } يحتمل : { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } : آيات التوحيد ، وآيات الرسالة ، وآيات البعث { فَأُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } أي : يحضر الأتباع والمتبوع جميعاً في النار ويجمع بينهم ، كقوله : { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ … } الآية [ الصافات : 22 ] ، وقوله : { فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } [ الزخرف : 38 ] و { وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [ الزخرف : 39 ] .