Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 15-21)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } . يحتمل الآية التي ذكر لهم في مساكنهم : الجنتين اللتين ذكرهما : إحداهما عن اليمين ، والأخرى عن الشمال ، ويكون لهم فيها عبرة ، فتحملهم على الشكر لربهم عليهما ؛ والحمد له ، والثناء عليه في تلك النعم . أو يذكرهم قدرة خالقهم وسلطانه وهيبته ؛ فيحملهم ذلك على الخوف في العواقب ، والعقاب على خلافه ، ورجاء الثواب على طاعته ، فلم يتذكروا . أو أن يكون الآية التي ذكر لهم في تبديل الجنتين اللتين كان لهم فيهما كل سعة وخصب ، وكل ألوان الفواكه والجواهر ، على غير مؤنة تلحقهم ؛ لأنه قال في غير آي من القرآن : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } [ الأنعام : 11 ] فأخبر هاهنا لهم أن لهم في تبديل جنتيهم جنتين آية لو اعتبروا واتعظوا ؛ فلا يقع لهم الحاجة إلى النظر في آثار من تقدم منهم ، بل العبرة في ذلك لهم أكثر ؛ لأنهم عاينوا هذا على ما عاينوا من أنواع النعم ، ثم غير ذلك وبدّل عليهم ، وما تقدم منهم إنما يعرفون ذلك عن خبر يبلغهم ؛ لأن أصلهم قد هلكوا ، وهذا على المشاهدة والمعاينة . وقوله : { عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } . قيل : عن يمين الوادي وشماله ، ويحتمل : عن يمين الطريق وشماله ؛ فتكون عن يمينهم وشمالهم . وقوله : { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ } . كأنه قالت لهم الرسل : { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ } ؛ إذ ذكر أنه بعث فيهم كذا كذا رسولا . ثم وصف بلدة سبأ أنها طيبة ؛ حيث قال : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } : يحتمل ما ذكر من طيبها : هو سعتها وكثرة ريعها ومياهها وألوان ثمارها وفواكهها . وقوله : { وَرَبٌّ غَفُورٌ } ، أي : إن ربكم إن شكرتم فيما رزقكم وأنعم عليكم رب غفور لذنوبكم . أو يقال : { وَرَبٌّ غَفُورٌ } ، أي : ستور ، يستر عليكم ذنوبكم ، ولا يفضحكم إذا صدقتموه ، وأطعتموه ، وشكرتم نعمه . ذكر أن المرأة منهم كانت تحمل المكتل على رأسها ، والمغزل بيدها ، فتدخل البستان ؛ فتمتلئ مكتلها من ألوان الفواكه والثمار من غير أن تمس شيئاً بيدها ؛ لكثرة ريعها ونزلها ، والله أعلم . ثم ذكر سبب تبديل الجنتين اللتين كانت لهم ، وبم كان التبديل ؟ وهو ما قال : { فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ } . قال بعضهم : كان أهل سبأ إذا مطروا يأتيهم السيل من مسيرة شهر أياماً كثيرة ، فعمدوا فسدّوا العرم ، وهو الوادي ما بين الجنتين ، بالصخرة والقبو ، وجعلوا عليه الأبواب ، فلما عصوا ربهم ، فأعرضوا عنه ، وكفروا نعمه ؛ فسلط الله عليهم - على ذلك السدّ الذي بنوا الفأرة ؛ فنقبت الردم ، فغشي الماء أرضهم ؛ فعقر أشجارهم ، وأباد أنعامهم ، ودفن محاريثهم ، وذهب بجناتهم . ومنهم من يقول : { ٱلْعَرِمِ } : وهو المسنَّاة ، واحدها : عرمة ، فذهب السيل الذي أرسل عليهم بالمسناة ؛ فيبست جناتهم ، وأبدل لهم مكان الثمار والأعناب ما ذكر من الخمط والأثل والسدر ؛ حيث قال : { ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } . الأكل القليل هو الثمر ، والخمط : الأراك . وقال بعضهم : شجر العضاة ، وهي شجر ذات شوك ، والأثل ، قيل : هو شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه ، والسدر هو معروف عندهم . وقال أبو عوسجة قريباً من ذلك ، قال : الأكل : الحمل ، والخمط عندي : السدر وحمله ، [ و ] قال : الخمط : الريح الطيبة ، وتقول : هذا شجر له خمطة ، أي : ريح طيبة ، والخمط : أن تأخذ شيئاً من هنا وثمة ، وتخلطه ، والأثل : شجر أيضاً لا حمل فيه . والزجاج يقول : الأثل هو الثمرة التي فيها المرارة تذهب تلك المرارة بطعمها ، أو كلام نحوه . وقوله : { ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ } . أخبر أنه جزاهم بما كفروا نعمه ، ولم يشكروا ربهم عليها . وقوله : { وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } ، لله في نعمه . وقوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً } . قيل : متواصلة بعضها ببعض من أرضهم إلى الشام ، على كل ميل قرية وسوق وكل شيء فيها . { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } من الجوع والعطش والسباع وكل ما يخاف منه . ثم جائز أن يكون ما ذكر من القرى الظاهرة كان لهم مع الجنان التي ذكرنا بدءاً ؛ فيكون هذا موصولا بالأول ؛ فلما لم يشكروا ربهم في ذلك كله - أبدل لهم الكل بما ذكر . وجائز أن يكون لا على الصلة بالأول ؛ ولكن على ما ذكر بعض أهل التأويل : أنه لما غيّر عليهم ذلك وأبدل - ضاق بهم الأمر ؛ فمشوا إلى رسلهم ، فقالوا : ادعوا ربكم فليردّ علينا ما ذهب عنا ، ونعطيكم ميثاقا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً ، فدعوه ، فردّ الله عليهم ، وجعل لهم ما ذكر من قرى ظاهرة ؛ فذكّرهم الرسل [ ما ] وعدوا ربهم ؛ فأبوا ؛ فغيّر ذلك . وسبأ : " ذكر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن سبأ أجبل هو أم أرض ؟ قال : فقال : له : " لم يكن جبلا ولا أرضاً ، ولكن كان رجلا من العرب ولد عشر قبائل : فأمّا ست فتيامنوا وأما أربع فتشاءموا " . وقال بعضهم : كان سبأ رجلا اسمه : سبأ ، وسبأ هم الذين ذكرهم الله في سورة النمل . وقال بعضهم : هو اسم قرية . وفي قوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } - دلالة خلق الأفعال ؛ لأنه أخبر أنه جعل بينهم وبين القرى المباركة قرى ظاهرة ، والقرى : ما اتخذها أهلها ، ثم أخبر أنه جعل ذلك ، والجعل منه خلق ؛ دل أنه خلق أفعال العباد ، وأخبر - أيضاً - أنه قدر السير فيها ، والسير هو فعل العباد ، والتقدير هو الخلق أيضاً ؛ دل أنه خلق سيرهم ، وخلق اتخاذهم القرى ، وذلك على المعتزلة ؛ لإنكارهم خلق أفعال العباد . وقوله : { قُرًى ظَاهِرَةً } ، قال عامة أهل التأويل : قرى متواصلة بعضها ببعض ، يسيرون من قرية إلى قرية ، وينزلون فيها من غير أن تقع لهم الحاجة أو يلحقهم مؤنة . وجائز أن يكون قوله : { قُرًى ظَاهِرَةً } نعمها بينة . وقوله : { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } ، يحتمل قوله : { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } ، أي : قدرنا فيها السير ؛ لتسيروا فيها . أو على الأمر ، أي : قدرنا فيها السير ، وقلنا لهم : سيروا فيما أنعم الله عليكم ، وتقلبوا فيها ليالي وأياماً آمنين من الجوع والعدو وكل آفة . وقال بعضهم في قوله : { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } أي : جعلنا ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً . وقوله : { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } . فيه لغات من خمسة أوجه : أحدها : { رَبَّنَا بَاعِدْ } . و [ الثاني ] : { بَعِّدْ } ، كلاهما على الدعاء والسؤال . والثالث و [ الرابع ] : { بَعُدَ } و { بَعَّدَ } . قال أبو معاذ : ولولا تغيير الكتابة لكان يجوز " بُوعِدَ " . ومن قرأه { ربنا بَاعَدَ } على الخبر ، وكذلك { بَعَّدَ } ، ومن قرأه { بَعُدَ بين أسفارنا } يخرج على الشكاية عما بعد من أسفارهم . فأمّا على السؤال والدعاء فهو - والله أعلم - لأنهم سئموا وملوا ؛ لكثرة ما أنعم الله عليهم ؛ ورفع عنهم المؤن ، وطال مقامهم فيها ، سألوا ربهم أن يحول ذلك عنهم ؛ سفها منهم وجهلا ، وكان كقوم موسى : حين أنزل عليهم المن والسلوى ، ورفع عنهم المؤنة سئموا وملوا في ذلك ، وقالوا { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا } [ البقرة : 61 ] ، وما ذكروا ، فعلى ذلك هؤلاء . ومن قرأ { بَعُدَ بين أسفارنا } ؛ على الشكاية - شكا إلى ربّه لما ذهب عنهم السعة والخصب ، وأصابهم الجهد والمؤنة . وأمّا قوله : { بَاعَد } على الخبر ؛ فكأنه كانت فيهم ، وذلك كله منهم : [ فيهم ] من سأل تحويله ، وفيهم من شكا إذا زال ذلك وتحول ، وفيهم من أخبر بزواله . وعلى ذلك يخرج قول موسى لفرعون ، حيث قال : { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ } [ الإسراء : 102 ] لا أنه كان أحدهما ؛ فعلى ذلك الأول وما يشبه ذلك ، والله أعلم . وقوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } . أي : أهلكناهم كل إهلاك ؛ حتى صاروا عظة وعبرة لمن بعدهم . وقال : { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } للناس ؛ على حقيقة الحديث ، يتحدثون بأمرهم وشأنهم . { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } . أي : فرقناهم كل تفريق ، أي : في كل وجه التفريق ؛ حتى وقع بعضهم بمكة ، وبعضهم بالمدينة ، وبعضهم بالشام ، وبعضهم بالبحرين وعمان ، ونحوه والله أعلم . وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } . يحتمل أن يكون الصبار والشكور هو المؤمن ؛ كأنه قال : إن في ذلك لعبراً وعظات لكل مؤمن . أو آيات لكل صبار على طاعة الله وأمره ، شكور لنعمه . أو آيات لكل صبار على البلايا والمحارم ، شكور لنعم الله . ثم يخرج على وجهين : أحدهما : في الاعتقاد له . والثاني : في المعاملة . يعتقد الصبر لربه على جميع أوامره ونواهيه ، والشكر له على جميع نعمائه ، والمعاملة : أن يصبر على ذلك ، ويشكر له في نعمه . وقوله : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } . اختلف في ظنه : قال بعضهم : ظن بهم ظنا ، فوافق ظنه فيهم حين قال : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] من عصمت مني ، وما قال : { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ … } [ النساء : 118 - 119 ] إلى آخر ما ذكر ، فقد صدق ما ظن فيهم . وقال بعضهم : { صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } ، وذلك أن إبليس خلق من نار السموم ، وخلق آدم من طين ، ثم قال إبليس : إن النار ستغلب الطين ؛ فمن ثمة صدق ظنه ؛ فقال : { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 39 - 40 ] . يقول الله : { فَٱتَّبَعُوهُ } . ثم استثنى عباده المخلصين فقال : { إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } . يعني : عباده المخلصين ؛ فإنهم لم يتبعوه ، الذين قال : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] . وقال قائلون : { مِّنَ } هاهنا صلة ؛ كأنه قال : { فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ، الذين هم [ مؤمنون ] في الحقيقة ، فأمّا من كان عندكم من المؤمنين في الظاهر فقد اتبعوه ؛ لأنه لا كل مؤمن عندنا هو في الحقيقة مؤمن . أو أن يكون قوله : { فَٱتَّبَعُوهُ } فيما دعاهم إليه ، والله أعلم . وقوله : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ } . قال الحسن : والله ما ضربهم بالسيف ، ولا طعنهم بالرمح ، ولا أكرههم ، على شيء ، وما كان منه إلا غرور أو أمانيُّ ووسوسة دعاهم إليها ، فأجابوه . وقال بعضهم : قوله : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ } ، أي : حجة ، ليس له حجة عليهم ، أي : لم يمكن من الحجة ؛ ولكن إنما مكن لهم الوساوس والتمويهات ، ثم جعل الله للمؤمنين مقابل ذلك حججا يدفعون بها شبهه وتمويهاته . وقوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } . هذا يخرج على وجوه : أحدها : ليعلم كائنا ما قد علمه غائبا عنهم . والثالث : يكني بالعلم [ عن ] معلومه ، أي : ليكون المعلوم ، وذلك جائز في اللغة ؛ كقوله : { حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] أي : الموقن به ، وذلك كثير في القرآن . وقوله : { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ } . من الإيمان والشرك وغيره من الأعمال ، حفيظ عالم به .