Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 15-22)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً } . يخرج قوله : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ } ، أي : يحقق الإيمان بالله وبآياته { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً } لله حقيقة . ثم يحتمل { خَرُّواْ سُجَّداً } حقيقة السجود عند تلاوة الآيات التي فيها ذكر السجود . والثاني : يكون ذكر خرور الوجه والسجود كناية عن الخضوع لها ، والانقياد والاستسلام والقبول لها ؛ فأحدهما على حقيقة السجود عند تذكير الآيات لهم والتلاوة عليهم ، والثاني : على الكناية على القبول لها والاستسلام ، وإلا ليس من ذي مذهب من أهل الكفر من عبدة الأصنام وغيرهم إلا وهو يدعي الإيمان بالله وبآياته ، ويزعم أن الذي هو عليه هو الإيمان به والمؤتمر بأمره ؛ ألا ترى أنه كيف أخبر عنهم ؛ حيث قال : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] : كانوا يدعون في جميع ما يعملون أن الله - تعالى - أمرهم بذلك ، وأنهم مؤمنون به مؤتمرون بأمره ؛ فأخبر أنه إنما يحقق الإيمان بالله وبالآيات الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا لا أولئك الذين يدعون ذلك وليسوا هم كذلك . وقوله : { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } . التسبيح : هو تنزيه الربّ وتبرئة له عن جميع ما قالت الملاحدة فيه ونسبوه إليه ، مما لا يليق به . يقول : { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } ، أي : ذكروه بمحاسنه ومحامده وبرءوه ونزهوه عن جميع ما وصفه أولئك ونسبوه إليه ، هذا - والله أعلم - هو التسبيح بحمده . وقوله : { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } . لا أحد يخطر بباله أن يستكبر على الله أو على أمره ، ولكن كانوا يستكبرون على رسله ؛ لما لا يرونهم أهلا لذلك ، أو أن يكونوا يستكبرون على ما يدعون إليه ولا يجيبون لذلك . وقوله : { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } . روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنها نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن اختلفت عنه الروايات : ذكر في بعضها : أنها نزلت في نفر من عمال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعملون بالنهار ، فإذا جن عليهم الليل اضطجعوا بين المغرب والعشاء ، فناموا ؛ فلما نزل هذا اجتنبوا عن ذلك . وذكر عنه : أنهم كانوا يصلون بين المغرب والعشاء ؛ فنزلت الآية فيهم . فإن كان هذا فنزول الآية لذلك يخرج مخرج المدح لهم والثناء الحسن . وإن كان الأول فهو على النهي والتوبيخ لذلك . ثم اختلف أهل التأويل في تأويلها : قال بعضهم : هو التيقظ والصلاة فيما بين المغرب والعشاء الآخرة . ومنهم من يقول : هو التجافي عن المضاجع لصلاة العشاء والفجر يصليهما . ومنهم من يقول : تتجافى جنوبهم بذكر الله : كلما استيقظوا ذكروا الله : إما صلاة ، وإما قياما ، وإما قعوداً ، لا يزالون يذكرون الله . ومنهم من يقول : { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } : قيام الليل والصلاة فيه ، وهذا أشبه التأويلات ؛ لأنه قال : { عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } ، والتجافي عن المضاجع إنما يكون في الوقت الذي يضطجع فيه ، وفيه يقع الامتداح والثناء الحسن ؛ لأنه وقت الغفلة والنوم فيه ، وأمّا سائر الأوقات فليس كذلك ، والله أعلم . وقوله : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } . يحتمل قوله : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } ، أي : يعبدون ربهم ، ويحتمل حقيقة الدعاء . ثم قوله : { خَوْفاً وَطَمَعاً } ، قال بعضهم : خوفاً من عذاب الله ، وطمعاً في رحمته . أو أن يكون قوله : { خَوْفاً } ، أي : يخافون التقصير في العبادة ، { وَطَمَعاً } ، أي : يطمعون إحسانه ، وإحسانه في العفو والتجاوز ، وهكذا عمل المؤمن من بين الخوف والطمع يخاف التقصير فيه ، ويطمع إحسانه . روى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال ربكم - عز وجل - : وعزتي وجلالي ، لا أجمع على عبدي خوفين ، ولا أجمع أمنين فإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة " ، ثم قرأ قوله : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً … } الآية . وقوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } . يحتمل الزكاة المفروضة . ويحتمل ينفقون صدقة التطوع . وجائز أن يكون قوله : ومما رزقناهم من الأسباب السليمة ينفقون ، أي : يعملون ، والله أعلم . وقوله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } . ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال ربكم : أعددت لعبادي الصالحين : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " هذا علم النفس أنها لا تعلم إلا مثال ما أحست وعاينت وشاهدت ، فأما العقل فإنه جائز أن يعلم ويخطر ما لم ير ويحس ولم ير له مثالا ، والله أعلم . وعلى قول المعتزلة : يدعون ربهم أمنا وإياسا لا على الخوف والطمع على ما ذكر ؛ لأنهم لا يخلو إما أن يكونوا أصحاب الصغائر ، أو أصحاب الكبائر ؛ فإن كانوا أصحاب الصغائر فهم آمنون على قولهم ؛ لأنه لا يسع له أن يعذب على الصغيرة على قولهم ، أو أصحاب الكبائر فهم آيسون من رحمته ؛ إذ لا يسع [ له ] أن يغفر [ الكبائر ] على قولهم ؛ فقولهم مخالف لظاهر الآية . قال أبو عوسجة : { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ } ، أي : لا يضعونها بالأرض ؛ يقال : تجافى جنبي : إذا لم يضطجع لم ينم ، وجافيت جنبي ، أي : لم ألزقه بالأرض . وقال القتبي : { تَتَجَافَىٰ } ، أي : ترتفع عن الأرض . ونزلا من النزل ، والنزل : ما يجعل للرجل يأكله وينفقه . وقوله : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } . إن أهل التأويل يقولون : نزلت الآية في شأن علي بن أبي طالب ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط : كان بينه وبين علي - رضي الله عنه - كلام وتنازع ، حتى قال له علي : إنك فاسق وأنا مؤمن ، فنزلت الآية فيهم ، لكن الآية في جميع المؤمنين والفاسقين ، يخبر أنْ ليس بينهم استواء . ثم جائز أن يكون ذكر هذا ونزل ؛ لقولٍ كان من أولئك الكفرة الفسقة للمؤمنين : إن منزلتنا ومنزلتكم وقدرنا في الآخرة عند الله - سواء ؛ فنزلت الآية لذلك أنهما ليسا بسواء ؛ فبيَّن منزلة المؤمن عند الله وقدره ، وما ذكر من الثواب له والكرامة ، ومنزلة الفاسق ما ذكر من الخلود في النار أبداً ، كقوله : { الۤـمۤ * أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ } [ العنكبوت : 1 - 2 ] ، وكقوله : { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ … } الآية [ الجاثية : 21 ] . أو يذكر ذلك على الابتداء : إنكم تعرفون في عقولكم أنْ ليس المؤمن المصدق في الشاهد في المنزلة والقدر عنده كالخارج عن أمره وكالمكذب له ، فكيف تطمعون الاستواء عند الله وأنتم الفسقة الخارجون عن أمر الله ، وأولئك هم الصادقون له ؟ ! والله أعلم بذلك . ثم الخوارج والمعتزلة يقولون : لو كان الفاسق مؤمناً على ما تقولون لم يكن لما ذكر معنىً ؛ فدل أن الفاسق لا يكون مؤمناً ؛ حيث ذكر أنهما لا يستويان وأن المؤمن مأواه في الجنة والخلود له فيها ، والفاسق مقامه في النار ، خالدين فيها على ما ذكر ، فلو كان على ما تقولون لكانا يستويان ، أو كلام نحو هذا . فيقال لهم : إنا وأنتم نتفق أن هذا الفاسق المذكور في الآية ليس بمؤمن ، وأنه لا يستوي [ هو و ] المؤمن ؛ لأنه ذكر الفسق مقابل الإيمان ، دليله آخر الآية ؛ حيث قال : { ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } ذكر التكذيب ، والتكذيب هو مقابل الإيمان والتصديق ، وكل فسق كان مذكوراً مقابل الإيمان فهو كفر وتكذيب ؛ فهو لا يكون مؤمناً ، ولكن هاتوا فاسقاً ذكر لا مقابل الإيمان ، ولكن مقابل غيره من العصيان والمساوي ، ويكون له هذا الوعيد الذي ذكر في هذا ؛ ألا يُرى أن السؤال المذكور مقابل الإيمان كفر ، كقوله : { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْـمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَلاَ ٱلْمُسِيۤءُ } [ غافر : 58 ] ؟ ! فعلى ذلك الفسق المذكور مقابل الإيمان كفر لا يقع فيه استواء بحال ، وأما الفسق المذكور لا مقابل الإيمان فجائز أن يقع فيهما استواء ، وهو أن يغفر له ذنبه ويكفر عنه سيئته ، ويدخل الجنة ؛ حيث قال : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، وقال في آية أخرى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً … } [ النساء : 31 ] ، وقال في آية أخرى : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } الآية [ الأحقاف : 16 ] . هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء تجاوز عنه ، وأصحاب الحديث يقولون : إن جميع الطاعات إيمان بهذه الآية ؛ لأنه قال : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } ، ثم فسر ذلك المؤمن فقال : { أَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ } وعد لهم الجنات بالإيمان وعمل الصالحات ، فيقال : إن الوعد المطلق هو لمن آمن وعمل الصالحات ، فأما من آمن ولم يعمل من الصالحات شيئاً ، لا نقول بأن له ذلك الوعد المطلق ، ولكن له الوعد الذي ذكرنا . وفي الآية دلالة أَنْ قد يعمل المؤمن غير الصالحات وهو مؤمن ؛ لأنه لو لم يكن منه غير عمل الصالحات لم يكن لشرط العمل الصالح له معنى ، دل أنه يكون من المؤمن غير العمل الصالح ، وذلك على المعتزلة والخوارج . { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ } ، اختلف في العذاب الأدنى : قال بعضهم : هو القتل يوم بدر . ومنهم من يقول : هو الجوع في السنين التي كانت لهم فيها ، والضيق والشدة . ومنهم من يقول : هو المصائب التي تصيبهم . وأمثال ذلك كثير ، لكن ذلك العذاب ليس هو عذاب الكفر ؛ لأن عذاب الكفر يكون في الآخرة أبداً دائماً لا زوال ولا انقطاع ، فأما عذاب الدنيا لهم عذاب عنادهم وما يكون منهم من الجنايات في حال كفرهم يعذبون في الدنيا ؛ ليذكرهم ذلك العذاب في الآخرة العذاب الدائم ليمنعهم عما به يعذبون في الدنيا عن عذاب الآخرة ، وكذلك ما أعطى لهم من اللذات والنعيم في الدنيا - وإن كان منقطعاً - ليذكرهم ذلك النعيم وتلك اللذاتُ لذاتِ الآخرة ونعمها الدائمة ؛ ولذلك رغب الله خلقه إلى طلب الآخرة ، وأخبر أن لهم فيها من اللذات كذا في غير آي من القرآن ؛ حيث قال : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ … } الآية [ الزخرف : 71 ] ، ونحوه كثير . والعذاب الأكبر هو عذاب الآخرة ، وهو عذاب الكفر والتكذيب . وقوله : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لكي يلزمهم حجة الرجوع عما هم فيه من التكذيب ؛ لئلا يقولوا : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 172 ] والله أعلم . وقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } ، وقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ } أي : [ هل ] أحد أظلم ممن ذكر { بِآيَاتِ رَبِّهِ } ووقع له المعرفة والعلم أنها آيات ربه ، { ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } بعدما عرفها ، وعلم بها - ليس أحد أظلم من ذلك . التذكير بآياته : ما ذكرنا أنهم يذكرون لتقع لهم بأنها آياته ، ثم يحتمل آيات وحدانيته وآيات الرسالة ، أو آيات البعث ، أو آيات القرآن ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } جرمهم هاهنا جرم كفر ، ينتقم منهم انتقام الكفر والتكذيب .