Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 1-9)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { الۤـمۤ } . قد ذكرنا تأويله في صدر الكتاب . وقوله : { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ } . الكتاب المطلق : كتاب الله ، والدين المطلق : دين الله ، والسبيل المطلق والطريق المطلق : سبيل الله وطريقه . وقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } . أنه منزل من الله ؛ لأنه أنزل على أيدي الأمناء البررة : لم يغيروه ولا بدلوه ولا حرفوه . أو يقول : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أنه ليس بمخترق ولا مخترع ولا مفتري من عند الرسول ؛ بل منزل من عند رب العالمين . أو { لاَ رَيْبَ فِيهِ } : لا شك ؛ على ما يقول الناس لكل محكم من الأمر مبين ، والله أعلم . { مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } . العالم : هو اسم جنس من الخلق وجوهر منه ، و { ٱلْعَالَمِينَ } : جمعه ؛ فيدخل في ذلك الأولون والآخرون الذين يكونون إلى آخر ما يكونون ؛ ففيه أنه يوصف - جل وعلا - أنه رب لكل ما كان ويكون ، ومالك ما كان وما يكون ؛ كقوله : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] : أخبر أنه مالكه ، وهو بعد ما لم يكن ، أعني : ذلك اليوم . وقوله : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } . قوله : { أَمْ يَقُولُونَ } هو استفهام وشك في الظاهر ، لكنه من الله يخرج على تحقيق إلزام وإيجاب أو تحقيق نفي ، على ما لو كان ذلك من مستفهم ومسترشد : كيف يجاب له ويقال فيه ؟ فإنما يقال للمستفهم : لا أو بلى ؛ فعلى ذلك هو من الله على تحقيق إثبات وإيجاب ، أو تحقيق نفي ؛ إذ لا يحتمل الاستفهام والسؤال ؛ كقوله : { أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ } [ النجم : 24 ] ؛ كأنه قال : ليس للإنسان ما تمنى ؛ فعلى ذلك كأنه قال - هاهنا - : بل يقولون : { ٱفْتَرَاهُ } ، ثم رد ما قالوا : إنه افتراه ؛ فقال : { بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } . يحتمل قوله : { هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } : ليس بمخترع ولا مخترق ولا مفتري من محمد ؛ بل منزل من عند الله ، على ما ذكرنا في قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } . أو هو الحق من ربك ، ليس بكلام البشر ولا في وسعهم إتيان مثله ؛ فهو الحق منه { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ … } الآية [ فصلت : 42 ] . وقوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً } . أي : لتنذر بالكتاب الذي أنزل قوماً . { مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } . هذا يحتمل وجهين : أحدهما : على الجحد ، أي : لتنذر قوماً لم يأتهم نذير ، وهم أهل الفترة الذين كانوا بين عيسى ومحمد ، عليهما الصلاة والسلام . والثاني : لتنذر قوماً : الذين قد أتاهم من نذير من قبلك ، وهم آباؤهم وأجدادهم الذين كانوا من قبله ، الذين قد أتاهم نذير من قبله ، والله أعلم . وقوله : { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } . هذا - أيضاً - يحتمل وجهين : أحدهما : لتنذر قوماً ؛ لكي تلزمهم به حجة الاهتداء . والثاني : لتنذر قوماً ؛ على رجاء وطمع أن يهتدوا ، والله أعلم . وقوله : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } . هذا - أيضاً - قد ذكرناه فيما تقدم . وقوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } . وفي هذا - أيضاً - قد ذكرنا فيما تقدم تأويلات كثيرة ، لكنا نذكر فيه حرفاً لم نذكره فيما تقدم من الذكر ؛ وكأنه أصوب وأقرب إلى الحق ، وهو أن ذلك حرف وكلام لم يجعل الله - تعالى - في العقول والأفهام سبيل الدرك له والمعرفة - أعني : لقوله { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } - لأنه ذكر ذلك الحرف في موضع آخر ، وأمره أن يسأل به خبيراً ؛ حيث قال : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] ، ولو كان ذلك الحرف مما لعقول البشر وأفهامهم سبيل الوصول إلى معرفته ودركه لأدركه عقل رسول رب العالمين وفهمه من غير أن يسأل به الخبير من كان : الله أو جبريل ، فإذا أمره بالسؤال عنه دل أنه بالعقل والفهم لا يدرك ولا يعرف ؛ ولكن بالسمع عن الله . ولم يذكر عن الرسول أنه فسر ذلك أو قال فيه أو سأله أحد عنه ، والله أعلم . وقوله : { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ } . يقول أهل التأويل : ما لكم من دونه من ولي ينفعكم في الآخرة ، ولا شفيع يدفع عنكم عذابه . أو أن يكون قوله : { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ } ، أي : رب وإله يلي أمركم سواه ، { وَلاَ شَفِيعٍ } : لا هو ولا غيره ، وأما للمؤمنين فإنه وليهم ؛ كقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ } [ محمد : 11 ] . وقوله : { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } . فيما ذكر من صنعه ؛ فتوحدونه ، والله أعلم . وقوله : { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ } . قال أهل التأويل : { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } ، أي : هو يقضي القضاء وحده من السماء والأرض . وعندنا أنه يخرج على وجهين : أحدهما : { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } ، أي : هو يكون الأمر ويدبره . أو هو يجعل الخلق بحيث يقبلون الأمر والنهي ويحتملون المحنة . أو هو يخرج الأمر كله على الحكمة والتدبير . والثاني : { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } ، أي : يولي من يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ؛ نحو ما ولى ملك الموت قبض أرواح الخلق ، ونحو ما ولى بعض ملائكته أمر الأمطار والنبات وغير ذلك ؛ فجائز أن يكون الأول يولي ملائكته أمر ما بين السماء والأرض . فإن كان الأول فليس ذكر السماء والأرض حدّاً ولا تقديراً ؛ يدبر ما سوى ذلك ، لكن ذكر هذا ؛ لما إلى ذلك ينتهي تدبير البشر وعلمهم ، وأما ما سوى ذلك فلا . وإن كان الثاني فهو على التحديد ، والله أعلم . وقوله : { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ } . قال بعض أهل التأويل : { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } ، يقول : يصعد الملك إليه في يوم واحد من أيام الدنيا ، كان مقدار ذلك اليوم ، { أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } ، أنتم ؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام ؛ فينزل مسيرة خمسمائة عام ، ويصعد خمسمائة عام ، وذلك مقدار مسيرة ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا . وذكر في موضع آخر : { خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] ؛ فجائز أن يكون ذلك وصف يوم القيامة ؛ فيخرج ذلك لا على التحديد والتقدير ؛ ولكن على التعظيم لذلك اليوم ، والوصف له بما يعظم في قلوب الخلق ، وهو ما وصفه بالعظمة ؛ كقوله : { لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } [ المطففين : 5 ] . أو أن يكون التحديدان والتقديران كانا حقيقة ؛ لاختلاف أحواله وأوقاته ، على اختلاف الأمور ، يكون ألف سنة [ كما ] ذكر [ في ] حال ووقت لأمر ، وخمسين ألف سنة بحال أخرى لأمور أخر ؛ على ما سمى ذلك اليوم مرة : يوم الجمع ، ومرة : يوم التفريق ، ويوم الفصل ، ويوم الحساب ، ويوم البعث ، ونحوه ، ومعلوم أن ذلك اليوم من أوله إلى آخره ليس بيوم الجمع ، ولا بيوم الافتراق ، ولا يوم الحساب ولا يوم البعث ؛ ولكن [ سماه ] بجميع ذلك كله ؛ لاختلاف الأحوال والأوقات لأمور مختلفة ؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون الأول كذلك ، والله أعلم . ويكون قوله : { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } ، أي : يصير إليه ذلك ؛ كقوله : { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [ المائدة : 18 ] ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 245 ] ، { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ } [ هود : 123 ] ، ونحوه . [ وقوله : { يَعْرُجُ إِلَيْهِ } ، أي : يصعد في قول القتبي وأبي عوسجة ، ويعرج : أي : احتبس ] . وقوله : { ذٰلِكَ } . أي : هذا الذي صنع ما ذكر من هذه الأشياء . { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } . يحتمل هذا وجوهاً : عالم ما غاب عن الخلق والشهادة : وعالم ما يشهدون ويعلنون . أو عالم ما يكون ويحدث ، والشهادة : ما قد كان ومضى . أو عالم ما يغيب بعض من بعض ، والشهادة ما يشهدون ويظهرون . أو عالم ما يغيب عن الخلق كيفية لمنافع الأشياء الظاهرة وماهيتها ، نحو ما غاب عنهم المعنى المضر المودع في الطعام والشراب والأغذية جميعاً ، الذي به حياة أنفسهم وقوامهم ، وكذلك السمع والبصر والفهم والعقل : لا يدرك المعنى الذي به يسمع ويبصر ويفهم ويدرك وما به تحيا أنفسهم به ، والله أعلم . وقوله : { ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } . العزيز في هذا الموضع : المنتقم من أعدائه ، الرحيم على أوليائه . أو العزيز : الذي لا يعجزه شيء ، الرحيم : الذي له رحمة يسع الخلائق في رحمته . أو العزيز : الذي به يعز من عز ، والرحيم : الذي برحمته يرحم من يرحم . ومنهم من يقول في قوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } ، وقوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] قال : من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره فوق السماوات ، مقدار ذلك خمسون ألف سنة ، ويوم كان مقداره ألف سنة : ذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد ، فذلك مقداره ألف سنة . لكن قوله : من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى أمره فوق السماوات كذا - فاسد ؛ لأنه لا يجوز أن يكون لأمره أو لملكه نهاية أو حد ، والوجه فيه ما ذكرنا . وقوله : { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } . بالجزم والتحريك جميعاً ، كلاهما لغتان . ثم يحتمل قوله : { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ } أي : علم كل شيء خلقه : أن كيف يخلق من غير أن يعلمه أحد أو أعانه عليه أحد . وفي الشاهد لا يقدر أحد ، ولا يمكن له صنع شيء إلا بمعلم يعلمه ذلك أو بمعين يعين على ذلك ، يخبر عن جهلهم وسفههم بتقديرهم قدرة الله وقوته بقوى أنفسهم وقدرتهم في إنكارهم البعث ؛ لخروجه عن تقدير الخلق وامتناعه عن وسعهم ، يقول : لا تقدروا قدرة الله بقدرة أنفسكم وقواكم ، كما لم تقدروا علمه بعلمكم ؛ إذ يعلم هو بذاته بلا معلم ، وأنتم لا تعلمون إلا بعلم ؛ فعلى ذلك هو قادر بذاته لا يعجزه شيء وأنتم لا تقدرون إلا بغير أو سبب . ويحتمل هذا الوجه وجهاً آخر ، وهو أن قوله : { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } ، أي : أعلم كل شيء من خلقه : ما به مصالحهم وفسادهم ، وما يؤتى وما يتقى . والثاني : { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } ، أي : أحكم كل شيء خلقه وأتقنه . ثم يخرج هذا على وجهين : أحدهما : أتقن وأحكم فيما به من المصالح والمعاني ، وفي كل شيء من التسوية والتفرد وفي الجمع والتصوير . والثاني : أحسن ، أي : أتقن وأحكم كل شيء خلقه في الشهادة على وحدانية الله وألوهيته ، أي : جعل في كل أثر وحدانيته يشهد على وحدانيته وربوبيته . وقال بعضهم : { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } لم يخلق الإنسان في خلق البهائم وصورتها ولا البهائم في خلق الإنسان . وقتادة يقول : كل شيء من خلقه حسن على ما خلق وعلم كيف يخلقه ، وهو قريب مما ذكرنا بدءاً . ثم من قرأه : { خَلَقَهُ } : بالجزم يكون معناه - والله أعلم - أي : أحسن خلق كل شيء ومن قرأه : { خَلَقَهُ } بالتحريك ، أي : أحسن كل شيء منه وخلقه . ثم للمعتزلة في هذه الآية أدنى تعلق يقولون : أخبر أنه أحسن كل شيء خلقه ، والكفر وشتم رب العالمين ونحوه - كله قبيح وسفه ؛ دل أنه لم يخلقه ، وأنه ليس بخالق لذلك . يقال لهم : إخوانكم الزنادقة يعارضونكم ويقولون : إن الخنزير والنجاسات ، وجميع السباع الضارة والمؤذية ، وجميع الخبائث كلها قبيحة ، الله ليس بخالق لها ؛ فبم تدعون قولهم وسؤالهم في ذلك ؟ فإن زعمتم في الأول في الكفر والشتم وجميع فعل الشرور : أنه ليس بخلق له ؛ لأنه قبيح ضارّ مؤذ - يلزمكم مذهب الزنادقة فيما يقولون ويذكرون في إثبات خالق سواه ؛ لأنه قبيح ضار مؤذ . ويقال لهم : إن الله - جل وعلا - سمى إبليس : باطلا ؛ فهو إذن لم يخلقه ؛ لأنه أخبر أنه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا . ثم يقال لهم : إنا نقول : إنه خلق فعل الكفر من الكفرة قبيحاً ، وخلق فعل الكفر والشتم من الشرير والشاتم قبيحاً ، خلق فعل الشر على ما هو وعلى ما عرفه ؛ فلا عيب يلحقه في جعل ما هو قبيح قبيحاً ؛ كمن يعلم الكفر ليعلمه قبيحاً على ما هو ، وكذلك جميع الشرور ؛ فعلى ذلك ليس في خلق ما هو قبيح في نفسه قبيحاً - عيب ؛ على ما لم يكن في تكلف معرفة القبيح ليعرفه قبيحاً على ما هو حقيقة - عيب ، هذا إذا كان التأويل على ما يذهبون هم إليه . فأما إذا كان ما ذكرنا في قوله : { أَحْسَنَ } ، أي : علم أو أعلم ، فليس يدخل في ذلك شيء مما ذكروا ، والله أعلم . وقوله : { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } . قال عامتهم : يعني : آدم . وقوله : { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ } . أي : نسل آدم . [ { نَسْلَهُ } : أي : ولده . وقال : السلالة : الخالص من كل شيء ] . { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } . أي : آدم . وقال بعضهم : لا ؛ ولكن ذلك نعت ولده وذريته ؛ لأن الأعجوبة في خلق ولده في الأرحام في ثلاث ظلمات من النطفة إن لم تكن أكثر من خلق آدم من طين لا تكون أقل ؛ لأن صنع الأشياء الظاهرة البادية وتسويتها في الشاهد أيسر وأدون من صنعها وتسويتها إذا كانت غائبة مستكنة . وظاهره : أن يكون قوله : { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } : آدم ، { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } : ذريته ؛ لأن النسل هو الولد والذرية . وقوله : { مِن سُلاَلَةٍ } : قال بعضهم : السلالة : هو الصفوة من الماء ، والخالص من كل شيء . وقال بعضهم : السلالة : هي من السل : سل السيف ، أي : أخرجه ونزعه ؛ فعلى ذلك قوله : { مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ } ، أي : استخرج من الظهر وسل منه ونزع . والمهين : هو الضعيف ؛ يقال منه : مهن يمهن مهانة ، فهو مهين ، وهو قول أبي عوسجة والقتبي . وقوله : { ثُمَّ سَوَّاهُ } . أي : جمعه وقومه وركب بعضه ببعض . { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } . وهو من الريح ، وبالنفخ يتفرق في الجسد ؛ لذلك ذكر ، والله أعلم . وقوله : { ثُمَّ سَوَّاهُ } يحتمل ما ذكرنا من تركيب الجوارح والأعضاء . أو سواه وجعله بحيث يحتمل المحنة والأمر والنهي . { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } ، أي : جعل فيه الروح ، وذكر النفخ لما ذكرنا على تحقيق النفخ فيه ، والله أعلم . وقوله : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ } . ذكر - جل وعلا - جميع ما يوصل إلى العلوم الغائبة والحاضرة جميعاً ، ويدرك ويوجد السبيل إليها وهو السمع والبصر والقلب في الإنسان ؛ لأنه بالسمع يوصل إلى ما غاب عنهم من العلم : يسمعون ما عند غيرهم ، وكذلك بالبصر يرى ويبصر ما عند غيره ، وبالقلب يفهم ويحفظ ويميز بين ما يؤتى ويتقى ، يبين أنه قد أعطاهم ما به يدركون ويصلون إلى ما غاب عنهم ويفهمون ويميزون ، وهو ما ذكر من الحواس . ثم قال : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } . قال أهل التأويل قوله : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } ، أي : لا تشكرون قط ؛ لأنهم يقولون : إنما خاطب به أهل مكة . أو أن يقال : إنهم يشكرون قليلا ، لكنهم يفسدون وينقضون ما يشكرون بكفرانهم من بعد . وأما أهل الإسلام وإن كان شكرهم لما ذكر من هذه الحواس قليلا فإنهم قد اعتقدوا - في أصل العقد - الشكر له في جميع نعمه ، والكافر اعتقد الكفران له ؛ وإلا يجئ أن يكون قوله : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } للمؤمنين ولهم يقال ذلك لا للكفرة ، والله أعلم .